دعى محمد على باشا العبقرى الفرنسي شامبليون على العشاء، وكان بصحبة الطبيب باريزيت، وأثناء تناول الطعام تعرض القائد ابراهيم الى ذبحة قلبية أوقفت تنفسه، أصاب الهلع الباشا على مصير ابنه، فلم يتمالك نفسه وانفجر باكيا، ولكن باريزيت تمكن ببراعته من إنقاذ ابراهيم، كما أجل عودته الى فرنسا،كى يتأكد من شفاء المريض،أراد الباشا وفقا لما ورد بمذكرات شامبليون، إظهارامتنانه للرجلين فقال: “ أحدكما بعث ابنى للحياة من جديد، بينما قام الآخر بإحياء مجد وعزة بلدى، الذى اندثر منذ زمن سحيق “ كان ذلك اليوم فاتحة لعلاقة من الألفة والود المتبادل. وذات مساء كان شامبليون يعرض على الباشا خريطة للدلتا ومجرى النيل، وكانت الخريطة كبيرة ومتقنة، فحظت بإعجاب محمد على ،وأثنى على قدرات الفرنسي الذى رسمها، ولكن شامبليون فاجأ الباشا بكلام أزعجه كثيرا: “ من رسم هذه الخريطة،هو رجل مصري بل وابن فلاح مصري أيضا، نشأ كالآخرين وسط البؤس والفقر والجهل، ولكن هذا العمل المتقن، يشير الى كل ما يمكن أن ينجزه هذا الشعب إذا وجد من يهتم به ويعينه على النهوض. “ صمت محمد على وتجهم عند سماعه هذه الكلمات، ولكنه ابتسم بعد ذلك مغيرا مجرى الحديث، وسأل ضيفه بخفة: ولكن هل كان رمسيس حقا أعظم الفراعنة؟ وهنا سارع ابراهيم بتهدئة روع شامبليون، الذى كان على وشك الانفجار. كان محمد على قائدا عظيما بلا جدال، وعقلا استراتيجيا من طراز رفيع، ورغم ذلك يجمعه مع كل نماذج الاستبداد نفس الموقف من الشعب، ونفس التصور المتعالى لذاته، انها نفس العقلية الحاكمة التي نتوارثها منذ نشأت الدولة المصرية الحديثة، تلك النرجسية، المولعة بتاريخ العظمة، التى لا ترى أى جدارة او براعة فى الشعب الذى تحكمه، ولا تعتبره اهلا للحوار والمشاركة، وتلجأ اليه فى أفضل الأحوال كقوة عمل، لا مانع من جلبها بالسخرة عند الضرورة. الطبيب الذى انقذ ابن الباشا كان شاهدا بدوره على إهانة وجلد الفلاحين المصريين العاملين بالسخرة فى حفر ترعة المحمودية غرب الدلتا. إنها البارانويا، أو بكلمات أخرى تضخم الذات، ويبدو أنه عارض يصيب كافة الطغاة، فتتلبسهم حالة من تقمص الالوهية، يتخيلون فيها أنهم ملهمون يحلقون بأرواحهم فى مناطق لا يطولها البشر، وانهم مكلفون لذلك بمهام استثنائية،لأن ارادتهم هى العليا، فهم كالقدر لن يزحزحه أحد، عقلهم هو الأرجح وإخلاصهم لأوطانهم هو وحده الإخلاص ودونه الندامة، ويأمروننا لذلك بألا نزعجهم بكلامنا التافه، والا نشغلهم بمؤامراتنا الصغيرة، فنحن فى النهاية مجرد شعب. بعد التخلص من مبارك والإخوان، تصاعدت آمال المصريين فى التغيير الحقيقي، ولكن خارطة الطريق التى كان من المفترض أن تكون نتيجة لاتفاق وحوار واسع يخرج بنا من تركة الماضى، هبطت علينا مكتملة. بدأت الرحلة بانتخاب رئيس للجمهورية، ولا نعرف لماذا