فلسطين.. وصول شهيدان إلى المستشفى الكويتي جراء غارة للاحتلال على منزل شرقي رفح    مسؤول أمريكي: الضربات الإسرائيلية على رفح لا تمثل عملية عسكرية كبرى    العاهل الأردني: الهجوم الإسرائيلي على رفح يهدد بالتسبب في مجزرة جديدة    لاعب الأهلي السابق: شوبير يستحق حراسة مرمي الأحمر أمام الترجي وليس الشناوي    عبدالجليل: جوميز يتحمل خسارة الزمالك أمام سموحة    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    كاسونجو يتقدم بشكوى ضد الزمالك.. ما حقيقة الأمر؟    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    وكيل صحة قنا يجري جولة موسعة للتأكد من توافر الدم وأمصال التسمم    لا تصالح.. أسرة ضحية عصام صاصا: «عاوزين حقنا بالقانون» (فيديو)    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الثلاثاء 7 مايو بالصاغة    موعد مباراة الأهلي والترجي في نهائي دوري أبطال إفريقيا والقنوات الناقلة    صندوق إعانات الطوارئ للعمال تعلن أهم ملفاتها في «الجمهورية الجديدة»    4 ساعات فارقة.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم وتكشف أماكن سقوط الأمطار في مصر    مصرع سائق «تروسكيل» في تصادم مع «تريلا» ب الصف    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    عملت عملية عشان أخلف من العوضي| ياسمين عبد العزيز تفجر مفاجأة.. شاهد    التصالح في البناء.. اليوم بدء استلام أوراق المواطنين    الأردن: نتنياهو يخاطر بتقويض اتفاق وقف إطلاق النار بقصفة لرفح    بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 7 مايو بالمصانع والأسواق    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثين منفصلين بإدفو شمال أسوان    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    عملية جراحية في الوجه ل أسامة جلال اليوم بعد إصابته أمام فيوتشر    ياسمين عبد العزيز: لما دخلت الإعلانات كان هدفي أكون مسؤولة عن نفسي    ياسمين عبدالعزيز عن بدايتها الفنية: «مكنتش بحب التمثيل.. وكان حلمي أطلع ظابط»    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    وفد قطري يتوجه للقاهرة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس اليوم    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    مصر للطيران تعلن تخفيض 50% على تذاكر الرحلات الدولية (تفاصيل)    عاجل - تبادل إطلاق نار بين حماس وإسرائيل قرب بوابة معبر رفح    «الصحة العالمية» تحذر من أي عملية عسكرية في رفح: تفاقم الكارثة الإنسانية    برلماني يطالب بإطلاق مبادرة لتعزيز وعي المصريين بالذكاء الاصطناعي    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    مصرع شاب التهمته دراسة القمح في قنا    القومية للأنفاق تبرز رحلة بالقطار الكهربائي إلى محطة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية (فيديو)    العمل العربيَّة: ملتزمون بحق العامل في بيئة عمل آمنة وصحية كحق من حقوق الإنسان    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    فيديوهات متركبة.. ياسمين عبد العزيز تكشف: مشوفتش العوضي في سحور وارحمونا.. فيديو    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    تعرَّف على مواصفات سيارات نيسان تيرا 2024    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 7-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ياسمين عبد العزيز: «كنت بصرف على أمي.. وأول عربية اشتريتها ب57 ألف جنيه»    بالأسماء، إصابة 16 شخصا في حادث الطريق الصحراوي الغربي بقنا    في 7 خطوات.. حدد عدد المتصلين بالراوتر We وفودافون    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لأجل النبى
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 05 - 2014

العفو عند المقدرة.. وأنت بمشيئة العلى القدير ستغدو ما بين غمضة عين وانتباهتها صاحب قدرة ومكانة تسلمها لك المقادير طواعية، لقدرة شعب أبىّ أصيل لا يعرف المستحيل.. وإن لمن رحمته بنا أن من بين صفاته وأسمائه الحسنى «القدير»..
