فى ثمانينيات القرن الماضى ابان دراستى بالولاياتالمتحدةالامريكية لفت انتباهى فى المدينة الصغيرة التى اقيمت حول حرم جامعى مَثل معلمها الرئيسى ،مجموعة شوارع تحمل اسم المدينةالصينية وبقعة فى اطراف المدينة يقطنها احفاد هنود حمر كانوا السكان الأصليين للمنطقة ولم يبق منهم سوى اعداد قليلة تحولوا لنقطة جذب سياحى ،بالإضافة لكم من الجنسيات والأعراق لا يخلو منها طريق من كل القارات والجنسيات ،شاء القدر أن يكونوا رفاق غربتى وجيرانى لدرجة دفعتنى لأن أطلق على بيت الطلبة الذى جمعنا عصبة الأمم... ورغم انتمائى لبلد استوعب كل وافد على مر العصور بتلقائية شديدة ،كان كل ما حولى آنذاك يشى بضجيج الاحتفاء بالتعددية الثقافية وقبول الآخر ولو كان مختلفا ،مع التأكيد على حق احتفاظ كل جماعة بقناعتها وثقافتها واحترام الموروث الحضارى أيا كان منبعه أو تاريخه، بدءا من التعايش بين زملاء من جنسيات وخلفيات ايديولوجية متنافرة ومحاولة اكتشاف ثقافات مغايرة خاصة الاسيوية والتردد على المتاجر الصينية والهندية والإيرانية والعربية لاكتشاف أسرار مطابخهم واقتناء منتجاتهم التقليدية وكم المنتجات الصينية التى يتم اقتناؤها (لدرجة جعلتنى اتساءل يوما هل كنت اقيم فى الصين أم الولاياتالمتحدة ؟!)، وصولا لاحتفاء أبناء العم سام بموروث الهنود الحمر الذين أقام اجدادهم مدنا وبنايات على أنقاض معسكراتهم وشاء الحظ أن يكون البيت الذى اقمت به آنذاك احدها!!.. ولكن دوام الحال من المحال فمع بداية الالفية الثالثة تحول الترحيب والفضول للتعرف على ثقافة الآخر لحالة توجس وقلق لمستها فى وسائل المواصلات و الشوارع لمجرد النطق بلغة الضاد مثلما لاحظت التحفز الواضح بين أصحاب البشرة الداكنة والأصوات الصاخبة وكأنهم يفرضون وجودا يشعرون أنه لم يعد مرحبا به ولو ظاهريا.. تُرى هل أبالغ إذا ما قلت أن ما جاء فى السطور السابقة يعكس بالضبط حالة الاحتفاء بالتعددية الثقافية التى بدأت ايديولوجيا فى ستينيات القرن الماضى ثم الانقلاب عليها فى الالفية الثالثة لتطالعنا الآن سطور تنعى التعددية الثقافية وتتنبأ بما بعدها أو تدعو للاندماج القسرى وبالتبعية ذوبان الخصوصية الثقافية واندثار الفنون الشعبية المميزة لكل أمة ؟! ولكن قبل الاستطراد فى تتبع ما لحق بمفهوم التعددية الثقافية يجدر بنا أن نشير الى أن هذا المفهوم ليس جديدا فلقد عرفت الشعوب والأمم فكرة التعدّدية الثقافيّة كواقع تعيشه قبل أن يتحول فى عصرنا لخطاب فلسفى أو توجه فكرى أو سياسي. ولعل أوضح أمثلته احتفاظ مصر بموروثها الثقافى وتلوين الثقافات الوافدة بصبغتها ،وأن الجنسية والدين والملة لم تكن سببا للتمييز فى أزهى عصور الحضارة الاسلامية. فيروى لنا التاريخ سيرة اطباء وفلاسفة وعلماء وفنانين شغلوا مناصب مهمة فى الدولة وذاعت شهرتهم فى تلك العصور مثل الطبيب الفيلسوف جيوَرجيس بن بختيشوع والمغنى زرياب والمؤرخ ابن الاثير مؤلف الكامل فى التاريخ والأديب الفيلسوف بديع الزمان الهمذانى ،وان إدارة المدارس فى عهد هارون الرشيد كانت مُفَوَّضة إلى المسيحيين تارة وإلى اليهود تارة أخري..إلخ. مع ذلك فبعد الحربَيْن العالميّتَين الأولى والثانية وانتهاء زمن الكولونية بكل تداعياتها، اتّخذ مفهوم التعدّدية الثقافية بُعداً إيديولوجياً وسياسياً وحقوقياً دعمته مواثيق دولية،مثل «حقّ تقرير المصيرب» و«بإعلان حقوق الأقليّات» وبقرارات اليونسكو بشأن حماية الموروث الثقافى للشعوب وغيرها. وهكذا اصبحت التعددية الثقافية وتنوّع الأديان والأعراق والثقافات على أساس المواطنة ظاهرة مقبولة فى المجتمعات الغربية فى ستينيّات القرن الماضي. كذلك فقد شهدت تلك الحقبة موجات من هجرة ابناء البلدان التى لا تنتمى لما يسمى العالم الأول إلى دول الغرب ليشكلوا جماعات تمسك العديد منها بخلفياته الثقافية، الامر الذى فرض على تلك الدول أن تتبنى فى الثلث الاخير من القرن العشرين واحدا من منهجين ،إما صهر المهاجرين فى بوتقة الدول والمجتمع الجديد وتبنى المهاجر لقيمهما، أو اتاحة الحرية للمهاجر للحياة فى المجتمع الجديد مع الحفاظ على موروثه الثقافى واحترام التباينات والتعايش مع الاشكاليات الناتجة عن تطبيق فكرة مفهوم التعددية الثقافية ..لكن الواقع ولعبة السياسة أثبتا أن لكلا المنهجين تداعياته التى نعيش نتائجها الآن ..وللحديث بقية . لمزيد من مقالات سناء صليحة;