لم نكتب الدستور أولا، وكان لدينا آنذاك رئيس مؤقت، أما الخطوة الثانية فكانت كتابة الدستور، ولكن الرئيس صرح بأننا قد كتبناه بنوايا حسنة، وكان ذلك مقدمة لتجاهله. كانت الخطوة الثالثة انتخاب البرلمان، ولكن أجهزة النظام، دعمت كعادتها المؤيدين تحت مسميات مختلفة لتمرير كل ما يقوم أو ما سيقوم به لاحقا. وهكذا أنجز النظام خارطة مستقبله بنفسه وبطريقته، ولا جدال فى اننا انتقلنا بهذه الخارطة الى وضع محير، نشعر فيه بأننا قد تقدمنا بالفعل خطوات على الطريق، ونشعر فى الوقت ذاته بأننا نرتد بسرعة مذهلة الى وضع اسوأ مما كنا عليه. النظام الحالى لا يكف عن رسم خرائط مستعجلة، ولقد أرهقنا بمشاريعه العظمى، ولا يسمح للمصريين بالحوار حول جدوى ما يقوم به، ويغلق المجال العام فى وجه أى فاعلية مجتمعية لا يديرها بنفسه، ولما ضاق برغبة الناس فى إبداء الرأى والتقييم والمراجعة، بدأ فى محاصرة وإدانة كل من تسول له نفسه التفكير بشكل مختلف. أفكار النظام ليست فى الحقيقة أفكارا، وانما هى محاولة لاستنساخ نفس العلاقات القديمة التى كادت أن تودى بنا، ولكنه يقدمها الينا هذه المرة ملفوفة بعبارات ميلودرامية ووطنية مفرطة، وهذا هو الملمح الوحيد الجديد تقريبا. أكتملت خارطة الطريق الرسمية إذن بما لها وما عليها، ولم يعد مجديا، أن نجلد ذاتنا لأننا لم نكمل بيدنا ما بدأناه، أو لأننا فوضنا بلا شروط، ولم يعد مجديا بالمثل، أن نفرغ كامل طاقتنا فى الشماته والسخرية من أداء الأجهزة الرسمية، فالانهيار لن يرحم أحدا، أعتقد أننا مطالبون الآن برسم خارطة طريق أخرى،خارطة لا تسقط علينا من أعلى وانما نقررها معا ونرسمها بأيدينا، بنفس الدقة والمهارة التى رسم بها ابن الفلاح تلك الخارطة التى ادهشت الباشا، وهى مهمة صعبة وتتطلب منا مراجعة لأدواتنا المعتادة التى استهلناكها دون نتائج ملموسة. أعرف أن ما سوف أكتبه الآن لا يتجاوب مع مشاعر الغضب التى تتصاعد هذه الأيام، وللغاضبين كل الحق. ولكن الأجدى من الدعاوى المنادية بإسقاط النظام، وتوجيه التهم للمؤسسة العسكرية، فى رأيي المتواضع، أن نبدأ بما لدينا من قوة فعلية على الأرض دون خيالات مبالغ فيها، لنضغط بكل الوسائل السلمية، لمنع تغول الاستبداد، ولوقف عسكرة الدولة، ورفع الضغوط البوليسية التى تحاصرالجميع. فوقف الملاحقة والاعتقال والخطف والتشهير، أصبح الآن شرطا ضروريا، لخلق مساحة آمنة لحركة المجتمع والنخب والقيادات الشابة. الحراك السياسي والمجتمعى هو المدخل بلا جدال، وعبر هذا التحرك السلمى الواسع وحده، يمكن إفراز الكوادر البديلة، حتى لا نصل الى الاستحقاق الانتخابى القادم، ونحن مثلما اعتدنا مفعول به غاضب وساخر وعاجز، كما كنا دائما، فلا يمكن أن نكتفى بالدعوة للتغيير، دون أن نقر بأننا أول من يجب أن يتغير. لمزيد من مقالات عادل السيوى