كانت ساعات معدودة، لكن تبدلت فيها بشكل لا يوصف. دخلت مثقلاً؛ محنى الظهر، خرجت لا أشعر بوقع قدميّ على الأرض. هبطت الدرج، تلقتنى الشمس بأشعتها الحمراء؛ مازالت مستديرة رغم ميلها نحو الغروب. نز العرق من كل جسدي، ضقت بالمعطف؛ كان الجو باردًا قبل معرفتى بالأمر. اعتقدت أنى سأنتقل بالتاكسى إلى الفندق حتى أستريح؛ لكن كل شيء تغير الآن، ضيعنى صدقهم. عبرت الشارع؛ نادانى مقهى عند الناصية، لبيت؛ خلعت معطفى وجلست. لو جئت فى الصباح لطلبت سحلب، أحبه بل كنت أحبه فما عدت أشعر بشيء. سألنى الصبى عما أريد، همست «شيشة وشاى ثقيل». لا شيء يوقف الألم؛ شاى مر أو قهوة سادة، طغى الوجع على كل المرارات، طوى الذى بجوارى جريدته؛ قال «شكلك غريب»، يحلم بحديث طويل يقتل به ملله أو فراغه؛ لو يدرى ما بى لصمت، كرر ظنًا أنى لم أسمعه «من فين؟»، قلت «من الصعيد»، استكمل «منين هناك؟»، أخبرته بأن صداعًا يفتك بعظام جمجمتي. تقمص دور الطبيب؛ راح ينصحني، جاء الصبى بالشيشة والشاي، تناولتها ولم أنتبه لثرثرته. عاد إلى جريدته خائبًا. عبأت صدرى بالدخان لتزيد السموم داخلي. لمحت أطفالاً يلعبون بالكرة؛ على الرصيف يجلس طفل يبدو عليه الحزن؛ لم أتبين ملامحه؛ يضع كفه على رأسه، ينظر إلى أسفل، شعره غزير يشبه شعر رامز الذى توقفت عن التدخين منذ حملت زوجتى به. الآن أعود لعاداتى فهو ليس معى وأظن لن أعود إليه. الكثير من الأوراق على الطاولة؛ بجانب كوب الشاي، تنظر إليّ بوقاحة. أنا صاحب الأحلام الكبيرة؛ صرت رقمًا فى تسلسل المرضى، عبثت بالأوراق؛ أرغب فى تمزيقها وتمزيقي؛ وقعت عيناى على الروشتة التى بها الأدوية التى تمكننى من النوم، يتكالب الألم على رأسى فى المساء، يلوذ النوم بجسد آخر؛ لم يجرِ سكين القدر به. اتجهت نحو الصيدلية؛ وضعت أمام الشابة كل ما طلبت من أموال؛ أموالى التى سقيتها بدمى حتى تنمو، لتجنب غدر الزمان، هاهو الزمان ذاته يغادرني، يطردنى خارجه. عدت إلى المقهى؛ لم أجد صاحب الجريدة، طلبت كوب ماء؛ تجرعت المسكنات، لماذا تخذلنى شجاعتى ولا استطيع ضرب رأسى اللعين بالحائط؟ أو الوقوف أمام سيارة مسرعة لتخلصنى من هذا العذاب. حياتى ما هى إلا مراحل، لكل مرحلة وجع مختلف؛ طفولتى عكرها اليتم؛ شبابى ضاع منى لتوفير حياة أفضل، فاصل سعيد كما الحلم مع أم رامز، حب أعاد لى الروح؛ أزال ندوب اليتم، لم يمهلنى المرض. استنشقت الحياة؛ سلبها مني، نوبات الصداع أفسدت لحظاتي؛ تعجلت الإنجاب، وهبنى الله إياه، ليته ما جاء، سيغرق فى بئر اليتم مثلي، يظل حبلاً يجرجره نحو ذكراي؛ له الكثير من ملامحى وحركاتى أيضًا. أعرف شخصيتها: لن تتزوج بعدي، ستربيه وكأنى موجود, بل أفضل مني، ستعلق صورتى قبل الشحوب؛ لاختلاس البسمة منى فى غرفته، تخبره بمعاناتى وتزيدها بريقًا ليحترمنى أكثر. آلمتنى قدماى من الجلوس؛ سرى الخدر فى ظهري؛ حملت معطفي؛ شعرت بهاتفى فى جيبه، تذكرت أنى أغلقته قبل الدخول، متيقن أن زوجتى اتصلت كثيرًا؛ إن فتحته بماذا سأجيبها؟ مضيت؛ نظرت نحو الشمس لم أجدها؛ سحبتنى خطواتى نحو شارع مظلم.