وإن لمن نعمته علينا أنه العفوّ والغفور والرحمن والرحيم والرءوف واللطيف.. والسميع العليم الذى يسمع الدعاء ويعلم خائنة الأعين وما تخفيه الصدور.. ونحن بعض من أمهات المحروسة نبتهل للسميع العليم أن يلهم من اجتمعت من حوله القلوب أن يفشى السلام فمولاه السلام.. وإذا ما كان الذى اخترناه وصدقناه وخرجنا عن بِكرة أبينا للميادين تلبية لدعوته قد وعدنا فى عهده بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهو القائل بأن نساء مصر لم يطلبن منه شيئا، وأنهن على الرأس من فوق، فلسنا طامعات سوى باسترداد عيوننا.. فلذات أكبادنا.. أبنائنا من خلف الأسوار.. شباب فى عمر الزهور تأججت فورته بفعل الدماء الطازجة الفائرة فى العروق فانسكبت خارج المسار.. شباب ثائر خرج يقول «لا» و«ارحل» فتحققت مطالبه فاعتاد على احتلال الميادين ورفع اللافتات ولم يعد للبيت للمبيت.. شباب فى السن الرافضة التى عبرنا كلنا خضم أمواجها التى لا يُسمع فيها الكلام، ويضرب بالأوامر عرض الحائط، وتقول له شمال يقول لك يمين، تقول له ثور يقول لك احلبوه، وعندما خرج قانون بمنع التظاهر خرج ليتظاهر مثلما يخرج على أوامر الأبوين نوعاً من إثبات الوجود.. شباب نقى لم يحرق ولم يقتل ولم يتحرش ولم يعاد جُنده ولم يقع فى المحظور.. شباب رفع العلم وأشار بعلامة النصر، ولم يبتر من كفه أصبعا لرابعة فى مسيرة الإرهاب الأصفر داخل القطيع.. شباب أيقظتنا ثورته من سُبات.. نبهتنا من موات.. ألهمتنا الرشاد فى زمن الانغلاق والكساد والفساد.. فتحت أمامنا الطريق لرسم خارطة الطريق.. ويمين الله لولا هؤلاء الشباب المبدع الخلاّق كشرارة أولى للزحف الكبير لما استردت مصر أنفاسها لتعيد ثوابت مجدها التليد، ولا تكدست الملايين أمام صناديق الانتخاب فى العالم أجمع.. ويمين الله ومثلى الملايين لم تطرق أقدامنا أبواب اللجان الانتخابية الصورية بطول البلاد وعرضها على مدى العقود من قبل، فالنتائج كانت معلنة سلفاً من داخل الاتحاد والحزب والهيئة ولجنة السياسات وكشف النبوى أبو إسماعيل بأنها 99٫9٪، وعندما كان يعلو صوت «ميصحش» و«عيب» و«دارى أمورك» و«مكشوفة للأعمى» و«الديمقراطية هى الحل» تغدو النتائج 96٪ وقد تزداد جرعة الرأى والرأى الآخر ليهبط المؤشر الحكيم إلى ما حول التسعين..
ولست أدرى.. وربما أدرى بتلك الرابطة الوثيقة ما بين شعاع الطيبة الذى يتبدى لنا فى عيون ابن الجمالية وبين ما يدفع بنا للإسراع فى طلبنا بأن نستحلفه بالعزيز القدير القول بالإفراج عن هؤلاء الشباب الذى لم تتلوث أيديهم بالدماء، وأبدًا لم يتآمر ولا خان ولا حمل السلاح فى وجه أخيه المصرى، ولا باع نفسه للشيطان، فلم يبق من الزمن سوى ساعات لأجل تكمل فرحة العيلة المصرية فى الجمالية وباب الشعرية والمنوفية وحلايب وتوشكى واسكندرية، وبطول حدودنا الشرقية والغربية والداخلة والخارجة وكوم إمبو وصفط اللبن وجبل الحرام.. لأجل تكون بُشرة خير.. لأجل نجتمع كلنا حول الطبلية.. لأجل أمى تنشف دمعتها.. لأجل أبويا يمشى فارد ظهره رافع راسه يرمى على الكل العواف.. لأجل صفية تكمل شوار زفافها.. لأجل الجيران مايفتكروناش إخوان.. لأجل أختى ماتعايرهاش أخت جوزها بأخيها السجين.. لأجل مشوار الزيارة لطرة مايهدش أعصاب وميزانية العيلة وينقّص المحشى والكفتة من عامود الطعام.. لأجل رمضان يضمنا كلنا.. لأجل القفة يشيلها اتنين وتلاتة وعشرة ومئة من جدعان زى الورد.. و..مازلت أذكر فى الصغر لمّا كنا نطلب من الوالد تحقيق حلم لنا بأن نظل نستحلفه طويلا بالنبى ونضغط بالذات على حرف النون.. وال نّ نّ نّ بى.. والنّ نّ نّ بى.. ومثلها الآن نستحلفه بها.. والنّبى يا سيادة المشير.. سايقة عليك النبى.. لأجل النبى.. اللمّة حلوة والنبى..
سليم حسن... عاشق المحروسة
قالت له أمه الملهوفة على مستقبله بعد أن باعت مصاغها قطعة وراء الأخرى ليتمم دراسته: اسمع يا سليم يابنى لابد تكمل علامك والراجل بيعيش مرة واحدة ولاجل ده لازم يعيشها دكر.. وكان الملك فاروق يكرهه موت ويقول عنه: الفلاح ابن ال..... أخد مال أبويا.. بينما قال عنه الملك فؤاد: سليم حسن شاب يعمل ويجتهد غير أنه لا يرغب أن يرى افرنجيا فى البلد، بل يريد أن يكون هو المسيطر على المتاحف والآثار المصرية.. وإذا ما كان الدكتور سليم حسن عميد الأثريين المصريين قد سمع كلام أمه وعاش دكر، فإنه لم يغضبه كلام الملك فؤاد ولكن أخذه العجب، لأنه وهو الملك الجالس على عرش مصر لا يريد لأبناء بلده أن يكونوا هم المسيطرون على وظائف الحكومة!!.. أما ما نطق به فاروق من سباب فقد كان عالمنا الأثرى يتوقعه بعد أن دخل حربا خفية معه كان فيها يطلق على فاروق لقب لص الآثار الجرئ، وأبدا لم يتنازل عن اتهامه له بسرقة آثار المحروسة ومنها عصا توت عنخ آمون، التى أذيع أنه لم يعثر لها على أثر... «قبل وفاة الملك فؤاد جاءنى أحد أمناء القصر وأنا وكيل مصلحة الآثار ومعه مجموعة آثار كانت فى حوزة فؤاد وقال لي: إنه يرسلها هدية منه إلى المتحف المصري، وعندما أصبح فاروق ملكا أراد استرداد هذه المجموعة الثمينة فأرسل لى مراد محسن باشا ليقول لي: إن الملك يريد آثار المغفور له والده، ولما كنت متوقعا أن يقدم فاروق على هذه الخطوة فقد سجلت المجموعة فى سجلات المتحف، وأصبحت بذلك ملكا للدولة لا تخرج من المتحف إلا بقرار من البرلمان، ورغم علم فاروق بذلك لم يكف عن المطالبة وأرسل لى محسن باشا مرة أخرى فقلت له: أنا مستعد أسلم لكم الآثار بشرط أن تكتبوا إيصالا بأنكم تسلمتموها بصفة أمانة، ومنذ ذلك الوقت أعلن فاروق الحرب ضدى وأخذ يعمل على إبعادى عن المتحف واتهمنى بكل ما شاء من التهم التى تحولت إلى قضية أمام النائب العام ياسين أحمد باشا، ولما فحصها أدرك أنها باطلة ووصفها بأنها بنت سفاح ليس لها أب ولا أصل، وطار ياسين باشا النائب العام فى هذه الزوبعة التى أثارها فاروق ضدي، وفى عام1939 حاول النقراشى باشا إعادتى إلى عملى فثار فاروق، وكان قرار الإعادة يوم الأربعاء فاجتمع مجلس الوزراء ليصدر قرار إبعادى يوم الخميس!!».
