“كيف يمكن أن يتم على مدى سنوات، منع نشر مذكرات واحد من الجنود الأبطال، الذين شاركوا في ملحمة حرب الاستنزاف التي دارت على شط قناة السويس، بحيث تصبح عرضة للنسيان، بدلاً من أن تصبح كتابًا مرشحًا للقراءة في كل المدارس والجامعات، ويتم تحويلها إلى فيلم سينمائي ملحمي يخلد معنى رفض الهزيمة؟!“. (1)
لن تجد إجابة هذا السؤال محيرة، وأنت تقرأ كتاب (مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس) الذي كتبه الجندي أحمد حجي، خلال توليه الشئون الطبية في الكتيبة التي خدم بها على جبهة القناة، بدءًا من أبريل 1969، في واحدة من أخطر فترات حرب الاستزاف ضراوةً وعنفًا، والذي منعت الرقابة العسكرية صدوره في عام 1972، لتنشره “دار الفكر” التي كان يمتلكها المثقف اليساري الكبير “طاهر عبد الحكيم”، لكن نشر الكتاب بعد سنوات طويلة من حرب أكتوبر، لم يجعله يلقى الرواج الذي يستحقه، ليحاصره التجاهل والنسيان، فلا يأتي ذكره إلا حين تثور تلك الأسئلة المكررة البائخة التي تثيرها بعض التحقيقات الصحفية، حول أسباب غياب الأفلام الحربية التي تروي بطولات الجنود المصريين قبل حرب أكتوبر وخلالها، فيذكر اسم الكتاب بعضًا من قرؤوه، كدليل على وجود كتابات قامت بتوثيق تلك البطولات، تحتاج فقط إلى الشروع في تحويلها إلى أعمال فنية، حين تتوفر الإرادة السياسية، ويقرر المسئولون العسكريون التوقف عن عرقلة المشاريع الجادة التي تسعى لإنتاج أعمال فنية عن بطولات الجندي المصري، دون أن يتم ذلك من خلال الرقابة العسكرية، بشكل يقوم بتحويل تلك الأعمال البطولية إلى مساخر مأساوية.
أخيرًا؛ وجد ذلك الكتاب العظيم فرصته للوصول إلى القارئ مجددًا، حين أعادت “دار الكرمة” نشره في سلسلة مختاراتها، المكرسة لنشر عدد من الأعمال الرائعة والمظلومة في تاريخنا الثقافي، لتدرك حين تقرأ المذكرات، أن منعها من النشر، لم يحدث لأنها كشفت معلومات عسكرية يمكن أن يستفيد منها العدو الإسرائيلي، كما قيل لتبرير منع نشرها عام 1972، بل لأنها قامت بتقديم المقاتل المصري كإنسان طبيعي: يخطئ، ويضعف، وييأس، ويخطئ، ويشتهي، ويخاف أيضًا، وهي نظرة إنسانية مُركّبة، لا تتوافق مع عقلية القادة العسكريين الذين لا يسمحون بأي أعمال فنية أو أدبية، إلا إذا كانت تُظهر المقاتلين كأبطال كاملين، لا يرتكبون أي أخطاء بعد تنفيذهم لتعليمات القيادات العظيمة، ولا ينطقون إلا بالحكمة والوعود بالنصر وسحق العدو، ولا يغنون إلا للوطن وسمائه وترابه، ولا يضحكون إلا ضحكًا مجروحًا غارقًا في الشجن، دون أن يدركوا أن ذلك التصوير البطولي السطحي، كان بالتحديد سر تحول أغلب الأعمال الحربية التي سمحوا بإنتاجها، إلى أضحوكة تسخر منها الأجيال الجديدة، التي لم تجد فيها أناسًا طبيعيين يخافون ويتألمون ويحلمون وينكسرون، لتشعر بتماهيك معهم، وتفرح حين ينتصرون، وتبكي حين ينكسرون، وتتأثر بهم حين يقدمون حياتهم فداءً لوطنهم.
