تتوالى الشذوذات الفكرية لأهل التطرف والإرهاب وتكثر بدعهم الخطيرة المخالفة لمقررات الإسلام ومقاصده وما استقر عليه المسلمون واعتمدوه عبر تاريخهم، مما يخلق مفاسد جمة ويحقق أضرارا جسيمة؛ كالافتئات على الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والجرأة على الكلام فى دين الله بغير علم. ولا ريب فإن هناك نصوصا كثيرة يفرغها هؤلاء من سياقاتها ومواردها حتى تدعم اتجاهاتهم وتناسب أهواءهم وتشددهم نحو قوله صلى الله عليه وسلم:”بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم”(مسند الإمام أحمد/ 5114)، فإنهم ينطلقون من ذلك فى ترسيخ أن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم هى رسالة السيف والقتل وإكراه الناس، والمعيشة على عوائد الحرب من المغانم والسبي، وهو ما لم ينجح فيه العائبون على الإسلام من أعدائه وخصومه. نعم إن هذا الحديث مختلف فى صحَّة ثبوته ونسبته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك فإننا نبرز دلالاته وفق مقررات الإسلام ومقاصده وواقع المسلمين عبر العصور؛ لأنه لا يجوز أن تؤخذ ألفاظ مثل هذه الأدلة مفردة هكذا على طريقة “يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة”، دون مراعاة بقية الأدلة الشرعيَّة والضوابط المرعية والاعتبار بسيرته الشريفة وسنته العمليَّة ومسيرة حضارة المسلمين. بئس ما ذهب إليه هؤلاء وما قال أولئك، فإن الشرع الشريف قد بيَّن هذه القضية؛ حيث إنه لم يرد مطلقًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكره أحدًا على الإسلام أو قتل على الهوية أو قاتل من أجل المغنم ومتع الدنيا أو حيازة المناصب واستعباد الناس، بل إنه صلى الله عليه وسلم صاحب اللطف الجميل والرأفة التامة والإشفاق الكامل بالناس والرحمة العامة بالخلق؛ فقد اتحدت الرحمة به وانحصر فيها، كما أخبرنا بقوله: “أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة”(شعب الإيمان للبيهقي/ 1339). ولذا يمكن حمل قوله:(وجُعِل رزقي فى ظل رمحي) على حث الأمة على الاستعداد بقوة الردع لرد أى عدوان دون الاعتداء على أحد، وهذا من أكبر عوامل استقرار الدول وبنائها ومن ثم زيادة رزقها ومواردها، فإن اعتدى على الدولة معتد كان الاستعداد ورد العدوان وما يستتبع ذلك من مكاسب معنوية ومادية، وفى كلتا الحالين تعنى أن رزقه صلى الله عليه وسلم وأسباب معيشته تكون من بيت مال المسلمين لئلا ينشغل عن الدعوة والبلاغ بطلب الرزق والتكسب، وهو ما تكشف عنه الآية الكريمة:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّه)[الأنفال: 41]. وهذا مبدأً تأسس عليه ما صار متعارفًا عليه ومعمولًا به لدى الناس من أن ولى الأمر يكون له راتب مقسوم من خزانة الدولة حتى يتفرغ لشئونهم، فإن أبا بكر رضى الله عنه بعد أن اختير وليًّا لأمر المسلمين، فإنه توجه إلى السوق حتى يتاجر كما هى مهنته، فقابله عمر رضى الله عنه، فتساءل: “ماذا تصنع فى السوق؟”قال: “أعمل لرزقى ورزق عيالي”، فقال له: “قد كفيناك ذلك، أو قد كفاك الله ذلك”، مشيرا إلى الآية التى أوردناها سالفًا. وبهذا البيان الموجز يظهر معنى هذا الشطر من الحديث الشريف وفهمه فى إطار المرجعية الوسطية التى تراعى عند النظر كليات الشرع وضوابطه ومقاصده وما استقر عليه العمل بين المسلمين سلفًا عن خلف، وينهدم أيضًا بنيان هذه الأفكار المتطرفة واستدلالاتهم الفاسدة التى بنوها على مقدمات فاسدة أو على كلام مجمل غير مفهوم مع إساءة الظن بالخلق، وتأسيس ما تحصل به الفتن المتتالية فى الأمة، فضلا عن إشاعتها وترسيخها بين أبناء الوطن حتى تفرق كلمتهم المجموعة، وتُسفك دماؤهم المعصومة بيقين، وتهدر مكتسباتهم وأموالهم وتهتك أعراضهم.. إلى غير ذلك من أمور من شأنها تكدير الأمن العام والإخلال بالسلام الاجتماعى وتشويه صورة الإسلام فى العالمين. لمزيد من مقالات د. شوقى علام مفتى الجمهورية