تزامنت عملية انتخاب أمين عام جديد لمنظمة اليونسكو التى جرت أخيرا بالعاصمة الفرنسية مع بدء العام الدراسى الجديد بمصر، بالإضافة الى صدور تقرير التنافسية العالمية، الذى أشار الى تراجع مرتبة مصر فى التصنيف العالمى للعملية التعليمية، وهو ما استغله البعض للنيل من مصر عموما والمعلم المصرى على وجه الخصوص, ونسى هؤلاء او تناسوا ان العملية التعليمية فى جميع بلدان المنطقة قامت أساسا على اكتاف المعلم المصرى خلال حقبتى خمسينيات وستينيات القرن الماضى وهذا لا ينفى بالطبع ان التعليم فى مصر يمر حاليا بمرحلة صعبة للغاية ويعانى العديد من المشكلات، يأتى على رأسها التشتت الراهن فى النظم التعليمية بين حكومى وتجريبى وخاص وأجنبى وأزهرى وألمانى وأخيرا يابانى.. الخ، وكل منها يخضع لأطر تشريعية مختلفة، وهى مسألة غاية فى الخطورة والأهمية، حيث لا تساعد على بناء وتنمية العقل المصرى بطريقة سليمة وتضمن التسليح بأدوات الفكر، والمعرفة، والابتكار والتميز، والاعتماد على الذات، والمنافسة على المستوى الدولي، وبما يلبى احتياجات سوق العمل المحلى والدولى. ومن المشكلات الأخرى ارتفاع الكثافات داخل الفصول إذ تشير الإحصاءات الى ان حوالى 41% من الفصول تضم كثافات أكثر من المعدلات المقبولة (40 طالبًا/ فصل)، وتعانى فصول التعليم الابتدائى الكثافات الأعلى من بين المراحل التعليمية المختلفة، كما تشير بذلك بيانات وزارة التربية والتعليم والتى اشارت أيضا الى أن متوسط الكثافة العام للفصول الدراسية هو 43 تلميذا / فصل تقريبًا، إلا أنه توجد فصول تزيد كثافتها على 47 تلميذا / فصل ونسبتها 27%، كما توجد فصول تزيد كثافتها على 70 تلميذا / فصل، ونسبتها 2%. وعلى الجانب الآخر يوجد عدد من المدارس يتم استخدامها لأكثر من فترة دراسية، ويؤدى ارتفاع معدلات الكثافة داخل الفصل الدراسى بين المراحل التعليمية من جهة والبيئات المختلفة من جهة أخرى إلى عدم تقديم الخدمة التعليمية المستهدفة داخل المدرسة؛ بما يدفع الكثيرين إلى العزوف عن المدرسة واللجوء للدروس الخصوصية، فضلا عن تسرب التلاميذ، اذ يشير التعداد العام للسكان عام 2017 الى ان نحو 6٫1 مليون فرد متسرب من التعليم بنسبة 7٫3% من اجمالى السكان (10 سنوات فأكثر). وعلى الجانب الآخر تشير الإحصاءات الى ان الإنفاق العام على التعليم قد ارتفع من 84 مليار جنيه عام 2013/2014 الى 107 مليارات عام 2017/2018، وأصبح يشكل نحو 9% من الانفاق العام البالغ 1207٫1 مليار جنيه مع ملاحظة أن النسبة الغالبة منه تذهب الى بند الأجور اذ ارتفع المنفق على هذا الباب ليصل الى 84 مليار جنيه فيما يمثل 79% من اجمالى الإنفاق على التعليم ونحو 35% من اجمالى أجور الموازنة. وفى المقابل ارتفع المنفق على الاستثمارات الى 13٫6 مليار حنيه. وذلك نتيجة لتضخم الجهاز الإدارى بأعداد كبيرة، من غير القائمين على العملية التعليمية. حيث تتسم منظومة التعليم بالضخامة من حيث عدد المدارس والعاملين، اذ يعمل حوالى 1٫2 مليون معلم وما يزيد على ال 600 ألف من غير العاملين بالتدريس، حيث يشكلان معًا ثلث الجهاز الإدارى