مع اتساع الهوة تدريجيا بين الإدارة الأمريكية الجديدة وبين الإتحاد الأوروبى وقاطرته السياسية والإقتصادية ألمانيا من ناحية اخرى، سرعت الحكومة الألمانية بالتنسيق مع شريكتها الفرنسية من وتيرة الإجراءات الفعلية لبناء قوات عسكرية أوروبية موحدة للخروج من عباءة الحماية الأمريكية وتحويل الإتحاد الأوروبى لقوة قادرة على التحرك بشكل جماعى على الساحة الدولية على المدى المتوسط. وفى برلين إجتمعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد ايام قليلة من دعوتها للأوروبيين لجعل مصيرهم بإيديهم، برئيسى وزراء الصينوالهند لتطوير العلاقات باكبر قوتين صاعدتين فى العالم متبنية وبشكل علنى موقفا ألمانيا مناهضا لموقف ادارة الرئيس الأمريكى ترامب من قضايا تغير المناخ والطاقة والتجارة الحرة وسط إشادة ألمانية وأوروبية، بينما يوصى مستشارون مقربون من الحكومة الألمانية بسياسة ألمانية اكثر إستقلالا عن الشريك الأمريكى فى التعامل مع صراعات منطقة الشرق الأوسط. لا يزال تصريح المستشارة الألمانية بعد الخلاف الأوروبى الأمريكى فى بروكسل وإنسحاب إدارة ترامب من إتفاقية باريس للمناخ وتجديد الضغوط الأمريكية على الأوروبيين لزيادة نفقاتهم الدفاعية، يشغل الإعلام والمراقبين فى المانيا الذين يرون فى الأفق تحولا غير مسبوق فى السياسة الألمانية إبتعادا عن الولاياتالمتحدة كشريك استراتيجى اول، كما يلمسون حماسا المانيا لتطوير المحور الألمانى الفرنسى للوصول إلى مستويات غير مسبوقة من التنسيق السياسى والعسكرى فى إطار اوروبى كى يتعامل الاتحاد الأوروبى مع الولاياتالمتحدة مستقبلا من موقع الندية وليس التبعية. ما قالته ميركل بشكل غير مباشر عن انتهاء عصر الإعتماد الكلى على الولاياتالمتحدة حظى بإشادة كبيرة من النخب السياسية والإعلامية فى المانيا وفى إستطلاعات الرأى ايضا من قبل الرأى العام المؤيد لسياسات اوروبية اكثر استقلالا عن الولاياتالمتحدة. وزير الخارجية الألمانى زيجمار جابرييل كان اكثر وضوحا من المستشارة عندما تحدث عن تغيير ملموس فى موازين القوى فى العالم وتراجع امريكا كأهم قوة عالمية كما انها لم تعد الشريك الأول لألمانيا وللأوروبيين فى كل القضايا كما صرح رئيس كتلة الإشتركيين فى البرلمان الأوروبي. الموقف الالمانى الجديد تلقى دعما فوريا آيضا من باريس حيث أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية عن دفع الجهود مع المانيا بقوة لتشكيل قوات مسلحة أوروبية موحدة. وسمعنا من بين الأمريكيين انفسهم من يؤكد مثل السفير الأمريكى السابق لدى الناتو ايفو دالدر، أن الزمن الذى تقود فيها أمريكا ويتبعها لأوربيون قد ولى. فضلا عن دعم كبير تلقته تصريحات ميركل من داخل مؤسسات الإتحاد الأوروبى المختلفة. على الأرض تواجه بروكسل فعليا الموقف الأمريكى الراغب فى تقييد قواعد التجارة الحرة بتكثيف الإستعدادات لإبرام اتفاقيات تجارة حرة مع عشرين دولة ستتعاون فى المستقبل اكثر مع اوروبا وتبتعد عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. وفى برلين ترجمت ميركل عمليا ما قالته عن شركاء المانيا الجدد فى العالم وحرصها على الوجود والتأثير فى آسيا من خلال تطوير العلاقات الإقتصادية والتجارية والسياسية مع الهند التى يتوقع الخبراء ان تصبح خلال عقدين ثانى دولة عالميا بعد الصين من حيث حجم الناتج القومى الإجمالي. واتفقت المستشارة خلال المشاورات الحكومية الألمانية الهندية مع نظيرها الهندى ناريندرا مودى على الدفع بالشراكة الإستراتيجية بين البلدين فى مجالات السياسة الخارجية والأمنية والتجارة