(2)
لم يكن المقاتل أحمد حجي شخصية عادية، كما سيبدو لك مع كل سطر تقرأه في المذكرات، بدءًا من مقدمتها التي كتبها بتاريخ 5 أبريل 1969، قائلاً أن فكرة كتابتها ألحت عليه منذ وصل إلى جبهة القتال، مكاشفًا القارئ بأن ما يكتبه ليس إلا النزر اليسير مما يعيشه، ومضيفًا “إذا لم توافني منيتي أو يدركني الموت، فسوف أقص على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم، أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحًا، لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز عن الحركة”، بالطبع سيزعجك تعبير “مأساة مقاومته للعدو”، إذا كنت مفتونًا بالتعبيرات الطنانة، وربما تصورت شخصية الكاتب على غير حقيقتها؛ لأنك ستستغرب وصفه المقاومة بالمأساة، وربما انزعجت من قيامه بسرد أهوال الحرب التي تجعل بعض المقاتلين يخافون ويرفضون الانصياع للتعليمات من قادتهم، لكن ذلك سيتغير حين تعرف أن الكاتب بعد تجنيده عام 1968، تم تعيينه في موقع آمن بالقاهرة، لكنه طلب الذهاب إلى الجبهة ليخدم في أشد مناطقها خطورة، وهو تصرف متسق مع شخصية شاب، بدأ نشاطه الاجتماعي في أواخر الخمسينيات، حين قام بافتتاح مدرسة لمحو أمية الفلاحين والعمال والنساء في قريته بمحافظة الدقهلية، وقد كان محو الأمية همًّا يشغله، كما يبدو من مقالاته التي نشرها في مجلة (الطليعة)، وكتبه التي تحمل عناوين دالة؛ مثل: (محو الأمية عمل لا بد منه – الفلاحون والعمل السياسي – الكلمات والبارود).
لكن ذلك الشاب الشجاع الذي يضع نفسه باختياره في موقع الخطر، أو على حد تعبيره: “أضع حياتي في مخاطرة أحسها بلحمي ودمي”، هو نفسه الذي يرفض ما يصفه ب”لعبة الخداع المستمرة للشعب حول تفاهة قوى العدو”، ويحتقر الكذب الذي تنشره الصحف وتذيعه الراديوهات عن الخسائر الجسيمة التي يتكبدها العدو؛ لأنه يرى أن من حق الشعب “الذي يدفع بلا حساب من أجل معركة ضخمة، أن يحس بحجم المخاطرة”، ولذلك يصف بشكل دقيق الخوف الذي يشعر به المقاتل حين تنهمر عليه قذائف العدو، قبل أن يصف كيف ينجح المقاتل في تحويل الحزن الذي يعتريه بسبب خسائر ذلك القصف، إلى حقد على العدو ورغبة في تدميره، وهو أيضًا الذي لا يكف عن تذكير نفسه بأن مكان المعركة ليس جبهة القتال فقط، بل مكانها الوطن كله بما يعانيه من قهر وتخلف وفقر، وهو ما نراه في مواضع عدة من المذكرات، أكثرها خطورة وألمًا؛ ذلك الذي يروي فيه واقعة شاهدها خلال عودته في إحدى الإجازات، حين فوجئ بقطرات دم تسقط على يده التي كان متكئًا بها على نافذة القطار، وحين استطلع مصدرها وجد خيطا من الدماء ينساب من فوق سقف عربة القطار، التي أطل من فوقها أطراف حذاء عسكري، ليتضح بعد إيقاف القطار، أن هناك جنديًّا ارتطم رأسه بسقف أحد الكباري التي مرّ تحتها القطار، فتهشم رأسه وفارق الحياة، وحين تم تسليم جثمانه إلى الشرطة العسكرية وتم جرد محتويات ملابسه، وجدوا معه منديلاً وعلبة سجائر بها ثلاث سجائر وسبعة عشر قرشا فقط لا تكفي لدفع ثمن تذكرة القطار، وبرقية تقول “احضر حالاً والدك توفي”، ليكتب أحمد حجي تعليقًا على ذلك المشهد الحزين: “عدت إلى مقعدي أسمع حديث الناس عما حدث، ولا أجد معنى لأي كلمة تقال، ولم أعد أرى برغم عينيّ المفتوحتين، لا الأشجار ولا البيوت التي كانت تطل عليها نافذة القطار، فقد كان حجم الحزن أكبر من أي شيء، وتركز في خاطري سؤال: أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين؟ أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالَمًا بأكمله”.
(3)
على مدار مذكراته ينبهنا أحمد حجي أن كل تلك المعاناة من هول الحرب، “تجعل المقاتل على الجبهة يتحول إلى إنسان جديد، بعد أن تعيد لحظة الخطر خلقه”، ولذلك يحكي عما رآه بعينيه من بطولات مدهشة لأناس عاديين، جعلتهم الجبهة يشعرون بأنهم يحملون مصر كلها في قلوبهم، ويرونها في عز الظلام بشكل أوضح من الذين يجلسون على مقاهيها في عز النور، ويدرك أنه لا يملك حلاًّ لمشاكل الوطن الداخلية إلا بالمزيد من القتال، فنقرأ له وهو يروي لنا عن: قائد مدفع بترت صواريخ الطائرات المعادية ذراعيه، فثبّت قدميه على المدفع وأسقط طائرة. جنود يعبرون القناة في جنح الظلام وينفذون عمليات فدائية خاطفة ويعودون سريعًا قبل أن يتبينوا مدى نجاح ما قاموا به، لكنهم يدركونه حين يشتد عليهم قصف الطائرات المجنون خلال عودتهم، فيشعرون بالسعادة الغامرة في عز تعرضهم للقصف المميت. جندي يحمي ظهر زملائه بعد أن انكشف خط عودتهم بعد عبورهم القناة وتنفيذهم عملية خلف خطوط العدو، يرفض كل الأوامر بالانسحاب ويستشهد ويغرق في قاع القناة، وتطفو جثته على سطحها بعد أسبوعين وهو لايزال قابضًا على بندقيته بقوة، ليسحب الجثة زملاؤه ويكتشفوا إصابته برصاصتين في رأسه. جندي يرفض ترك مدفعه تحت القصف ويستمر في إطلاق القذائف، ليخرج رفاقه من الملجأ بعد انتهاء القصف فيجدوه قد فارق الحياة، بعد أن شجّت شظية رأسه، وهو يحتضن مدفعه، “ليهب دمُه رفاقَه شجاعة ونورًا”، وينطلقون لقصف مواقع العدو بشراسة حتى يأتيهم النبأ من القيادة بأنها تدمرت تمامًا. جندي يذهب كل صباح ليغرس جريدتين خضراوين على قبر صنعه لكلبه الذي مات إثر إصابته بشظية من شظايا العدو. جندي يطلب من حجي كتابة رسالة إلى أهل قريته يعدهم فيها بأنه سيلبي طلبهم بإحضار رأس موشي ديان. قائد مدفع يرفض أن يكون أولوية للإسعاف بعد أن بترت ذراعه اليمنى وأصيبت كتفه اليسرى بشظية أحدثت فيه جرحًا عميقًا، طالبًا من حجي أن يبدأ بتضميد جراح من لايزالوا قادرين على القتال، مضيفًا بهدوء شديد “ماذا سيفعلون بي أكثر من ذلك، وما فائدة الحياة بدون ذراعين”.
(4)
ومثلما حاول أحمد حجي أن ينقل لقارئه تفاصيل الأهوال التي يعيشها المقاتل المصري على جبهة القناة، ووقائع بطولات الجنود المدهشة، سنجد أنه يحرص أيضًا على ذكر تفاصيل إنسانية، كانت بالتأكيد سببًا في تقوية قرار منع الرقابة العسكرية للمذكرات، مثل روايته لمعاناة جندي زميل من الضعف الجنسي الذي منعه من ممارسة الجنس مع زوجته في الإجازة، وكيف أدرك حجي أن سبب ذلك هو تعرض زميله لضغوط نفسية بسبب الأهوال التي يراها على الجبهة، ليتأكد له صحة تشخيصه حين شارك الجندي رفاقه أخيرًا في عملية عسكرية، حدث بعدها انتصار قوي على العدو، فتحسنت نفسية ذلك الجندي، ليصارح حجي بعد عودته من الأجازة التالية، بأنه قام بحل المشكلة التي كانت تعوق علاقته الحميمة بزوجته. في موضع آخر يروي أحمد حجي كيف تعرض للإصابة غير المميتة، ليرسل بعدها من المستشفى الميداني رسالة إلى صديق له بتاريخ 27 سبتمبر 1970، يطلب فيها البحث عن متعلقاته التي كانت تضم وابور جاز وكتب، فتأتيه رسالة من صديق مقاتل يخبره أنه تم استخدام حاجياته ومعداته وسيتم تعويضه عنها بعد خروجه من المستشفى، وبعد شهر يرسل رسالة عتاب لرفاقه بعد أن بلغه أن بطاطينه قد فقدت وأن وابور الجاز الخاص به قد تمت سرقته، خاتمًا الرسالة بقوله غاضبًا لزملائه الذين كان يعالجهم: “أهذه مكافأتي؟!”.