بالدولة. (ولذلك توزعت أجور هذا القطاع بين المحليات بنسبة 78% والهيئات الخدمية 18% ونحو 4% للجهاز الإداري)، وذلك من خلال 278 إدارة تعليمية وما يزيد على ال 50 ألف مدرسة. وعلى الرغم من التغير الذى طرأ على دور الدولة، ممثلا فى انحسار دورها الاقتصادي، فإنها مع ذلك تظل مسئولة عن التعليم والصحة والمرافق العامة، وهو ما يتطلب تحديد المستويات المثلى لهذا البند، ويتوقف ذلك أيضا على عدة عوامل أساسية يأتى على رأسها طبيعة التطور الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمع. فزيادة الاستثمار العام كنسبة من الناتج لتحسين البنية الأساسية المادية والاجتماعية لتسهيل الاستثمار الجاد والمنتج، قد تؤدى الى ارتفاع نسبة العائد على رأس المال أو إلى إنتاج سلع وخدمات لن يقوم القطاع الخاص بتوفيرها. كما ان الإنفاق العام على التعليم يزيد من رأس المال البشري، وبالتالى يعد بمثابة استثمار قومى جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول. لذا يتمثل التحدى الذى يواجه الإنفاق العام فى ضمان مستوى من الإنفاق يتسق مع الاستقرار الاقتصادى الكلي، ثم يتم بعد ذلك هيكلة الإنفاق كجزء من الإصلاح الشامل. قد يرى البعض أنه كلما زاد حجم الإنفاق العام، كانت الخدمات المقدمة أفضل وأحسن. وهذا القول غير صحيح على الإطلاق إذ أن تخصيص اعتمادات أكبر فى الموازنة لا يعنى بالضرورة تقديم خدمات أفضل، فالعبرة هنا بالسياسة الاتفاقية بالمجتمع. فالأهداف الرئيسية للإنفاق العام يجب أن تهدف بالإضافة إلى تعزيز النمو الاقتصادي، تشجيع استخدام الموارد بكفاءة وفعالية. وكلها أمور تؤكد أهمية العمل على تحقيق فاعلية الإنفاق عن طريق ضمان التأكد من إن هذا الإنفاق يذهب فى الغرض المخصص له، فقد تتوافر الخدمات الأساسية كالتعليم مجانا وبكميات ونوعيات مناسبة، ولكن لأسباب معينة لا يستطيع الفقراء الوصول إليها، إما لأنهم أفقر من ان يتحملوا التكاليف المصاحبة للاستفادة بهذه الخدمات (مثل فقدان الدخل) أو المستلزمات المدرسية، أو تكاليف الانتقال الى المدرسة، وهى الأمور التى ينبغى أن تتوجه إليها الاهتمامات فى عملية إصلاح الإنفاق العام على التعليم. وهنا يأتى الحديث عن كفاءة هذا الإنفاق وعدالته. ونقصد بالعدالة هنا تحقيق التكافؤ الحقيقى فى الفرص المتساوية للحصول على الخدمة وذلك بتوزيع الإنفاق العام بشكل متساو وفقا للاحتياجات التعليمية لكل منطقة جغرافية. فالمسيرة التنموية للمجتمعات عموما والمتخلفة منها على وجه الخصوص، يجب ان تتحرك فى إطار منظور تنموى متكامل يراعى البعد الاجتماعى مع البعد الاقتصادي، فالإنسان محور التنمية وأداتها فى نفس الوقت. وينعكس ذلك على أهداف التنمية ووسائلها، ولم تصبح التنمية الاجتماعية محصورة فقط فى تقديم خدمات اجتماعية معينة ومراعاة البعد الاجتماعي، وإنما تصبح هى التنمية الشاملة بكل أبعادها. وبالتالى فالحالة التعليمية تعد أحد أهم دعامات التنمية وتطوير الإنفاق على قطاع التعليم يسهم مباشرة فى تحسين نوعية الحياة ويؤدى إلى جودة النمو. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى