تختلف الدول فى تكويناتها السكانية والاقتصادية والاجتماعية.. ويجب أخذ هذه الاختلافات فى الاعتبار عند تفسير التفوق التعليمى فى اليابان ومقارنته بالدول الأخرى.. حيث تحتل اليابان المركز ال 17 من بين 34 دولة عضو فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى.. وعلى الرغم من تفوق دول أخرى على اليابان فى ضوء مؤشر الدخل الفردى، إلا أن الأمر المثير للإعجاب هو تفوق التلاميذ اليابانيين على غيرهم من تلاميذ الدول الأغنى الأخرى فى القدرة على القراءة مثلاً.. ويرجع هذا التفوق الدراسى إلى كون نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى يعكس الموارد المالية التى يمكن تخصيصها لتمويل التعليم، ولكنه لا يقيس بصورة مباشرة الموارد المالية المستثمرة بالفعل فى تمويل التعليم.. وتشير نتائج الدراسات التربوية المقارنة إلى ارتفاع التحصيل الدراسى للتلاميذ اليابانيين عن غيرهم على الرغم من انخفاض إجمالى الإنفاق الحكومى والخاص على التعليم فى اليابان عن متوسط الإنفاق فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.. وفى حين تستثمر اليابان 3.3% من ناتجها القومى الإجمالى أى ما يعادل 9.4% من إجمالى الإنفاق الحكومى فى الإنفاق على التعليم، يبلغ متوسط الإنفاق فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية 4.9%، وهو ما يعادل 13.3% من متوسط الإنفاق الحكومى. وإذا أخذنا مؤشرًا آخر للمقارنة وهو نصيب التلميذ الفعلى من الإنفاق من سن السادسة حتى سن الخامسة عشرة، سوف نجد أن اليابان تحتل المرتبة ال 14 من بين 34 دولة عضو فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.. ويعنى ذلك أن الموارد المالية المخصصة للتعليم يتم تخصيصها بكفاءة أفضل فى اليابان تفوق غيرها من الدول المتقدمة.. وتوضح الشواهد أن التحصيل الدراسى للتلاميذ فى إيطاليا وسلوفينيا يقل عن تحصيل التلاميذ اليابانيين بنسبة34%.. وهو ما يعنى أن تحصيل التلاميذ فى إيطاليا وسلوفينيا يقل عن تحصيل التلاميذ اليابانيين بمقدار عام دراسى كامل، على الرغم من تساوى نصيب التلميذ من الإنفاق فى الدول الثلاث.. وفى حين زادت ميزانية المؤسسات التعليمية فى اليابان بمقدار 7% (بعد استبعاد أثر التضخم) فى الفترة من 1995 حتى 2007، إلا أنها زادت بمتوسط قدره 31% فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. وعلى الرغم من هذا التفاوت الواضح فى معدل زيادة الميزانيات التعليمية، إلا أنه يجب مراعاة انخفاض أعداد التلاميذ اليابانيين خلال نفس الفترة بمقدار17% مقارنة بزيادتهم فى باقى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.. وإذا أخذنا هذه الاعتبارات السكانية فى الاعتبار، سوف نجد أن الزيادة فى نصيب التلميذ من الإنفاق التعليمى فى اليابان خلال هذه الفترة تقارب الزيادة فى باقى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية والتى بلغت 17%. ويعد هذا الاستنتاج صحيحًا إذا اقتصر تحليلنا على الإنفاق الحكومى فقط.. ولكن الشواهد تشير إلى وجود عوامل أخرى – بالإضافة إلى التمويل - تساعد على تحسين التحصيل الدراسى.. حيث تشير الدراسات الدولية المقارنة إلى أن حجم ميزانيات التعليم ليس هو العامل الوحيد الحاسم فى رفع الجودة، فمن المهم أيضًا كفاءة تخصيص هذه الميزانيات، وكفاءة توجيه الأموال إلى المراحل التعليمية والجوانب الدراسية التى تعطى أعلى عائد.. وتعد اليابان واحدة من 16 دولة فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية تفوق فيها نسبة المعلمين إلى التلاميذ فى المناطق الأكثر فقرًا مثيلاتها فى المناطق الأغنى.. ويعنى