الحرة. فى نفس الإسبوع إستقبلت المستشارة الألمانية رئيس الوزراء لى كى جيانج وادلت بتصريحات قوية حول ضرورة ورغبة البلدين فى تثبيت دعائم التعاون بينهما فى ظل ما وصفته «بعدم الإستقرار العالمي» حاليا، مؤكدة ان الصين اصبحت شريكا استراتيجيا يزداد اهمية كل يوم لألمانيا وتعتزم التشاور معه فى المستقبل لمواجهة الأزمات العالمية وخاصة تغير المناخ والحفاظ على حرية التجارة وقد استخلص المراقبون من تصريحات ميركل موقفا مخالفا لموقف إدارة ترامب. من جانبه توقع المعهد الأمنى للسياسات الأمنية ذو الإرتباط الوثيق بدوائر المستشارية الألمانية أن المرحلة القادمة ستشهد سياسة المانية اكثر إستقلالا عن الشريك الأمريكى فى إطار اوروبي، وذلك ليس فقط فى ملفات المناخ والتجارة الحرة وانما ايضا فى ملفات الصراع فى الشرق الأوسط وخاصة الصراع الفلسطينى الإسرائيلي. وطالب المعهد بتطوير قواعد سلوكية للشركات الأوروبية لرفض الإستثمارات الأوروبية والمساهمات التى تصب باى صورة فى نشاط الإستيطان الإسرائيلى ووقف استيراد منتجات المستوطنات من قبل الإتحاد مع البحث بجدية تامة عن اجراءت اخرى غير الإدانة لإيصال رسالة واضحة للشعب الإسرائيلى والحكومة الإسرائيلية بأن المانيا وبإسم الإتحاد الأوروبى ترفض انتهاك القانون فى المناطق المحتلة، واعتبر المعهد أن إستجابة المستشارية لتلك التوصيات ستمثل خطوة غير مسبوقة تغير شكل العلاقات الأوروبية الأمريكية الإسرائيلية. كما تواصلت الجهود الالمانية لتطوير القدرات العسكرية الأوروبية، حيث تم مؤخرا تحت ضغوط المانية الموافقة على إنشاء مركز رئيسى لإدارة العمليات العسكرية الأوروبية فى الخارج سواء فى مالى او الصومال او اى مكان فى العالم . كما اكدت وزيرة الدفاع الفرنسية الجديدة سيلفيا جولارد فى برلين قبل ايام وفى لقاء مع نظيرتها الالمانية فون دير لاين، تكثيف جهود البلدين لتطوير التعاون والتنسيق بين الجيوش الأوروبية تمهيدا لصهرها تدريجيا فى جيش واحد اوروبى قوى ودفع الوحدة العسكرية والأمنية الأوروبية إلى الأمام. وهى جهود المانية فرنسية مشتركة بدأت فى العام الماضى بطرح خريطة طريق مشتركة وصولا لهذا الهدف من خلال تكثيف التعاون المشترك فى الصناعات العسكرية وتوحيد الخبرات بدلا من عمل كل دولة بشكل منفرد. وبدأ المحور الألمانى الفرنسى فعليا فى تطوير مروحية هجومية تسمى تايجر ودبابة المانية فرنسية. يصب فى نفس هذا الإتجاه المطالب الألمانية التى ارتفعت مؤخرا وبعد إنتخاب الرئيس الأمريكى ترامب لكى تطور المانيا قدراتها النووية وهى التى تملك الإمكانات والتقنيات، وهو ما رفضته الحكومة الألمانية ويعتبر إذا ما حدث خروجا نهائيا من تحت مظلة الحماية العسكرية الأمريكية. وعلى الرغم من هذا الزخم الذى يغذيه التباعد الواضح فى المواقف الأمريكية من ناحية والألمانية الأوروبية من ناحية اخرى، فإن الأوروبيين يعلمون أن الوقت لايزال مبكرا للإستغناءعن مظلة الحماية الأمريكية وان تكلفة الجيش الأوروبى الموحد فى نهاية المطاف هى اكبر مما يطلبه الرئيس ترامب من زيادة نفاقتهم العسكرية لتصل إلى 2.5 بالمائة من الناتج القومى الإجمالى لكل دولة.وينظر الجميع بترقب بالغ للجولة القادمة التى ستساهم بشكل رئيسى فى تحديد ملامح العلاقات عبر الأطسى خلال الفترة القادمة الا وهى قمة العشرين فى مدينة هامبورج الألمانية فى الشهر المقبل حيث يتوقع الكثيرون صداما باردا بين المستشارة الألمانية التى تستضيف القمة وبين الرئيس ترامب فى ملفات المناخ والتنمية المستدامة والهجرة والتجارة الحرة وغيرها من الملفات.