تداولت بعض الصحف أخيرا صدور تعليمات من البنك المركزى المصرى بحظر استخدام بطاقات الخصم الصادرة من البنوك المصرية عند السفر فى الخارج. الخبر أثار عاصفة من الاعتراضات، وبلغ الأمر قيام أحد نواب البرلمان بإصدار بيان يطالب فيه المحافظ بالمثول أمام البرلمان لمناقشة نواب الشعب قبل إصدار مثل تلك التعليمات! انتهت العاصفة بنفى البنك المركزى إصدار أى تعليمات فى هذا الشأن، رغم أننا بالفعل فى حاجة ملحة لتنظيم استخدام المصريين لبطاقات الخصم فى الخارج، ليس فقط للحد من استنزاف مواردنا المحدودة من النقد الأجنبي، ولكن بالأساس لضرب إحدى الآليات المهمة لعمل السوق السوداء للعملات الأجنبية والضغط على سعر صرف الجنيه المصري. الحكاية أن المواطنين الذين لهم حسابات فى البنوك بالجنيه المصري، تصدر لهم بطاقات الكترونية يستخدمونها عادة فى سحب المبالغ التى يحتاجون إليها من ماكينات الصرف الآلي، وفى دفع قيمة مشترياتهم من السلع والخدمات خصما من حساباتهم. الوضع العادى أن تلك البطاقات تستخدم فى داخل البلاد. البنوك تتيح لعملائها أيضا إمكانية استخدام تلك البطاقات عند سفرهم فى الخارج، سواء لدفع تكاليف إقامتهم ومتطلبات حياتهم اليومية، أو السحب النقدى من ماكينات الصرف الآلى فى البلاد التى يتواجدون بها. المبالغ تخصم بالطبع من حساباتهم.. ولكن خد بالك من أنهم حين ينفقون فى الخارج وحين يسحبون مبالغ نقدية من الماكينات فى الخارج فإنها تكون بالنقد الأجنبي.. بينما حساباتهم بالجنيه المصري, يعنى باختصار هم يلزمون البنك بأن يبيع لهم النقد الأجنبى الذى ينفقونه، ويدفعون له المقابل خصما من حساباتهم بالجنيه المصري. المضاربون وتجار العملات الأجنبية يجدون فى بطاقات الخصم وسيلة نموذجية للاستحواذ على النقد الأجنبى بالسعر الرسمى ثم بيعه للراغبين بسعر السوق السوداء. الموضوع لا يكلف إلا أن تخطف رجلك لإحدى دول الخليج أو إحدى الدول الأوروبية القريبة وتسحب ما شئت من مبالغ بالنقد الأجنبي، وفقا لحجم المبالغ الموجودة فى حسابك بالجنيه المصري، ثم تبيع ذلك النقد الأجنبى بسعر السوق السوداء وتكسب الفرق، وتعيد الكرة بدل المرة ألفا، وتراكم المكاسب من لحمنا الحي. السوق السوداء تجتذب موارد النقد الأجنبى خارج البنوك وتفقدها جزءا معتبرا من الموارد اللازمة لتمويل استيراد الأدوية والمواد الغذائية ومستلزمات الانتاج للمصانع. الأرقام الرسمية تقول إن تحويلات المصريين العاملين فى الخارج خلال الشهور التسعة الأولى من السنة المالية الحالية قد اقتصرت على 12.4 مليار دولار مقابل 14.3 مليار خلال نفس الفترة من العام السابق. طبعا لا شك أن هذا الانخفاض يمكن أن يعزى فى جزء منه إلى تراجع الفوائض البترولية لدول الخليج بما لذلك من أثر على معدلات تشغيل العمالة الوافدة ومستويات أجورها. إلا أن هذا التراجع يعزى أيضا فى احد جوانبه إلى وجود السوق السوداء التى تجتذب جزءا معتبرا من تحويلات المصريين العاملين فى الخارج بعيدا عن البنوك. المكاسب الضخمة للمضاربين وتجار العملة وأباطرة الاستيراد تفسر الحملة الشعواء على الجهاز المصرفى المصرى لوقف أى محاولة لتنظيم استخدام بطاقات الخصم فى الخارج. الحملة ركزت على استخدام المخاوف المشروعة لدى أى مواطن يحتاج إلى السفر للخارج للعلاج أو الدراسة. تعالت الصرخات بالسؤال ما ذا يفعل أولئك المواطنون، وكيف يتمكنون من استكمال مراحل علاجهم أو دراستهم؟ الصرخات تجاهلت أن كل القرارات التى سبق أن أصدرها البنك المركزى المصرى منذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن لتنظيم التعامل فى النقد الأجنبى كانت تنص دوما على استثناء نفقات العلاج والدراسة. الحملة الشرسة على تعليمات البنك المركزى المصرى جرت وقائعها وأنا فى فرنسا التى سافرت إليها بسبب ظروف صحية قهرية استدعت إجراء جراحة والبقاء تحت المتابعة لمدة شهرين. المستشفى الذى أجريت فيه الجراحة أرسل لى فى القاهرة فاتورة مبدئية بكل التكاليف التى يتعين دفعها كاملة مقدما، باعتبارى غير مقيمة ولا أتمتع بالتأمين الصحى فى فرنسا. بموجب تلك الفاتورة، وفى زمن قياسى لم أكن أتوقعه، قام البنك الذى احتفظ فيه بحسابى بتدبير المبلغ المطلوب بالعملة الأجنبية، بسعر الصرف الرسمي، وتحويله مباشرة إلى حساب المستشفى الموضح فى الفاتورة. وعلى مدى أكثر من شهرين قمت باستخدام بطاقات الائتمان الصادرة عن أحد البنوك العامة وفرع لبنك عربى عريق لدفع تكاليف كل مشتريات الأدوية والمستلزمات الطبية وفواتير العلاج الطبيعى فضلا عن الطعام ومتطلبات الحياة اليومية. ولم يحدث أن خذلتنى تلك البطاقات على الإطلاق. البعض يتحدث عما تسببه تعليمات البنك المركزى من مشكلات للمصريين الموجودين فى الخارج للسياحة. وهنا لابد من التذكير بأن لدينا نقصا فى موارد النقد الأجنبي، وأن سفر المصريين للخارج خلال الفترة يناير- مارس 2016 استنزف نحو 1.2 مليار دولار، فى حين أن حصيلة السياحة التى دخلت لبلادنا خلال نفس الفترة لم تتجاوز 550 مليون دولار! يعنى حصيلة السياحة أصبحت سالبة... وهو ما تجاهلته وسائل الاعلام! طبعا الحكومة لا تريد وضع أى ضوابط لتنظيم مسألة تعدد مرات السفر للحج والعمرة. ويشتعل الهجوم ضد أى محاولة لوضع ضوابط على إنفاق النقد الأجنبى من جانب السائحين المصريين فى الخارج. المنطق يتطلب أن يعلن البنك المركزى بكل حسم تطبيق ضوابط لاستخدام بطاقات الخصم وبطاقات الائتمان فى خارج البلاد، ففى النهاية ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى