في ختام عام حافل بالمؤتمرات والملتقيات والورش البحثية من أجل حاضر اللغة العربية ومستقبلها, بدءا من القاهرة وبيروت والمدينة المنورة. جاء هذا المؤتمر الذي أقامته دولة قطر في الدوحة تحت عنوان منتدي النهوض باللغة العربية تحت رعاية الشيخة موزا بنت ناصر, الداعية إليه والمتابعة لجلساته وحواراته وورش بحثه باعتباره المنتدي الأول الذي سوف تتبعه منتديات قادمة. كان الأستاذ الدكتور حسن الشافعي وأنا, ممثلين لمجمع القاهرة فيه, أولنا لعرض مجامع اللغة العربية وإنجازاتها, باعتباره رئيسا لمجمع اللغة العربية ورئيسا لاتحاد مجامع اللغة العربية, أما أنا فشاركت في ورشة بحثية عن اللغة العربية والإعلام, ومعي الكاتبة والإعلامية مريم الخاطر نائب مدير مركز الدوحة لحرية الإعلام التي كانت نموذجا متميزا لتمثيل المرأة في هذا المنتدي. وفي وجه هجمة انتقادية تعرضت لها المجامع اللغوية العربية كان طبيعيا أن يركز حديث الدكتور حسن الشافعي علي الإيجابيات في إنجاز هذه المجامع, بدءا بالعديد من المعاجم اللغوية والعلمية, وألوف المصطلحات التي صاغتها هذه المجامع, بالإضافة إلي تبني مؤتمراتها لموقف اللغة العربية من النهوض بمطالب العصر واحتياجاته وقضايا الترجمة والتعريب وتوحيد المصطلح وفتح أبواب الاجتهاد في اللغة, من خلال النحت والقياس والاشتقاق والترجمة والتعريب وصولا إلي قضية القضايا في العمل اللغوي الآن وهي الحفاظ علي الهوية, والاهتمام بما يطلق عليه الآن حوسبة اللغة العربية. ولا شك أن تقييم إنجاز مجامع اللغة العربية التي نشأت منذ عشرينيات القرن الماضي بادئة بالمجمع السوري فالمجمع المصري في مستهل الثلاثينيات فالمجمع العراقي فبقية المجامع تقييم هذا الإنجاز يحتاج إلي مؤتمر بكامله, يستقرئ ويطلع وينقب ويدرس ويقيم, وإن كان الإنجاز الأكبر دون تحيز مقرونا بمجمع القاهرة, السابق إلي إنجاز المعاجم اللغوية الوسيط, أشهر معجم عربي عصري, الذي يتم تحديثه الآن بعد خمسين عاما علي صدوره, وقد طبع عشرات الطبعات معظمها مسروق في كثير من البلدان العربية والإسلامية, ثم المعجم الكبير الذي بدأ العمل فيه منذ خمسين عاما ليكون أكبر معجم لغوي عربي علي الإطلاق, وقد وصل العمل فيه إلي حرف الراء, والمعجم الوجيز لطلاب المدارس, وهو يلبي احتياجا أساسيا لدي الناشئة التي تريد توثيق علاقتها باللغة العربية في سياق مراحل التعليم الأساسية. في ورشة اللغة العربية والإعلام, كنت حريصا علي إيقاظ الوعي بمآثر الإعلام علي لغتنا العربية العصرية أو المعاصرة لأنه مبدعها وصانعها, منذ نشأة الصحافة في مصر والعالم العربي, وقيام الإذاعات المسموعة والمرئية والفضائيات وصولا إلي عالم اللغة الإلكترونية, بحيث أصبح الإعلام الآن بمثابة القاطرة التي تجر عربات المجامع اللغوية, وتدفعها إلي المزيد من الاهتمام بقضايا العصر وبما أطلق عليه منتدي الدوحة اللغة العربية في حياتنا. واحتلال الإعلام لهذا الدور المركزي في واقع اللغة العربية المعاصر ومستقبلها, يجعل النظرة إلي الإعلامي الذي يتلقي الرسالة الإعلامية- بإحدي اللغات الأجنبية عادة- ولا بد له من تحويلها إلي رسالة باللغة العربية, في أقل وقت ممكن, ليلحق بنشرات الأخبار والتقارير الإعلامية والبرامج المتخصصة والمستوعبة لهذه الرسائل في مجالات المعرفة كافة, هو المسئول عن الابتكار والمغامرة اللغوية, وصياغة المصطلح الجديد المطلوب, دون انتظار للعمل البطيء الذي تقوم به المجامع اللغوية, أو تأجيل لمغامرته اللغوية التي يراهن علي تقبل الذوق لها في معظم الأحيان, وعدم تقبلها في أحيان أخري, وتجعله بمثابة رأس الرمح في قيام اللغة العصرية من خلال الصحيفة والمجلة والإذاعة والتليفزيون والفضائيات والوسائط الإلكترونية بدورها السريع والمؤثر في حياتنا العصرية. وبهذا تصبح العلاقة بين الإعلامي العربي ولغته بمثابة زواج كاثوليكي لا ينفصم. ولقد لمست لدي من قابلتهم من المسئولين عن هذا المنتدي في قطر عدم ميلهم أو ارتياحهم إلي صيغة المجامع اللغوية, في مواجهة من يطالبونهم بإنشاء مجمع لغوي ينضم إلي قافلة المجامع العربية اللغوية ويأخذ مكانه في منظومة اتحاد المجامع اللغوية العربية, وهو الأمر نفسه الذي لمسته لدي كثير من المسئولين عن حاضر اللغة العربية ومستقبلها في دولة الإمارات. ومن الواضح أن الصيغة التي ترحب بها الدول التي لم تتحمس لإقامة مجامع لغوية حتي الآن, هي صيغة مراكز الدراسات اللغوية, التي تقوم علي منهجية عصرية, ورؤية أكثر حداثة لطبيعة المشكلات اللغوية, وصيغة أعمق وأكثر انفتاحا في الوقت نفسه علي الواقع اليومي الذي تمارس فيه اللغة من كل طوائف المجتمع وأبنائه ومستوياته في علاقتهم بها. ولا شك أن مراكز الدراسات اللغوية هذه, قد تنشأ في حضن الجامعات وما أكثرها أو مستقلة وتابعة لأعلي سلطة في الدولة, أو لمن بأيديهم سلطة اتخاذ القرار باعتبارها ذات أهمية قومية وحياتية, مادامت مرتبطة بقضية الهوية, وقضايا التعليم والإعلام والثقافة, مما يمهد لقيام مجلس قومي أعلي يضم هذه الفضاءات الثلاثة, المستخدمة للغة العربية, والمسئولة عن إنتاجها والإبداع بها, والعمل علي تطويرها وتحديثها, واقتحامها المطلوب لتكنولوجيا العصر. وكان في طليعة الظواهر الجديدة علي عالم اللغويين التمثيل المشرف للمرأة في جلسات المؤتمر, رئيسة لها, ومشاركة بجدية وندية في مداخلاتها وأبحاثها, وفي أعمال ورشها وهو أمر لا أظن أن مجامعنا اللغوية قد اعتادته أو اتسعت له من قبل, بحكم أنها لا تزال مجتمعات ذكورية حتي الآن. المزيد من مقالات فاروق شوشة