هذا أن التلاميذ اليابانيين الأكثر فقرًا يرتفع نصيبهم من الإنفاق الحكومى التعليمى عن متوسط نصيب التلاميذ على المستوى القومى.. وقد سعت اليابان دومًا إلى الاهتمام بجودة المعلمين أكثر من اهتمامها بتقليل أعداد التلاميذ داخل الفصول.. وفى حين تظهر البحوث علاقة ضعيفة بين الموارد التعليمية وبين تحصيل التلاميذ الدراسى، إلا أنها تظهر أن جودة المعلمين ومديرى المدارس تؤثر إيجابيًا بدرجة أكبر من تأثير الموارد المالية وخاصة فى الدول الصناعية المتقدمة.. ومعنى هذا أن جودة الموارد البشرية هى الأكثر تأثيرًا على ارتفاع التحصيل الدراسى.. وتوضح الخبرة اليابانية أن رفع رواتب المعلمين يؤدى لارتفاع تحصيل التلاميذ الدراسى حتى فى الفصول المكتظة النسبية، وأن زيادة رواتب المعلمين أهم من تقليل أعداد التلاميذ داخل الفصل. وبالإضافة إلى كفاءة تخصيص الميزانيات التعليمية، ورفع رواتب المعلمين ومديرى المدارس، أسهم ارتفاع المستوى التعليمى لأولياء الأمور فى رفع مستوى التحصيل الدراسى للتلاميذ اليابانيين.. وتبلغ نسبة البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عامًا والحاصلين على تعليم عالٍ فى اليابان 48%.. ويعنى هذا أن اليابان تحتل المركز الثانى بعد كندا فى نسبة الحاصلين على تعليم عالٍ.. وقد أدى تفوق الراشدين اليابانيين الحاصلين على تعليم عالٍ على الراشدين فى 33 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية إلى تفوق الأبناء تعليميًا. ويساعد تحليل الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية للتلاميذ فى فهم الأسباب وراء تفوق التلاميذ اليابانيين.. وفى هذا الصدد، تشير الدراسات إلى أن تدنى المكانة الاجتماعية والاقتصادية للتلاميذ وعدم تجانسهم يؤديان إلى إثارة المتاعب للمعلمين.. وقد أوضحت الدراسات النفسية والتربوية المقارنة إلى وجود مشكلات أصعب تواجه المعلمين عند التدريس لتلاميذ ينتمون لخلفيات اجتماعية واقتصادية فقيرة مقارنة بما عليه الحال عند التدريس للتلاميذ الأكثر ثراء والذين ينتمون لأسر أرقى اجتماعيًا. وبمقارنة أكثر التلاميذ فقرًا، نجد أن نسبتهم فى اليابان أقل من نسبتهم فى باقى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، فى حين أن بقية التلاميذ اليابانيين يعيشون فى مستوى اجتماعى واقتصادى يماثل بقية الدول الصناعية المتقدمة. وإذا كان لمصرنا الحبيبة أن تتعلم بعض الدروس من النهضة التعليمية اليابانية، فإن أهم هذه الدروس هى: أنه لابد من زيادة تمويل التعليم، وتحسين كفاءة تخصيص هذه الموارد المادية. وبالإضافة إلى هذا، ينبغى زيادة الميزانيات التعليمية المخصصة للمدارس فى المناطق العشوائية والمناطق المحرومة.. وإذا كانت اليابان –على الرغم من ارتفاع جودة نظامها التعليمى – تستخدم التمييز الإيجابى لصالح التلاميذ الأكثر احتياجًا للرعاية، فإن على وزارة التعليم فى مصر أن ترفع نصيب التلميذ من الإنفاق فى العشوائيات وفى صعيد مصر بصورة تفوق مثيله فى المناطق الحضرية والمناطق الأكثر ثراء.. ومن أهم الإصلاحات التى ينبغى تطبيقها فى مصر التوقف عن الشكوى من تكدس الفصول الدراسية، والعمل على منح رواتب أعلى للمعلمين.. إن الإصلاح الحقيقى للتعليم لن يتحقق إلا بمنح رواتب توفر متطلبات الحياة الكريمة لجميع العاملين فى وزارة التربية والتعليم.. وليس هذا فحسب، بل إن على واضعى السياسات التنموية فى مصر العمل بجهد دءوب مستمر للقضاء على الفقر.. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال سياسات اقتصادية توزع ثمار النمو الاقتصادى على الجميع بعدالة ودون إقصاء أو تهميش.