وفي مواضع متفرقة من المذكرات، ووسط قصص البطولة والتضحية؛ يروي حجي وصف أحد الجنود لتصرف زميل له أصر على البقاء تحت القصف بأنه “وطنية خائبة”، وقيام بعض الجنود بقطف ثمار البطيخ التي يزرعها الفلاحون في الحقول المجاورة قبل أن تنضج، ويروي تأفف الضباط من اصطحاب الجنود معهم في المركبات العسكرية، وينقل حوارًا يدور بين ضابط برتبة نقيب وآخر برتبة رائد، حول عدم إحضار ثلاجة مع المهمات العسكرية؛ فيقول الرائد: “أنا لا أستطيع أن أعمل والبيرة بعيدة عني”. ويحكي وقائع خلاف شديد دار بين الجنود وبين شيخ قادم من القاهرة، حين طلب الشيخ من الجنود التجمع للصلاة فيرفضون لأنهم بتجمعهم يقدمون خدمة للعدو لكي تحصده مدافعهم، وحين يقول لهم الشيخ أن ذلك لو حدث سيكون لأن الله غير راضٍ عنهم، يحتد عليه جندي استشهد شقيقه في منطقة أخرى قائلاً له: “هل رأيت تحصيناتنا؟ هل رأيت الجندي الذي تطالبه بالرجوع إلى الله وكأن حالته البائسة كفر قد تسبب فيه لنفسه؟” وحين يشكو الشيخ في يوم تالٍ من رفض الجنود التجمع للصلاة، يدوي القصف الشرس على الموقع، فيدرك الشيخ أن ما كان يفكر فيه كان خطئًا، وأن حديث الجنود عن تسهيل التجمع لاستهدافهم عسكريًّا، كان أصدق وأصوب، فيخلع جبته وعمامته ويبدأ في حمل صناديق الذخيرة لتسليمها إلى جندي التعمير وهو يهتف “الله يقويكم. الله يقويكم يا أولادي!”.
(5)
حين أنهى أحمد حجي كتابة مذكراته يوم السبت 19 ديسمبر 1970، لم يكن يعرف أن الرئيس الجديد للبلاد (أنور السادات)، سيصدر بعدها بعامين قرارًا بطرد الخبراء السوفيت من مصر، وهو ما سيصعب من مهمة نشر مذكراته التي يرد بها حوار مع أحد الخبراء السوفيت، الذي يقول له: “إن مصر لن تنتصر في حربها، إلا مع بعض النظام، وبعض المسئولية”، وهو ما ينطبق أيضًا على الجزء الذي كتب فيه حجي بتاريخ 12 نوفمبر 1969 عن تعلق الجنود بالزعيم الثوري الراحل “إرنستو شي جيفارا” وحبهم له، وقيام بعضهم بتعليق صور في ملاجئهم تحت الأرض ل”هوشي منه” و”جيفارا” و”ياسر عرفات”، بالإضافة إلى تعليق لافتات تحمل كلمات جيفارا التي تقول: “ليس هناك جنود سيئون إلا وفوقهم قادة أسوأ. الاشتراكي هو آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يموت”، وحديثه عن المناقشات التي كانت تدور في ظلام الليل حول نضال جيفارا وبطولاته، وأنه لو كان حيًّا لأتى للاشتراك في الحرب ضد الصهاينة وحلفائهم الأمريكان، وعن مذكرات جيفارا التي كان يحملها حجي ويقوم بتوزيعها على زملائه حسب أقدمية الطلب، وعن المقاتل الملتحي مفتول العضلات البارع في القنص والذي أطلق عليه زملاؤه جيفارا المصري، وكلها تفاصيل لم تعد متماشية مع التوجهات السياسية الجديدة لأنور السادات، فضلاً عن حديث حجي عن الملل الذي يعتري المقاتلين خلال توقف الاشتباكات، الذي كان من شأنه لو تم نشر المذكرات، أن يغذي حالة الغليان الموجود في الشارع المصري، خصوصًا بين الطلبة الذين لم يكفوا عن التظاهر خلال عام 1972، الذي تمت تسميته بعام الضباب، سخرية من تسمية السادات له بعام الحسم.