ولا ينتهى الصراع الخفى بين الحرامى وحارس الكنز الذى وجد23000 قطعة مفقودة ومسجلة من المتحف عندما قام بجرد محتوياته فى سبعة أشهر انتهت فى أبريل1960، ويروى سليم حسن كيف أحرج فاروق فى عام1946: «كان المتحف المصرى مغلقا بسبب الحرب، وفى هذه الأثناء كانت بعثة من الفرنسيين تعمل في( صان الحجر) لاكتشاف ملوك الأسرة ال21، واكتشفت البعثة آثار كاهن مات فى سن الثامنة رغم أنه كان كبير الكهان واسمه( حورنحت) وتقدر آثاره بنصف مليون جنيه، وكان مدير المتحف فرنسيا اسمه (دريتون) فاتفق مع البعثة على نقل هذه الآثار إلى متحف اللوفر فى فرنسا، وتم الاتفاق أيضا على التقدم إلى الملك أثناء حفل افتتاح المتحف بعد الحرب ومشاهدة الآثار المكتشفة بطلب منحها لهم مكافأة على اكتشافها، واستعانوا بامرأة حسناء أوقفوها عند جناح تلك الآثار فى انتظار وصول الملك.. وجاءنى كبير أمناء المتحف محمود على حمزة ليبلغنى بالمؤامرة، فطلبت منه الإسراع بتسجيل التحف فورا، وفى يوم الاحتفال فوجئ الجميع بحمزة يعلن أنه سجل تلك الآثار وأنها أصبحت ملكا للدولة.. وثار فاروق فى وجه حمزة قائلا: هو أنا سألتك سجلتها ولا لأ.. لقد كان فاروق يريد إجابة البعثة إلى طلبها، ولكنه أحرج، ويومها جمعت مندوبى الصحف وأعلنت أمامهم أن مولانا المبجل يفتخر بهذه الآثار، وبأنها أصبحت ملكا للدولةفأحرج فاروق وقال يومها لرجال السراي: هو برضه الفلاح ابن الكلب اللى عملها فىَّ!.
سليم حسن ابن قرية ميت ناجى بمركز ميت غمر من رأت عيناه النور فى 8 أبريل عام1893 من أبوين فقيرين: «والدى فلاح يعمل بيديه وأسنانه ويكسب لقمة العيش بالعرق والدم والكثير من أعصابه.. وأمى الفلاحة الشامخة بجلابيتها السوداء التى قدمتها بفخر للسفير البريطانى السير مايلز لامبسون اللورد كيرن فيما بعد عندما كان يحلو له زيارتى أثناء عملى فى الحفائر الأثرية فانحنى لها وهو من كان وقتها بمثابة نصف إله شاكرا أمومتها التى أنجبتنى عالما.. فى السابعة تربع سليم أمام الشيخ محمد القادم من كفر الجهنمى ليعلم عيال الكفر فك الخط، وبعدها ذهب سليم مع لوح الاردواز للكتّاب الذى خرج منه حافظا للقرآن الكريم.. ثم أكثر من مدرسة انتهت إلى مدرسة المعلمين العليا قسم آثار التى كان يتقاضى فيها جنيهين راتبا شهريا من وزارة المعارف يقتسمها مع شقيقته راعيته الحنون فى الغربة ليتبقى له جنيه للأكل والمواصلات والكراريس.. «وعشت أياما مريرة أنام على الطوى يصفق الجوع بطنى بينما أنتزع من الجنيه قروشا أشترى بها كتابا أحتضنه ككنز ثمين، وظلت مكتبتى التى تحوى آلاف الكتب تضم بعضا من كتب اشتريتها يوما بدلا من الطعام».. ويتخرج سليم فى سن ال23 مدرسا للتاريخ واللغة الإنجليزية متنقلا بين أسيوط وطنطا، ونتيجة لنبوغه فى مادته طلبت منه وزارة المعارف القيام بتأليف كتب التاريخ لمراحل التعليم الثانوي، وكان وراء ذلك حكاية: «كنت أشرح أحد الأحداث التاريخية للطلبة وإذا بالباب يقرع ويدخل منه رجل بوجه أحمر يرتدى البرنيطة ويمسك بنوتة صغيرة.. لقد كان مفتشا إنجليزيا.. ولم أظهر له اهتماما واستطردت أكمل الشرح، وخرج الرجل وهو يشد على يدى بابتسامة عريضة، ومرت الأيام وتلقيت خطابا كان نقطة التحول فى حياتي، فقد علمت أن ذلك المفتش قد أثنى على معلوماتى وشرحى وسعى ليجعلنى أكتب تاريخ مصر وكنا فى عام1915، وكتبت التاريخ المصرى من بداية الفتح العثماني، وكتبت تاريخ أوروبا فى جزءين، وتاريخ الدول العربية، ودرست كتبى فى جميع المدارس الثانوية والعالية فى ذلك الوقت المبكر».. وتقوم ثورة1919 وتمنعه السلطات هو وزميله فكرى أباظة من مبارحة أسيوط لمدة سنة كاملة، ومع نهاية عام1921 يعين مع محمود على حمزة أمينين مساعدين للمتحف المصرى بإصرار من أحمد شفيق باشا وزير الأشغال صاحب موسوعة مذكراتى فى نصف قرن.
الأثرى المكتشف الذى حصل على الدكتوراه من جامعة فيينا عام1935، وفى يناير1936 أنعم عليه برتبة البكاوية لم تنله لعنة الفراعنة التى حذره منها الإنجليز لتكون الكشوف وكنوزها حكرا عليهم، فعندما رفع الفأس بيده ليبدأ الحفر بأول معول بجوار أبوالهول مباشرة وضرب الأرض وأزاح التراب التقى بالوعد.. حجر كبير باسم «رع ور» تحته أكبر مقبرة ظهرت فى الدولة القديمة كلها، وظل الكشف حديث الصحافة العالمية عشر سنوات، واستمرت الكشوف لتبلغ171 مصطبة ومقبرة وكان يقول بصدد اكتشافاته: «غايتى فى الكشف أن أبلغ إلى أصل الشيء، والكشف عندى ليس مسألة تخمين أو مصادفة بل هى مسألة مبنية على معلومات صحيحة» وكان يرى أن الطريقة المثلى لكشف الآثار أن تكون بريئة من الجرى وراء الكنوز الذهبية، بل يكون غرضها الأسمى إماطة اللثام عن الفجوات الناقصة فى التاريخ وإظهار ما كان لمصر من حضارة. أما عن أسلوبه فى التأريخ فقد وصفه فى الصفحة الأولى من الجزء الأول من موسوعته العملاقة مصر القديمة: «هذه محاولة جريئة أردت بها أن أجمع فى مؤلف واحد تاريخ شعب عريق قديم، له عقيدته وفلسفته فى الحياة. وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته. ولم أتخذ من تاريخ الملك الفرعون نموذجا لتاريخ شعبه كما جرت العادة بذلك فى الكتب، ولم أجعل حياته وعاداته ونظمه وثروته ومعتقداته مقياسا للحكم على أحوال رعيته، فقد يكون الفرق بينهما كبيرا والهوة سحيقة. بل جعلت حال الشعب أساسا لما كتبت، وفى ذلك ما يقربنا من الحقيقة ويجنبنا مزالق الخطأ والضلال».. لقد اختار سليم حسن أن يفسر تاريخ مصر تفسيرا شعبيا.. فالشعب يفسرالملوك، وليس الملوك هم الذين يفسرون حياة الشعوب.
ولأنه درس التاريخ الذى كتب علينا أن نحياه يوماً لا أن نقرأه فقط من جديد، فقد دونه سليم حسن كما جاء فى بردية ليدن مع نهاية الأسرة السادسة عام2500 قبل الميلاد الذى صور فيها الحكيم إيبو ور عصر الفوضى والتدهور الداخلي.. عصر الانحلال: «لقد اختفت مصر من الأعين فجأة وصارت فى ظلمة كأن مصيبة عظمى قد نزلت بها.. قضى على الضحك ولم يعد يسمع، بينما أخذ الحزن يتمشى فى طول البلاد وعرضها ممزوجا بالأسي، وكره الناس الحياة حتى أصبح كل واحد منهم يقول: ليتنى مت قبل هذا.. والأطفال الصغار يقولون: كان عليه ألا يجعلنا على قيد الحياة.. والأطفال حديثو الولادة يلقون على قارعة الطريق، وألقى المواطنون على أحجار الطواحين الخامدة، وتولى الغوغاء مراكز الطبقات العليا، والقلوب صارت ثائرة، والمصريون أصبحوا أغرابا وأهملوا جانبا، وأصبحت الأرض تدور كما تدور عجلة الفخار، وفارق النبل الدنيا، وأصبحت ربات البيوت يقلن أنيَّ لنا ما نأكله، وذبلت أجسادهن فى الأعمال، وتحطمت قلوبهن من ذل السؤال، وأصبح الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل يجلدون بالسياط.. وأصبح اللص صاحب ثروة، وتحول النهر إلى دماء عافتها النفوس، وأصبحت البلاد مليئة بالعصابات حتى أن الرجل يذهب ليحرث أرضه حاملا درعه، وشحبت الوجوه وكثر المجرمون ولم يعد هناك رجال محترمون، وصارت النساء عاقرات».. ويوجه الحكيم إيبو ور فى عام2500 ق.م رسالته فى البردية التاريخية للحاكم: «إن الصدق والقيادة والفطنة معك، ولكنك لا تنتفع بها، فالفوضى ضاربة أطنابها فى طول البلاد وعرضها، ولكنك مع ذلك تتغذى بالأكاذيب التى تتلى عليك رغم أن البلاد أصبحت قشا ملتهبا».
وفى محاولة لقراءة عالم الآثار الكبير ذهبت فى جولة لزيارة مكتبته لأقترب من أوراق كتبها وقراءتها وهضمها.. ذهبت إلى مكتبته التى انتقلت عن طريق ورثته للجامعة الأمريكية فى عام1980 فوجدت مؤلفاته قد بلغت نحو53 مؤلفا بالعربية والفرنسية والإنجليزية تتصدرها موسوعته مصر القديمة.. هموم4 آلاف سنة، وخمسة آلاف صفحة فى عشرة آلاف يوم إلى جانب موسوعة باللغة الإنجليزية من16 جزءا عن حفريات منطقة الجيزة لم تتم ترجمتها بعد..