كالكثيريين من عشاق ثقافة البحر المتوسط، كنت متشوقا للعودة لزيارة إيطاليا. ولكنى كنت هذه المرة مترددا ومتوجسا أيضا. لأنى كنت أشعر بأن موضوع جوليو ريجينى سيواجهنى بالتساؤل. ولكنى فى النهاية حزمت التردد واعتبرت هذه الزيارة فى هذا الوقت فرصة للتعرف على كيفية نظرة الإيطاليين خاصة الشباب منهم إلى هذا الموضوع. زيارة يكون جزء منها بحثا ميدانيا. كما هو معروف، يجمع بين المصريين والإيطاليين الكثير كشعوب منطقة البحر المتوسط الحضارية، بداية من بعض الوجبات إلى التمسك بقيم اجتماعية معينة، مثل أهمية الأسرة، وكذلك العلاقات الشخصية بما فيها المحسوبية! والشيوخ بيننا يتذكرون جيدا وجود أعداد كبيرة من الايطاليين بيننا أو «الطلاينة» كما يسميهم أحيانا رجل الشارع، خاصة فى الاسكندرية، حيث استوطنها الكثيرون فى الواقع فى التجوال فى بلاد المهجر مثل امريكا أو كندا أو استراليا تقابل أحيانا بعض هؤلاء «الطلاينة» الذين ولدوا فى مصر ولا يعرفون معيشيا بلدا غيرها، كالعادة منذ نحو ست سنوات، كانت مقابلتى مع طلبة الدراسات العليا فى كلية العلوم السياسية والاقتصاد فى ميلانو، أهم مدن الشمال الإيطالي. وحسنا فعلت الجامعة بأن يضم برنامج العلاقات الدولية بعض الأساتذة الأجانب خاصة من الولاياتالمتحدة ، سويسرا وأنا من مصر بالاضافة إلى اساتذتهم الايطاليين، وأن تكون الدراسة بلغة أجنبية، فى هذه الحالة باللغة الإنجليزية. وهكذا يقوم هؤلاء الطلاب بالاحتكاك بالعلاقات الدولية عمليا عن طريق التعامل مع اساتذتهم الأجانب، الذى يقوم كل منهم بتدريس مكثف لنحو تسع ساعات فى يومين. كما قلت أعلاه ، أقوم بهذا التدريس المكثف منذ نحو ست سنوات. وبالرغم من تكرار التجربة، فإنها ليست روتينية بالمرة، لأن الطلبة أنفسهم يتغيرون من عام إلى آخر، بل أصبح برنامج الماجستير نفسه دوليا أكثر وأكثر بسبب زيادة عدد الطلاب الأجانب من دول أوروبية أخري، الذين ينضمون الآن إلى زملائهم وزميلاتهم من إيطاليا. ولكن فيما يتعلق بي، كانت التجربة هذا العام كما ذكرت خاصة جدا لأن الكورس نفسه وطلابه أصبح مثل بحث ميدانى عن توجه الإيطاليين خاصة الشباب تجاه أزمة طالب الدكتوراه جوليو ريجينى الذى تم العثور على جثته منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر على طريق مصر اسكندرية الصحراوي. كنت أعرف أن هذا الموضوع يسيطر على أذهان الجامعة من أساتذة ، إداريين وطلاب. ولكن هالنى أن الاستقبال نفسه لم تشبه أى شائبة: نفس الترحيب وحتى نفس الدفء، بل إن الإدارية نفسها كانت منذ وقت فى مدخل الكلية لاستقبال «الضيف الزائر» بالرغم من معرفتى هذا الطريق منذ ما يقرب من ست سنوات. ترحيب وكياسة يُشعرانك بأنك محل اهتمام خاص جدا، وأن هناك تقديرا كبيرا للقيام بهذا المشوار لإعطاء محاضراتك وأن الكل ليس لهم أى عمل آخر غير أن تكون إقامتك ناجحة على كل المستويات: كما هو الحال فى أى لقاء أكاديمي، بدأ الكورس عاديا لتوضيح محتواه وماهية العلاقات الدولية وماهى خصائصها فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. ولكنى لاحظت أن بعض الطلاب قاموا قبل وصولى بمخاطبة البرنامج الإلكترونى «جوجل» فيما يتعلق بكتاباتى السابقة وحتى الكورسات التى أقوم بتدريسها هنا فى مصر، بل قام البعض بالإشارة إلى هذا حتى أكون على علم بأن بعض آرائى الأكاديمية هى معروفة. صراحة لا أعرف إذا كان طلاب الأعوام السابقة قد قاموا بمثل هذه الاستشارة الالكترونية أم لا، ولكنى لاحظته هذا العام فقط. وقد بررت هذا لنفسى بأنه إهتمام وفضول من هؤلاء الطلاب بأستاذ أجنبي. حاولت تجنب الحديث عن ريجينى فى ساعات الكورس الأولي، ولكنى كنت أشعر بأن هذا الموضوع «فى الجو» كما يقال بالعامية. شعرت بأن فضولى لمعرفة آرائهم لا يعادله إلا فضولهم لمعرفة الإجابة عن تساؤلاتهم المتعددة، وأخيرا جاءت المناسبة عندما تكلمت عن أن العلاقات الدولية المعاصرة لا تقتصر على العلاقات الرسمية فقط بين الحكومات، ولكنها بسبب التقدم التكنولوجى فى الاتصالات وكذلك سرعة السفر، فإنها أيضا علاقات بين الشعوب. فسألنى أحدهم عن مستوى السياحة فى مصر حاليا، ثم تأثير هذا على الاقتصاد المصري، وحتى إذا لم يذكر آخر احتمال مقاطعة السفر إلى مصر فى الوقت الراهن، كان هذا مايجول فى عقول بعضهم. كانت المناقشة حامية حتى بينهم هم، ولكنها اتسمت بالأدب وحتى الودية. لم أشعر بالمرة بأن إحدى طوائف الشعب المصرى هى محل اتهام. وسيطر على المناقشة الكثير من التساؤلات حتى الاستغراب: لماذا يتم التضحية بباحث شاب وبهذا القدر من التعذيب والتشويه الذى أظهرته جثته ثلاث نقاط رئيسيه من هذه المناقشة الودية والمفيدة: 1 هناك دهشة من طول الانتظار دون معلومات محددة تتوجه للسؤال الرئيسي: من الفاعل؟ وكلما طال الانتظار، زادت الشكوك بأن هناك محاولة للتغطية على الموضوع أو إخفاء معلومة أساسية، خاصة أن ريجينى اختفى فى وسط البلد وفى يوم كانت قوات الأمن فى حالة تأهب عام. 2 كان هناك ترحيب بلقاء النواب المصريين بزملائهم الأوروبيين، والتعطش لتكرار هذه اللقاءات لكى يكون هناك أكثر من مصدر للمعلومات. وفى هذا الصدد يبدو أن بعض النواب المصريين ركزوا على هذا الجانب الإيجابي، ولم يتنبهوا إلى جانب آخر مهم: المسئولية الملقاة على عاتقهم فى إمداد النواب الأوروبيين بالمعلومة المطلوبة. أى أن الكرة فى أرضنا ولا نستطيع أن نغيب عن الملعب وإلا انتهت المباراة فى غير صالحنا. 3 بالرغم من ضغوط بعض الجماعات، فإن السفير الإيطالى سيعود إلى القاهرة لأنه لايمكن إهمال وزن مصر الاستراتيجي، كما أن علاقات البيزنس هى من الأهمية والخوف من فقدانها، بحيث أنها ستستمر. ولكن العلاقة مع الشعب الإيطالى وخاصة وصول السياح لن تعود إلى سابقها حاليا. بل هناك جهود لتصعيد الأزمة فى النطاق الشعبى إلى المستوى الأوربي. فلتكن لنا إستراتيجية محددة للتعامل مع هذه المستويات الثلاثة. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني