توافق اليوم ذكرى رحيل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله: المفكر المؤثر، والمناضل الشجاع، والكاتب المتميز الأسلوب. وقد كانت بداية اهتمامي الحقيقي بالثقافة والمعرفة من خلاله، وتأثرت به إلى حد بعيد. ومنذ زمن تراودني رغبة في كتابة نقدية عن المسيري، لكن شروطها لم تكتمل بعد، ولذا أكتفي ببعض الملحوظات المتناثرة إلى حين. أولا: غلبت على المسيري النزعة النسقية، أي الرغبة في بناء تصور مكتمل ، ولذا فقد جمعت كتاباته أفكارا متناثرة من حقول معرفية مختلفة للوفاء بهذه الرغبة، ففي كتاباته شيء من الإبستمولوجيا، وشيء من علم الاجتماع، وشيء من علم اجتماع المعرفة، وشيء من اللسانيات، وبعض الميتافيزيقا، وهكذا ..! ويبدو أن هذا النزوع النسقي أثر من تجربته المعرفية الماركسية، لذا فالمسيري ليس مفكرا بالمعنى المألوف للكلمة، بل هو أقرب ما يكون إلى «مفكر الهوية» أو ربما «صانع الإيديولوجيا»..! ثانيا: يستتبع ما سبق، أن قوة تأثير أفكار المسيري تكون مضاعفة داخل نسقها، وتصل إلى درجة عالية من الهيمنة على التحليل، لكنها تضعف بشكل ملحوظ عند الخروج من النسق .. فالإيمان بنسق المسيري الكلي يبدو ضروريا لتصبح أفكاره المفردة مؤثرة وفاعلة. ثالثا: تبدو كثير من كتابات المسيري أقرب إلى رحلته مع المعرفة أكثر من كونها معرفة أنتجها شخصيا .. فمفهوم «أكثر أو أقل تفسيرية» هو في الواقع إنجاز إبستمولوجي حققته فلسفة العلوم حين تجاوزت ثنائية الذاتي-الموضوعي أو المثالي-التجريبي وتوصلت إلى مفهوم كارل بوبر للقابلية للدحض أساسا للكشف عن مدى علمية النظريات العلمية .. أي أن الفكرة ليست من إبداع المسيري وإن كان سك لها مصطلحا .. ويقال شيء شبيه عن نقد الحداثة عند المسيري الذي يتوسل بأدوات الماركسية ومدرسة فرانكفورت وفكر الاحتجاج الغربي. رابعا: في موضوع العلمانية، يكمن أحد أكبر إنجازات المسيري. إذ أنه قد بيّن أن العلمانية المزعوم أنها عملية إجرائية هي في الواقع رؤية فلسفية شاملة، كما تتبدى عند كثير من منظريها العرب. وقدم العلمانية بصفتها صيرورة وسلسلة متواليات، يمكن أن تلم بالمجتمعات وحتى الحركات الإسلامية! وبذا قدم مثالا مهما للغاية في تجاوز المعجمية في المصطلحات الإشكالية، وأزعم أنه أنتج وعيا لدى الجيل الجديد من الإسلاميين في القدرة على تجاوز السجالات الإيديولوجية المعممة إلى النقد المعرفي الأعمق للظواهر. خامسا: كتاب «اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود» أراه ذروة إنتاج المسيري وأعلى كتبه تجريدا، وفيه بلغت رؤيته مداها في التبلور. ومن يلم بالكتاب جيدا سيحيط بفكرة «النموذج» وهو المفهوم المحوري في بنية المسيري، وسيلاحظ كذلك أن الرؤى التجريدية قوية جدا ومقنعة وتحقق لذة فلسفية حين توصف في حالتها النموذجية النظرية القصوى، لكن عند العودة إلى الإنسان والتاريخ فإن تركيبية التجربة البشرية وتداخل النماذج يضعف كثيرا القدرة على استخدامها للتحليل والتوصيف واتخاذ المواقف الأخلاقية. سادسا: تلعب شخصية المسيري دورا كبيرا في شهرته واتساع قاعدة قرائه وتأثيره، فهو ذلك الماركسي الذي قضى ثلاثين سنة «ماديا ملحدا»، وأوغل في الحضارة الغربية دارسا للنقد الأدبي الحديث ومطلعا من الداخل— معايشة وثقافة—على الغرب، وعاد بعد هذه الرحلة مؤمنا متحمسا متحدثا عن عدمية النموذج المعرفي الغربي ومعاداته للإنسان وموجها ضربات كبيرة للعلمانية العربية. وهو أيضا المؤمن الذي يتحدث عن الموسيقى الحديثة والفن التشكيلي والسينما، أي إنه إسلامي من خارج الأطر الفكرية والتنظيمية المألوفة، وبالتالي فقوته النظرية وانفتاحه العملي مزيج مبهر للإسلاميين، والشباب منهم خاصة .. والله أعلم.