ومئات الكتب فى الفن والأدب والفلسفة والشعر، ومما استوقفنى فى مكتبته من كتب التاريخ النادرة رحلة إلى بلاد النوبة من تأليف الفرنسى كلييود عام1826 المصحوب بالرسوم والخرائط التفصيلية التى استعان بها سليم حسن عندما أسندت إليه مهمة المشاركة فى نقل آثار النوبة ومنها معبد فيلة وأبوسمبل أثناء بناء السد العالى ليجتمع بعدها المجلس الأعلى لأكاديمية العلوم فى نيويورك وينتخبه بالإجماع عضوا فى الأكاديمية التى تضم1500 عالم من57 دولة، وهى أكبر أكاديمية علمية فى العالم، وجاء فى قرار الانتخاب أن الأكاديمية قد رشحت الدكتور سليم حسن لعضويتها لما له من فضل على العلم، ويعد سليم حسن أول عالم عربى يدخل الأكاديمية العالمية التى أنشئت عام1817.. وخرجت من مكتبة سليم حسن مؤمنة بموسوعية المعرفة لدى الرائد الراحل عاتبة ألا تكون هذه الكنوز فى الجامعة المصرية وليس الأمريكية، وابتلع عتابى عندما أعرف من السفير أحمد سليم حسن الابن والوريث الوحيد أنه ظل يعرض مكتبة والده على جامعة القاهرة 10 سنوات بلا مقابل فلم يلق ردا، وعندما عرضت على الجامعة الأمريكية أتت فى اليوم التالى مرحبة لتخصص لها قاعة كبرى باسم سليم حسن الوحيد الذى لم يأت ذكره فى الاحتفال بمرور مائة عام على إنشاء المتحف المصرى وكان أول مصرى يعمل به فى منصب الأمين، ولا يقبل مبدأ القسمة، أى قسمة جميع أعمال الحفر الذى يقوم بها الأجانب بينهم وبين مصر، وعندما أراد الإنجليز اقتسام آثار توت عنخ آمون وقف فى وجههم مطالبا بتقدير المبلغ الذى أنفقوه فى الحفر، فقدره كارتر ب48ألف جنيه، دفعتها له مصر، وبقيت آثار عنخ آمون كاملة بدون قسمة، لم يفقد منها إلا العصا!!!
العملاق طولا وقدرا عاش فى بيت رومانسى صغير شيده بالقرب من الأهرامات مما يتيح له أن تكون على مرأى من ناظريه، تحيطه حديقة صغيرة غناء يجمع فيها ألوانا من الزهور يرعاها ويسقيها بنفسه، يصحو مع الفجر للصلاة ويجلس ليكتب ويفتح كتبا قديمة صفراء ليكتب صفحات منيرة بيضاء، وفى الأنحاء نسخ من تماثيل فرعونية تردد وتجدد حكاياتها، وعلى الحوائط لوحات رائعة من نسيج ناعم طرزتها أنامل زوجة فنانة شاركته عشق التاريخ، ونقلت مواقعه ومعاركه بالتطريز فى دقة بالغة... العالم الذى تزوج مرتين وعاش فى دفء الاحتضان لم تكن العواطف مركزا لاهتمامه ولا كانت المرأة شاغله الشاغل، اللهم إلا إذا كانت مرتبطة بالتاريخ والأثر كاعتنائه بشخصية كيلوباترا التى خرج برأى قاطع فيها بأنها لم تكن مبتذلة كما صورها خيال الأدب وإنما كانت سياسية داهية، وأعف نساء عصرها، وكانت تريد الخير لمصر الوطن الذى تأثرت بثقافته ونهضته وشربت من نيله المقدس..
