قد أكون أنا علي خطأ وقد تكون أنت علي صواب وببذل الجهد قد نقترب أكثر من الحقيقة.. تلك المقولة تلخص بشكل مجمل مضمون الخطاب العقلاني النقدي الذي دشنه الفيلسوف الشهير كارل بوبر, النمساوي الأصل, ألماني الثقافة(1902 1994). والذي يعد بحق واحدا من أهم وأبرز فلاسفة العلم في القرن العشرين. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أن نقد القوالب الفكرية المغلقة كان هو المحور الأساسي في مشروعه الفلسفي الذي عبر عنه في عدة كتب مهمة كان أخرها الكتاب الذي بين أيدينا الآن بعنوان( أسطورة الإطار) الذي ترجمته إلي العربية الدكتورة يمني طريف الخولي وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام2003 م. يعتقد بوبر, انطلاقا من نقده لتلك القوالب, أن هناك عقبتان إيديولوجيتان تقفان في مواجهة التقدم العلمي العقبة الأولي هي التعصب الديني والإيديولوجي الذي يعوق عملية البحث عن بدائل علمية جديدة للنظريات القديمة التي تتحول إلي نظريات سائدة واحتكارية بما يفتح الباب أمام عقبة ثانية تواجه التقدم العلمي وهي أن تتحول النظرية العلمية بذاتها إلي بدعة عقلية شائعة أو إيديولوجيا محصنة بما يدمج العلم بالإيديولوجيا ويحيل الثورات العلمية إلي ثورات إيديولوجية.. إلا أن تلك النزعة العلمية لبوبر لم تحل بينة وبين الغوص في إشكاليات إنسانية مركبة ذات طابع سياسي واجتماعي ففي أحد أكثر أجزاء هذا الكتاب أهمية يتصدي بوبر إلي مفهوم إشكالي يراه أحد العناصر الأساسية المكونة للاعقلانية المحدثة ألا وهو مفهوم( النسباوية) الذي يعني أن الحقيقة تتشكل بشكل نسبي وفقا لخلفياتنا العقلية التي ترسم لنا إطارا محددا للتفكير فتختلف بذلك من أطار إلي أخر ومن ثم يتأكد المبدأ القائل باستحالة التفاهم المتبادل بين الثقافات المختلفة أو الأجيال المختلفة أو الحقب التاريخية المختلفة. وفي مقابل هذا المفهوم المنغلق يعتقد بوبر بأن التفاهم ما بين المختلفين في الرأي ممكن علي المدي البعيد إذا توفرت له الإرادة المشتركة لا سيما وأن هذا التفاهم قد أصبح يعادل موضوعيا البقاء علي قيد الحياة بفعل التصاعد المستمر في معدلات إنتاج السلاح. وفي هذا السياق يعرف بوبر أسطورة الإطار بكونها استحالة وجود مناقشة عقلانية ومثمرة بين طرفين أو أكثر إلا إذا تقاسم هؤلاء المساهمون في تلك المناقشة إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية. ويري بوبر أن الإقرار بصحة هذا التعريف هو أقرار فاسد وشرير قد يدمر الجنس البشري ويزيد من معدلات العنف. وهنا يطرح بوبر دعواه المضادة, فالمناقشة بين من يتقاسمون كثيرا من الأفكار لا يمكن أن تكون خصيبة ومثمرة برغم كونها لطيفة وهادئة بل علي العكس من ذلك فإن المناقشة بين أطر واسعة الخلاف خصيبة ومثمرة برغم كونها عسيرة وليست لطيفة, فالمعيار الأساسي هنا هو تحطيم القوالب الفكرية المغلقة سواء فيما يتعلق بالسياق الذي يجمع المتحاورين أو تكوينهم العقلي بعد الحوار, فثمرة الحوار بالنسبة إلي بوبر تكمن في زعزعة القناعات المستقرة لدي هؤلاء المتحاورين بما يعني في النهاية أتساع أفقهم العقلي وتغير نظرتهم إلي العالم.. ولعل الأمر اللافت للنظر هنا أن المنطق الحاكم لفلسفة بوبر بشكل عام والذي أبدع من خلاله تعريفا لأسطورة الإطار قد قاده إلي الدخول في صراع ممتد مع التيار الهيجيلي في ألمانيا وهو صراع بدأه مع الفيلسوف المؤسس هيجل الذي سعي بوبر إلي تحطيم أطروحته المتعلقة بإمكانية التنبؤ المسبق بأحداث التاريخ مرورا بماركس وصولا إلي ماكس شيلر مؤسس( علم اجتماع المعرفة) الذي يعارضه بوبر تماما, ثم في النهاية صدامه الكبير مع تيودور أدورنو ويورجن هابرماس منظرا مدرسة فرانكفورت البارزين والذي وقع بين الطرفين خلال مؤتمر لعلماء الاجتماع الألمان شارك فيه بوبر عام1961 بشكل دعا أحد الناشرين الألمان إلي نشر مساجلات هذا الصدام في كتاب صدر عام1969 بعنوان( الجدال الوضعي في علم الاجتماع الألماني), حيث صاغ بوبر كلمته في هذا المؤتمر بشكل يستحيل علي هيجلي أو ماركسي مثل أدورنو أن يقبله فقد كانت كلمته مكثفة في الهجوم علي مدرسة فرانكفورت الجدلية. وقد رد أدورنو علي هذا الهجوم بتجاهل أطروحة بوبر تماما أما هابرماس فقد قام بكتابة ورقة بحثية قدمها إلي المؤتمر هاجم فيها بوبر باعتباره فيلسوف وضعي يقفز بمنهجيته ليدافع عن الوضع القائم علي الرغم من أن بوبر سبق له وأن هاجم هيجل من نفس المنطلق عندما صنف فلسفة الهوية الهيجلية في كتابه( المجتمع المفتوح وأعداءه) باعتبارها وضعية أخلاقية وقانونية. وهنا تتجلي عبقرية بوبر الذي استطاع ببراعة اللعب علي تناقضات الهيجلية والماركسية مشكلا من خلالها موقفه من مدارس علم الاجتماع الألماني الذي أسسه انطلاقا من مقولة غريمة كارل ماركس في كتاب' رأس المال' بأن الجدل الماركسي قد أصبح بصورته التي تعمي الأبصار البدعة الشائعة السائدة في ألمانيا. ولذلك يمكن القول في النهاية أن بوبر كان بالفعل ناقدا تاريخيا للقوالب الفكرية وهذا التعريف للرجل لا يعبر فقط عن دوره التاريخي في نقد تلك القوالب بل يعبر أيضا عن طبيعة رؤيته العلمية( النسبية) التي واجه من خلالها( التاريخانية) الهيجلية والماركسية التي أخضعت تاريخ العالم بحسب قوله إلي حتميات مطلقة لا تمت لله بصلة بل صنعها فلاسفة التيار الهيجيلي انطلاقا من مصالحهم المادية ومنطقهم الوضعي. لمزيد من مقالات طارق ابو العينين