يظل أكثر جزء في المذكرات إدهاشًا وإيلامًا، هو ذلك الذي يروي فيه أحمد حجي قصة مقاتلين صديقين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وثقت ظروف النشأة المتشابهة من صداقتهما، فقد كان أحدهما يحمل دبلوم تجارة والآخر دبلوم معلمين، وكان كلاهما يعول أسرته بعد موت والده، ومع ذلك فقد كانا الأكثر مرحًا وكأنهما لم يعرفا الألم قط، وحين طلب منهما قائد الموقع ذات يوم، أن يختفيا في الخندق قبل وصول الطائرات، أصرا على إطلاق قذيفة أولاً قبل الاختباء، فقتلهما قصف الطائرة الذي كان أسرع من قذيفتهما، وبعد استشهادهما قال أحد أفراد الكتيبة كأنه يعزي زملاءه “كانا بطلين، على الأقل لم يفرا مثلما فر جندي التعمير في الكتيبة المجاورة”، في إشارة منه إلى جندي تعمير مدفع هرب قبل ثلاثة أسابيع، وأصبح مثلاً للجبن والضعف، وجلب لزملاء كتيبته السخرية، وبعد فترة من تلك الواقعة، لاحظ حجي قيام أحد الكلاب بالنبش في كوم طين ضخم صنعه قصف القنابل، فأمر جنديًّا بحفر المكان، ليصطدم الجاروف بخوذة جندي كانت جثته قد بدأت في التحلل، ويكتشف الجميع أنه جندي التعمير الذي كان عرضة للشتائم، كانت في يده قبضة من طين وبجوار اليد الأخرى قذيفة فارغة، وحين رآه الجميع بكوا بحرقة، وهتف بداخل أحمد حجي هاتف يقول “يبدو أننا أكبر مما نظن”.
ينهي أحمد حجي مذكراته بمشهد مهيب يودع فيه المقاتلون المدافع القديمة التي ستخرج من الخدمة، بعد وصول أسلحة جديدة متقدمة، فيقبلونها وهم يبكون قبل أن تختفي في ظلمة الليل خلف العربات العسكرية، قائلاً: “ألم تحمِ كرامتنا؟ ألم تستجب لنجوانا؟ ألم تعطنا خير ما لديها؟ يجب أن يكون الإنسان وفيًّا حتى للصخر، ليكون جديرًا بالحياة، وقبل أن نغادر الموقع، وقفنا لحظات من الحزن العميق والصمت على أرواح شهدائنا التي فاضت في هذا المكان، وتذكرنا جرحانا الراقدين الآن تحت السلاح، وقلنا دون أن ننطق: إننا دائمًا سنكون رجالاً كما كانوا هم تمامًا”.
(6)
هل نسيت أن أقول لك: إن الجندي أحمد حجي كاتب هذه المذكرات البديعة، نال الشهادة على جبهة قناة السويس، في العام نفسه الذي منعت الرقابة العسكرية نشر مذكراته التي ستبقى كل تفاصيلها حاضرة في الوجدان، وعلى رأسها ذلك التشخيص الحزين الدقيق لمأساة مصر المزمنة: “أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين؟ أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالَمًا بأكمله”؟ المصدر موقع «التقرير»