وإذا ما كان لابد من الأنثى المعاصرة فى حياة مكتشف مقبرة الملكة خنت كاوس آخر ملوك الأسرة الخامسة، وأول امرأة حملت لقب ملكة فى التاريخ التى صممت مقبرتها على هيئة تابوت أقيم فوق صخرة مما جعل مكتشفها يطلق عليها اسم الهرم الرابع فقد كانت هناك الأنثى المعاصرة وإن كانت أيضا مسكونة بحب الفراعنة.. حسناء إنجليزية شغوفة بالفراعنة منذ الطفولة وقعت فى صباها فى حب مدرس مصرى أثناء بعثته لإنجلترا، وتزوجت منه وأنجبت ابنها سيتى لتحقق أملها من بعد انتهاء البعثة فى القدوم لمصر، ولما اشتد بها هوس الفراعنة، وظهر جموحها فى عشق الحيوانات وتقديسها لآلهة قدماء المصريين ومنهم العجل أبيس، وتقديمها الطعام للثعابين، قام زوجها بتطليقها لتذهب يوميا لمنطقة الأهرامات لاستنشاق عبق التاريخ فتلتقى هناك بالدكتور سليم حسن لتعيش معه مرحلة حفائره فى منطقة الجيزة بجوار «بول حول» الاسم الحقيقى لأبى الهول ومعناه مكان عبادة الشمس، وتعيش عاشقة الفراعنة فى إحدى المقابر الأثرية وتقوم بعمل السكرتيرة للعالم الأثرى المصري، وتغدو بمثابة ذراعه اليمنى فى مراجعة مسوداته وكتبه.. وبعد رحيل سليم بك تهجر أم سيتى مقبرتها وأهراماتها لتذهب إلى منطقة العرابة المدفونة فى الصعيد لتحيا بقية أيامها وتموت لتدفن بها كما جاء فى وصيتها.
سألوه قبل رحيله بخمسة أيام وكان يعمل وقتها لمدة21 ساعة يوميا متى تنتهى من تأليف موسوعتك عن النيل التى طلبها منك جمال عبدالناصر؟.. فأجاب وابتسامة غامضة على شفتيه: بعد أن أنتهى من كتاب كليوباترا.
* ومتى تتم كليوباترا؟
- لا أدرى فهناك شعور داخلى يهمس لى بأنى لن أتم كتابتها..
* لماذا تشرد بعيدا.. هل هو التحليق مع روح أخناتون؟
- لا وإنما أحلق مع أحزانى لما لاقيته من عقوق ومازلت ألاقيه من البعض، حتى من هم فى سن أولادى يستدعوننى الآن إلى مكاتبهم لأتلقى أوامرهم بطريقة فظة تشعرنى بالمهانة.
وتبقى كلمات سليم حسن التى قالها بسخرية مغموسة بالحزن: «الحياة كوميديا للذين يضحكون، ومأساة للذين يتأثرون!!» ويمين الله لو أن سليم حسن كان حيًا بيننا الآن لأضرب عن الطعام حتى ولو أتاه الموت فى سبيل أن ترجع الصين عن غيِّها وتطاولها بعدما أتت أمرًا إدًا وخطيرًا باستنساخها تمثال أبى الهول بحجمه الطبيعى على أرضها ظناً أنه كمثل فانوس رمضان وعروسة المولد وسجادة الصلاة ببوصلة الآذان وعجينة الطعمية، حيث تم استباحتها لتراث الفن الشعبى، وأتى الدور الآن على التراث الفرعونى.. لكن.. الفانوس حاجة وأبوالهول حاجة ثانية خالص وعلى الست «ايرينا بوكوفا» مديرة منظمة اليونسكو تفعيل دورها المغتصب من وزير ثقافتنا السابق فاروق حسنى بتطبيق ما جاء فى الفقرة الثالثة من المادة السادسة لاتفاق اليونسكو الموقع عام 1972 الذى ينص على تعهد جميع الدول أطراف الاتفاق ألا تتخذ متعمدة أى إجراء من شأنه إلحاق الضرر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتراث الثقافى والطبيعى الواقع فى أقاليم الدول الموقعة للاتفاق.. ويبدو أن ظلال سنة مرسى السوداء لم تزل تعتم على بعض الأجواء بعدما استبيحت مصر بأرضها وترابها وحدودها ونيلها وأمنها القومى ليمتد التطاول الآن إلى هيبة أبى هولها أيضاً.. لكن على أصحاب العيون المائلة على نهرى «اليانجتسى» و«الميلونج» فى بر الصين أن يكون فى علمهم أن الأسد الصامت الرابض حارساً للأهرامات قد تمطى وقام يزأر ليقف الخلق جميعاً ينظرون إلى تاج العلا فى عودته لمفرق الشرق.. «مصر السيسى»..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.