أحيانا تمر بك مواقف وأحداث تعجز فيها الكلمات عن التعبير عما يجيش فى النفس من مشاعر وأحاسيس متدفقة، وتفقد دلالاتها البلاغية المتوقعة، ذاك ما حدث معى الخميس الماضي، عندما زرت، ضمن وفد من قيادات صحيفة الأهرام، مصابى العمليات العسكرية فى سيناء بمستشفى المعادى العسكرى، إذ كنت قد تهيأت نفسيًا وذهنيًا لزيارتهم واستحضرت فى طريقى إليهم عبارات تشجيع وتحفيز منمقة لجنود وضباط على فراش المرض، وبعضهم فقد أجزاء لا تعوض من أجسادهم، لكن المفاجأة ألجمتنى وأربكت كل حساباتى وتضاءلت وتقزمت عباراتى أمام ما رأيته منهم ومعهم. رأيت رجالا أشداء أوفياء فى شرخ الشباب, لا توجعهم إصاباتهم، ولا أنهم خسروا ساقًا، أو ذراعًا، أو عينًا، وإنما يؤلمهم تركهم رفاق السلاح فى وحداتهم التى تواجه الإرهاب وتقتلع جذوره من سيناء، ويحلمون بيوم عودتهم لاستكمال مهمتهم المقدسة فى الذود عن تراب وطنهم الذى يحافظون عليه بكل جوارحهم. رأيت رجالا صابرين، علت وجوههم قسمات البشاشة والرضا وابتسامة مشرقة عكست إيمانًا وتواضعًا وإخلاصًا وانتماءً وسموا، واستصغارا لتضحياتهم الجليلة التى يرونها غير ذات قيمة وتهون مادام أنها ستجلب الراحة والأمن والسكينة للمصريين، رأيت عيونا لا تعرف الدمع على ما فات ولا يذرفونها إلا عند استشهاد رفيق سلاح قضى نحبه فى ساحة الحرب على الإرهاب الغاشم الذى يترنح تحت وقع ما يتعرض له من ضربات موجعة على يد جيشنا، مما جعله يتصرف بخسة ونذالة مستهدفا الآمنين من المسلمين والمسيحيين، دليلا على يأسه، بعد ان أصبحت عناصره كالفئران المحاصرة داخل المصيدة. خرجت من الزيارة بملاحظات ثلاث لها دلالة، الأولى أن من قابلتهم كانوا فى العشرينيات من أعمارهم، أى سن الشباب والعطاء غير المحدود، وكانوا نموذجًا رائعًا للشباب المصرى ويبشرون بقدوم جيل يُقدر المسئولية والعمل والإجادة فيه دون ضجيج واستعراض، وقدرة خارقة على الاحتمال بما يبعث فينا الطمأنينة على حاضر ومستقبل بلادنا، هؤلاء الأبطال هم الأجدر بأن يكونوا عنوانًا عريضًا لشبابنا بعيدا عن النظرة النمطية المحصورة فى أنهم كسالى وغير مستعدين للبذل دون مقابل، وأن تفكيرهم كله متجه نحو الهروب من الوطن بحثا عن وظيفة وثراء فى أوروبا وأمريكا وغيرهما، فهم خير قدوة فى بلد يمر بمرحلة فاصلة من تاريخه تحتاج الى سواعد الجميع وعلى رأسهم شبابه، وهو ما يستدعى حتما أن يكونوا فى بؤرة الاهتمام ولا يغيبوا عن أنظارنا لثانية واحدة. الملاحظة الثانية أن هذه الفئة البطولية غائبة فى وسائل إعلامنا التى لا تلتفت إليها سوى مرات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة وفى مناسبات متفرقة، فلم نر أفلاما تسجيلية عنهم وعن بطولاتهم، ولا برامج فى فضائيات أنفقت عليها مليارات الجنيهات ومستغرقة حتى أذنيها فى حفلات الترفيه ومسابقات الغناء والتمثيل وإعداد موائد الطعام الشهى وخناقات ونزاعات الفنانين والفنانات، والدراما لا تأتى على ذكرهم نهائيا، وإن ورد ذكرهم يكون لماما، فالقضايا المتناولة فى مسلسلاتنا وأفلامنا مستوحاة، أو بالأحرى منقولة نقل مسطرة من نسخ أجنبية جرى تمصير شخوصها وبقيت روحها وجوهرها غير مصرية قلبا وقالبا، ألا يستحق أبطالنا الإشادة والافتخار بهم وتجسيد ما قدمت أياديهم البيضاء فى اعمال درامية، فأين المنتجون، وكتاب السيناريو، والممثلون؟ وما بال مسئولى ماسبيرو غافلون عنهم وعن توثيق وسرد بطولاتهم، حتى يكونوا نبراسا تهتدى وتقتدى به الأجيال القادمة، فعبر هذه الأعمال سيترسخ الارتباط بالوطن وبقضاياه العليا، وسنعطى إضاءات لمواطننا عن القدوة الحسنة الموجودة بيننا دون أن نحس بها. الملاحظة الثالثة أن شعلة الأمل والروح المعنوية المتوقدة التى يتحلى بها جنودنا وضباطنا تُظهر بجلاء أن عزيمتهم مستمدة من نبع عقيدة قواتنا المسلحة المبنية على أن كل من يحمل السلاح تحت رايتها يدافع ويحمى الوطن وليس نظامًا ولا أشخاصًا، وطن يجسد وجودهم وذاتهم وماهيتهم، فالولاء له وللشعب فقط، فلا مجال للولاءات الشخصية والطائفية الزائلة والمتغيرة، فالوطن باق وراسخ رسوخ الجبال وعلى هذا الأساس يُعدون أنفسهم وتفكيرهم وجاهزون دائما للفداء بإشارة منه. لذلك ظلت هذه المؤسسة الوطنية العريقة القوات المسلحة ملتزمة بقواعد وأسس لا تحيد عنها قيد أنملة لدى فتح باب القبول للالتحاق بالكليات العسكرية، فلا مكان فيها للمنتسبين لجماعات تناصب المجتمع العداء والكره ولا تؤمن بمفهوم الوطن والانتماء، فانتماؤهم وولاؤهم للأمير والمرشد الذى لا يردون له كلمة ولا رأيا، فطاعته واجبة ومقدمة على ما دونه، وبعض تلك الجماعات المارقة لا يعترف أصلا بالوطن ويستحلون التعاون مع أعدائه ما داموا يعملون ضده ويظنون أن ذلك سيقودهم لإزاحة من اختارهم المصريون باقتناع وعن طيب خاطر ليقودوهم، ويستردوا البلاد من جماعة اختطفتها وكادت توردها مورد التهلكة لولا أن سارعت القوات المسلحة لمؤازرة المطلب الشعبى بالتحرر من أسر حكم الجماعة الإرهابية. وتذكروا دوما أن كثيرين حولنا يحسدوننا على صلابة وتماسك جيشنا الصامد فى وجه ما تموج به المنطقة من تقلبات واهتزازات عنيفة أطاحت بأنظمة وتسببت فى تفكيك جيوش، وبعدها شاعت الفوضى وعم الخراب وسيطرت الميليشيات المسلحة على دول وصنعت دويلات داخل الدولة، وكان هناك من يسعى لإدخال مصرنا هذا النفق المظلم لولا حنكة ويقظة قادته، فلا أقل من أن نقول شكرا لجنودنا الساهرين على راحتنا وأمننا دون انتظار سماع كلمة شكر، وأن نطبع قبلة عرفان وتقدير على جبين أبطالنا الصامدين، ورحم الله شهداءنا الأبرار. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;