قبل سقوط الأمطار تأتي الغيوم، وقبل سقوط القتلي تنتشر الفتن، وهذا ما حدث في تاريخ العالم في القرن الخامس. فقد رفضت الأفكار القديمة التي كانت متربعة علي عرش الفلسفة والدين أن تتواري بعد انتشار المسيحية في العالم كله وتعميق جذورها في عقول وقلوب البشر. وكانت لا تزال المدارس الفلسفية الوثنية تحاول الصمود وكذلك اليهود فحاولوا الدخول للمسيحية ونشر أفكارهم اليهودية أو الوثنية أو الفلسفية تحت مسمي مسيحي. فكان من نتاج هذا الهرطقات والأفكار الغريبة مثل الأريوسية التي تصدت لها الكنيسة وحرمت من ينادي بهذا أي أعلنت أنه ليس مسيحيا. ولم يخل هذا الصراع من الدماء والقتلي وخاصة مع ضعف الإمبراطورية الرومانية. وفي عام 408م تولي ثيؤدوسيوس الصغير ابن أركاديوس عرش روماالشرقية أي بيزنطة. وتوفي أبوه وهو في سن السابعة لتحكم بيزنطة معه أخته بوليكاريا لمدة ثماني سنوات وهي التي ستحرك التاريخ فيما بعد. في عام 412م جلس البابا كيرلس الأول علي الكرسي المرقسي، وكان البابا ثاؤفيلس السابق خاله فقد تبناه وهو طفل فدرس اللاهوت والفلسفات والعلوم في مدرسة الإسكندرية، ثم ذهب إلي البرية ليتتلمذ علي يد الآباء الرهبان لمدة خمس سنوات. ثم استدعاه خاله وأوكل له مهمة الوعظ والتعليم ولما مات البابا ثاؤفيلس اجتمع الشعب كله علي ترشيحه بطريركاً. وكان يحكم الإسكندرية والى روماني اسمه أورستيس وكان نصف مسيحي ونصف وثني، وكان يشعر بسيطرة البابا ثاؤفيلس علي الشعب السكندري ومكانته عند الإمبراطور مما أضعف مكانته السياسية وأثار غيرته. ولما علم بترشيح الشعب للبابا كيرلس حاول بشتي الطرق أن يمنع وصول البابا كيرلس لهذا المنصب بالتهديد أو بالرشوة ولكن لم تفلح مساعيه وصار عداء بينه وبين البابا. وكان اليهود والوثنون في الإسكندرية قد بدأوا بتنظيم صفوفهم بمساعدته لمحاولة إضعاف الكنيسة في مصر. فأشاع اليهود ذات ليلة أن النار اشتعلت في كنيسة بالإسكندرية فاندفع المسيحيون من كل جهة متزاحمين كبارا وصغارا لإطفاء النار، فاغلق اليهود عليهم الشوارع وقتلوا كل المسيحيين المحيطان بالكنيسة ذبحاً في الشوارع. وما أن لاح صباح اليوم الثاني حتي غضب كل مسيحيي مصر لهذا الحادث واندفعوا في الشوارع للقتال مع اليهود. فوقف البابا وطالب الشعب بالهدوء واجتمع بكبار اليهود وطلب منهم الانسحاب من الإسكندرية حقناً للدماء وحتي لا يتعرضوا للقتل. ووصل الأمر إلي والي الإسكندرية الذي وبخ البابا علي تصرفه، فأجابه البابا أنه فعل هذا حتي لا تحدث فتنة في الشوارع. وبدأت الإسكندرية تكون مؤهلة لأحداث أخري مماثلة من باقي التيارات التي وجدت في طرد اليهود هزيمة لمخططاتهم المدعومة من الوالي. وكان في الإسكندرية مدرسة فلسفية وثنية تنشر الفكر الأفلاطوني الحديث، وكانت المدرسة تُعلم خليطاً بين الفكر الأفلاطوني القديم ممزوجاً بأفكار الديانة اليهودية والأفكار الوثنية لتصنع خليطاً فكرياً تجذب به تلك الأقليات في ذلك الحين ويستطيعوا أن يتجمعوا بمنهج واحد ضد المسيحية. وأخطر ما كانوا يعلمونه أن الإله الأعظم تخرج منه كائنات وسيطة بينه وبين الإنسان تكون بمثابة آلهة صغري. واعترفوا بآلهة الديانات القديمة الوثنية كآلهة وسيطة. وكانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح وعودة الروح في أجساد أخري بعد الموت كنوع من العقاب والتطهير، كما يمكن أن تعود الروح في أجساد حيوانات. وكان من أشهر فلاسفتها في هذا العصر الفيلسوف فرفوريوس، وفيلسوفة تدعي هيباتيا يونانية الأصل، وكانت لها علاقة صداقة قوية بالوالي جعلها تستطيع أن تنشر أفكارها في كل مكان. وكانوا يعلمون بهذه التعاليم وينشرون كتابات يوليانوس الإمبراطور عن الوثنية كإطار فلسفي لفكرهم فعكف البابا كيرلس علي الرد علي هذه الأفكار الوثنية فاحتدم الصراع الفكري بين هؤلاء الفلاسفة الوثنيين وبين الكنيسة. وانتقل الصراع إلي احتقان في الشوارع وقد كان بعض المسيحيين يشعرون بالقهر نتيجة ما فعله اليهود قبلاً وما فعله الوثنيون قبلهم فانقض بعض الشباب المسيحي الثائر علي الفيلسوفة هيباتيا وانزلوها من مركبتها وقتلوها. وقد كتب هذه الحادثة اثنان من المؤرخين المعاصرين وهما سقراط وسوزومين ولم يتهما الكنيسة أو البابا كيرلس بقتل هيباتيا. ولكن في القرن السابع عشر في إنجلترا تم تأسيس جماعة فلسفية للأفلاطونية المحدثة في كامبريدج وبدأوا في نشر نفس الأفكار وإعادتها إلي الوجود. وفي عام 1842م ذهب شخص يدعي تشارلز كينجسلي ليدرس في جامعة كامبريدج وقد عين قساً إنجيليكانياً وقد تأثر بهذه الجمعية الفلسفية وكتب رواية عن هيباتيا عام 1853م وقد مزج فيها تأثره بالكنيسة الغربية ومحاكم التفتيش بالوقائع التاريخية فكانت رواية خيالية أكثر منها تاريخية واتهم فيها البابا كيرلس بأنه هو الذي حرض علي قتل هيباتيا وكان هذا مخالفاً لما ذكره المؤرخون الذين عاصروا هذه القصة. وتأثرت بهذا الكاتب المؤرخة الإنجليزية بوتشر التي كانت زوجة لقس بروتستانتي في مصر في نهاية القرن التاسع عشر واتهمت أيضا البابا كيرلس. وللأسف في السنوات السابقة ردد البعض تلك القصة دون التوثيق التاريخي مدفوعين بكراهية خاصة للكنيسة القبطية، والذي يريد أن يدقق يمكنه أن يقرأ ما كتبه المؤرخان المعاصران لهذه القصة سقراط وسوزومين. فالكنيسة القبطية التي تحمل تعاليم المسيح الذي قال: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم» لم تتورط يوماً قط في تحريض شعبها علي سفك دم أحد بل كانت تواجه الاضطهادات بالحب، وكانت تحتمل نزيف الدم ولا تحتمل نزيف الحب. وحتي في أوج قوتها ومساندة روما لها لم تواجه العنف بالعنف، أو الشر بالشر. وحتي وإن كانت هناك تصرفات فردية بعيدة عن تعاليم المسيح لم تكن أبداً تعليما كنسيا مسيحيا فالذي يعلم بمحبة الأعداء كيف يقبل القتل والكراهية. وفي عصرنا هذا وبالرغم من التهديدات والعنف المتواصل وسقوط الشهداء منا كان رد فعل الكنيسة والشعب المسيحي هو دعوة الحب وليست الكراهية فلم نحمل سلاحاً نحمي به أنفسنا بل نحمل حباً نحمي به الوطن. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس