في سياق الحديث عن كثرة المؤتمرات التي انعقدت طوال الأسابيع الماضية في القاهرة وبيروت والمدينة المنورة والرياض- وقريبا في الدوحة- عن مستقبل اللغة العربية, وهل هي مؤتمرات ذات جدوي حقيقية, ومحققة لبعض الغايات من إقامتها. كان مقال الأسبوع الماضي يحمل وجهتي نظر المتفائلين والمتشائمين. وكان من الطبيعي أن أتعرض لأول هذه المؤتمرات وهو مؤتمر مجمع اللغة العربية في دورته الثامنة والسبعين, الذي انعقد بين19 أبريل و3 مايو تحت هذا العنوان: مستقبل اللغة العربية, عارضا لقراراته وتوصياته, ولأحلام المجمعيين وتطلعاتهم في أن يصبح مستقبل هذه اللغة التي تحمل مقومات الهوية, والهوية وتكتنز بثروتنا الهائلة من التراث الأدبي والفكري والعلمي, وإبداعنا المتدفق عبر القرون, وولوجنا إلي عالم المعرفة والتحضر في عصرنا الراهن ومستقبلنا المأمول, محققا لشروط النهضة والتقدم, قادرا علي الوفاء باحتياجاتهما في كل المجالات. وقلت إن هذه المشكلة لم تعد مشكلة بلد عربي واحد, وإنما هي مشكلة عامة, لابد لها من خطة قومية ركيزتها تنمية لغوية- علي مستوي الوطن العربي كله- ومن مواجهات تحتشد فيها إمكانيات الأمة, ويتداعي لها علماؤها وباحثوها ومؤسساتها اللغوية, من مجامع ومراكز بحثية لدراسات اللغة العربية وأقسام اللغة العربية في الجامعات. وعلي ذكر المجامع اللغوية, فلست أجد حرجا في أن أقول إن الرأي العام- لدي المثقفين والمهتمين بالدراسات اللغوية والأدباء والكتاب- لا يطمئنون كثيرا إلي ما تقوم به المجامع من جهود في خدمة هذه اللغة وروح المحافظة التي تسيطر علي كثير من قراراتها في وجه صور الاجتهاد الذي ينبغي أن يقوم به علماء العصر الحديث أسوة بما فعله علماء العربية في كل العصور. وهذا الاجتهاد أساسه شجاعة البحث العلمي وقدرته علي التغيير والتطوير دون خلخلة للثوابت أو القواعد الأساسية, وفتح الباب أمام القياس والنحت والاشتقاق والترجمة والتعريب والمجاز دون خوف أو تردد. وفي هذا الموقف ما يرد علي كثير من دهشتي, حين كنت ألتقي نماذج من هؤلاء العلماء والأساتذة والباحثين في بعض الأقطار العربية التي ليس بها مجامع لغوية متسائلا: متي ستقيمون مجمعكم اللغوي؟ وما الذي يعوق دون إقامته حتي الآن؟ كنت أسأل سعوديين وعمانيين وإماراتيين وقطريين وبحرينيين ولبنانيين فأجد ردودهم تتضمن موقفا سلبيا من فكرة المجامع اللغوية بصورة أو بأخري, مؤثرين الدعوة إلي إقامة مراكز بحثية لغوية. وكان معظمهم يرد علي سؤالي بقوله: وماذا فعلت المجامع التي أقيمت ومضي عليها أكثر من نصف قرن حتي الآن؟ وهو عمر ينطبق علي ثلاثة مجامع حالية: المجمع السوري الذي أقيم في عشرينيات القرن الماضي, والمصري الذي أقيم في ثلاثينياته, والعراقي الذي أقيم في أربعينياته, أما مجامع الأردن والمغرب وتونس والجزائر والسودان وليبيا وفلسطين فتالية لهذه المجامع الثلاثة. والمشكلة أن المسئولية في هذا الرأي السلبي الذي يطلقه كثير من المثقفين والمهتمين باللغة علي المجامع, يتحملون هم جزءا منها والمجامع الجزء الآخر. فهم لا يقتربون من عمل هذه المجامع ومطبوعاتها المتمثلة في مجلات متخصصة ودوريات للأبحاث والندوات والمؤتمرات, ومؤتمرات سنوية( كالتي يقيمها مجمع اللغة العربية). وما يثار في هذه المجامع من قضايا وموضوعات جديرة بالبحث والمراجعة. ومسئولية المجامع ذاتها عن القصور الإعلامي الذي يحيط بوجوه نشاطها العلمي والبحثي وما تقدمه من خدمة حقيقية للغة العربية, وانغلاق هذه المجامع علي نفسها في كثير من الحالات, وعدم فتح أبوابها- بدرجة كافية- للمهتمين من ناحية وللجماهير بصورة عامة من ناحية أخري. وبخاصة أن مواقع المجامع- إن أقيمت- علي شبكة المعلومات الدولية( الإنترنت) حتي الآن, لا تقدم خدمة حقيقية لمن يرغب في الدخول عليها, مستفسرا ومتسائلا أو معلقا ومشاركا, أو ناقدا أو راغبا في المعرفة. وعزوف الصحافة المصرية والعربية عن أن يكون للمجمع حيز ما- حتي لو كان صغيرا- علي صفحاتها, وكذلك وسائل الإعلام الأخري من إذاعات وتليفزيونات وفضائيات, في الوقت الذي تضخ فيه الآلة المجمعية المصرية والعربية في كل يوم مزيدا من المصطلحات والتعابير والأساليب, يدخل كثير منها في معاجم لغوية وعلمية متخصصة, ويجيب كثير منها عن مشكلات حقيقية يعيشها الباحث وطالب العلم والمشتغل باللغة والطامح إلي تعلمها والتعامل بها والحريص علي الصواب اللغوي والسلامة اللغوية. وأمام حالة الحذر, والموقف السلبي إزاء إقامة مجامع لغوية جديدة في البلاد العربية التي لا مجامع لديها, يبدو أن مجمع اللغة العربية قد تخلي عن التوصية الداعية إلي إقامة مجامع جديدة ضمن توصيات وقرارات مؤتمره السنوي, بعد أن رددها علي مدار أكثر من عشر سنوات دون استجابة واحدة. ويري البعض أن الأمل لا يزال معقودا في بلاد عربية أخري لا تزال تري في صيغة المجمع اللغوي ضمانا للحفاظ علي لغتها العربية وهويتها وانتمائها للثقافة العربية- مثل موريتانيا والصومال, وعن الدول غير العربية التي تنتشر فيها اللغة العربية يوما بعد يوم, ويقبل علي تعلمها المواطنون لأسباب شتي دينية واقتصادية وسياسية مثل إندونيسيا وماليزيا ونيجيريا وتشاد. وهو الرهان الذي يختلف بشأنه من يدافعون عن فكرة المجامع ومن يتحمسون لفكرة مراكز البحث, وبينهما اللغة العربية تنعي حظها كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم. المزيد من مقالات فاروق شوشة