الأسئلة عن المعنى أو عن الأصول، أسئلة مجهدة بطبيعتها، ولكن يبدو أنه لا غنى عن طرحها دائما، واعتقد أن من صاغ السؤال لا يبحث عن إجابات عامة، وانما عن التصورالذى تولده التجربة الذاتية لكل من يوجه له السؤال ، وهذا هو الأهم . ........................................................... قدم اوبنهايم عالم الفيزياء وأبو القنبلة الذرية تصورا لما يمكن أن نسميه الانعطافة الكبرى فى دور المثقف. وكان العالم الكبير يرى أن الثقافة ظلت استاتيكية الطابع لأزمنة طويلة، كان المثقف يمارس خلالها دورالفاعل الأكبر فى تعريف الجماعة بنفسها وبتاريخها، وكشفه لواقعها، و لعب بذلك دورا محافظا، الا وهو دور الحارس على الهوية المتوارثة للجماعة والعارف بأسرارها، الملم بمناطق قوتها وتفردها، وبقدرتها على إعادة انتاج قيمها كما هى . ولكن تجربة الحداثة أجهزت الى حد كبير على هذا الدور، لأنها انحازت بقوة الى التطور والتغيير. وللتوافق مع طبيعتها الديناميكية ،تحول المثقف الى رافعة كبيرة فى عملية التغيير وتوطين المدخلات الجديدة . واعتقد أننا لا يمكن ان نقتفى أثر المعنى، إلا من داخل الفاعلية او الوظيفة او المهمة الملقاة على عاتق المثقف العربى الآن والمجال الثقافى العربى بكل عيوبه وامراضه اكثر تطورا من المجال السياسي بلا جدال، والدور يتطلب بداية، معرفة بحقيقة واقعنا الثقافى كما هو بالفعل وبلا أوهام ، بعلله الظاهرة والكامنة معا ،ويتطلب ثانيا إرادة وامكانية لتفعيل هذا الوضع وتطويره والحوار من داخله، وهذا فى اعتقادى هو الشرط الضرورى لاكتساب المصداقية. وأقصد فى المقام الأول انتاج الإفكار والمعانى والدفاع عن الحرية وتعظيم دور العقل، والإصرار على الحق فى الإختلاف والتعبير والتعددية، وتلك هى بداية اى امكانية لإيقاظ هذا الجسد الذى طالت غفوته. فالقدرة على انتاج المعرفة ومواصلة البحث والابداع الفنى، وبناء المعنى داخل هذا الجسد المعتل، هى الروافد المانحة للمعنى الذى نسعى لتحديده هنا. ونظرا لتوقفنا منذ عقود طويلة عن انتاج ثقافة قادرة على الجدل مع واقعنا، أو مع روح العصر، فإن الدور الذى يلعبه المثقف عبر نقل المعرفة الانسانية المعاصرة من كافة مصادرها الخارجية الى اللغة والثقافة العربية، لتجاوز الركود ولمقاومة الحرب على العقل، هو دور بالغ الأهمية، وربما يكون سعيه الى اكتشاف مناطق الصلة مع الثقافات الأخرى واحترامه لها وخلق جسور تصلها بنا، هو أحد المهام الملحة الراهنة، لكى تظل علاقتنا كعرب باللحظة الانسانية الحاضرة قائمة ، ولو فى اضيق حدودها. هذا الدور يتخطى مهمة الترجمة، فالبحث عن مناطق التواصل واخصاب ثقافتنا العربية، هو فعل ثقافى واختيار ذاتى فى المقام الأول ، ودور تاريخي للمثقف العربى سواء بالترجمة او الجدل مع المنتج او التقديم أو حتى الإشارة الى قيمته، وخاصة فى لحظة انكسار تجربتنا الذاتية . فمعرفة انجاز الآخرين الثقافى ، يدفعنا للقياس دائما ، ويقودنا الى الاستعانة بتلك الإسهامات الانسانية فى حل أشكالياتنا الخاصة ،ومحاولة التعرف على ذاتنا من خلال قراءة نقدية لنظرة الآخر لنا أيضا . هنا نصل الى قلب المعنى وهو النوعية، فالمنتج النوعى هو الذى يمنح اى كائن معناه ، التحدى الكبير للمعنى، لمعنى أن أكون مثقفا عربيا الآن، هو تقديم منتج نوعى، يحمل قيمتة خاصة الآن.