الجمع بين الدراسة الأكاديمية للعلوم والسياسة العملية والتعامل مع نظامين دوليين مختلفين، أتاح للدكتور بطرس غالى أن يبلور مدرسة محددة فى التفكير السياسي، وفى تحليل الظواهر السياسية، وأن يختبر مقولات تلك المدرسة فى الواقع العملي، مما مكنه من تطوير رؤية سياسية واقعية، تعرف الفارق بين ما يقال فى قاعات الدراسة الجامعية، وما يصلح للتطبيق وتعرف حدود الممكن والمستحيل فى النظام السياسى وفى العلاقات الدولية. وقد سبق أن عرضت لأسس تلك الرؤية فى بحث منشور فى السياسة الدولية سنة 1992 اكتفى بالإحالة إليه. فى كل المواقع التى شغلها، كان حريصا على مصالح وطنه دون تمييز مذهبى أو شخصي، وعلى تحقيق مصالح زملائه وتلاميذه دون محاباة. ونعلم أنه لم يعط الولاية الثانية كأمين عام للأمم المتحدة لأنه تحدى الولاياتالمتحدة ونشر تقرير قوة الأممالمتحدة فى جنوبى لبنان الذى أدان اسرائيل لتعمدها قصف معسكر قانا الذى لجأ اليه بعض المدنيين اللبنانيين وأسفر عن استشهاد بعضهم. طلبت منه مادلين أولبرايت عدم نشر التقرير حفاظا على سمعة اسرائيل، ولكنه نشره رغم علمه بأن ذلك قد يكلفه عدم التجديد له، وهو ما حدث بالفعل. فالمبدأ عند الرجل كان أهم من المنصب. وفى التصويت على التجديد صوت 14 عضوا لصالحه واستخدمت الولاياتالمتحدة وحدها حق النقض، فى واقعة فريدة وقفت فيها الولاياتالمتحدة ضد العالم. ورفض الرجل العرض الأمريكى بالتجديد له لمدة عامين فقط احتراما وترك المنصب مرفوع الرأس والقامة. عرفت الدكتور بطرس غالى منذ سنة 1965 ، حيث درست على يديه كتابه الرائد التنظيم الدولى وعلمنا أصول البحث العلمي، وحضرت كل جلسات مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراة فى العلوم السياسية التى كان يرأسها فى جامعة القاهرة. وكانت تلك الجلسات تتسم بالجدية والصرامة المنهجية. من ثم كنت تجد فى المجلة أسماء كبار الأساتذة بجانب أسماء طلابهم دون تمييز. ونشر لى فى المجلة أول دراسة كتبتها بعد تخرجى من الجامعة عن سياسة الاتحاد السوفيتى تجاه القضية الفلسطينية نشرت سنة 1969، وأخرى عن سياسة الصين تجاه القضية ذاتها سنة 1971. وكانت الدراستان هما الدافع نحو اهتمامى بآسيا. وفى كل ذلك كان يقدم لطلابه وزملائه نموذج الأستاذ دمث الخلق الذى يلتزم بأدب الحوار واحترام الجميع ولا يحفل بالرد على الذين كانوا يحاولون اثارته بالاشارة الى اغتيال جده، أو أولئك الذين كانوا يطعنون فى علمه رغم أنه كان يعلم أنهم لا يحملون شهادة الدكتوراه فى تخصصهم. وربما لايعرف الكثيرون، أن بطرس غالى ألف فى مجال الدراسات الاسلامية، رغم ديانته المسيحية. اذ نشر كتابا بعنوان الجامعة الاسلامية وثق فيه للحركة التى قادها الأفغانى لبناء تلك الجامعة، وكانت من أولى الدراسات التى كتبها أستاذ للعلوم السياسية فى الوطن العربي. وربما كان الاختلاف الوحيد الذى سجله بعض أبناء جيلى معه كان حول معاهدة السلام مع اسرائيل، حيث كنا نرى أن مصاحبته للسادات فى زيارة اسرائيل سنة 1977 مثل تنازلا مجانيا لم تحصل مصر على ثمنه. وكان الأولى أن تتم الزيارة بعد انهاء المفاوضات وليس قبلها. ولكن الرجل لم يكن مسئولا عن هذا القرار، اذ أنه استدعى فجأة لمصاحبة السادات الى اسرائيل وكان عليه أن يتخذ قرارا بالمشاركة فى المفاوضات المرتقبة أو الابتعاد كلية عنها. ولم يكن بطرس غالى ممن يتخلون عما يعتقدون أنه مصلحة وطنهم مهما كانت التضحيات والانتقادات. كان الراحل العملاق يؤمن ايمانا عميقا بأهمية العمق الافريقى لمصر، وأن هذا العمق يتطلب بناء شبكة علاقات متكاملة مع دول القارة. وفى هذا الصدد وظف كل الأدوات المتاحة لتحقيق هذا الهدف . وفيما بين عامى 1980و 1984 أوفدنى فى رحلات أكاديمية الى اثيوبيا، وزامبيا، وكينيا لالقاء محاضرات عن العلاقات المصرية الافريقية. وبعد كل زيارة كان حريصا على أن يستمع منى مباشرة الى انطباعاتى ويقترح ان أرشح زملاء أفارقة لالقاء محاضرات مماثلة فى الجامعات المصرية. وفى هذا الاطار نظم الدكتور بطرس تجمعا أكاديميا فريدا من نوعه وهو «الحوار الافريقي-اللاتيني،» وهو حوار بين الأكاديميين الأفارقة والأمريكيين اللاتينيين انعقد فى مصر وبعض دول أمريكا اللاتينية دوريا لمناقشة القضايا التى تهم القارتين ابتداء من سنة 1982 وقام بدعم نشر أعمال هذا الحوار. يمكن أن أستطرد فى الحديث عن مساهماته الشخصية فى تعميق فكر حركة عدم الانحياز ، وقد رأيته يعمل بلا كلل لكى يؤصل فكر الحركة فى اطار الجدل حول انعقاد مؤتمر قمة عدم الانحياز سنة 1983 وتحول الى الانعقاد فى الهند. فقد دعا الدبلوماسيين اليوجوسلاف والهنود الى القاهرة للتحاور مع أقرانهم المصريين حول أزمة حركة عدم الانحياز. وكان يشارك فى الحوارات ويمضى الساعات الطويلة مع الوفود لطرح أفكاره والاستماع الى أفكارهم . كما عارض الغاء حركة عدم الانحياز بعد نهاية القطبية الثنائية سنة 1991. وبعد تركه للعمل الدبلوماسى المصرى اقترحت مصر على مؤتمر قمة الحركة المنعقد فى جاكرتا سنة 1992 الغاء الحركة وكان رد قادة عدم الانحياز بالرفض فى انتصار معنوى لفكر بطرس غالى رغم أنه لم يكن شريكا فى المؤتمر. وفى كل ذلك كان يوظف أموال المصريين بكل رشادة. وبعد تقاعده من العمل الدبلوماسى الدولى تفرغ لاصدار سلسلة من الكتب التى لخص فيها خبراته السياسية. وكانت آخر مواقفه المشهودة هى تأييده لثورة 30 يونيو فى حديث مع مجلة جون افريك فى 15 اكتوبر سنة 2015 قال فيه: عرفت السيسى قبل توليه السلطة. وهو رجل يستمع، وأسئلته ذكية، تردد كثيرا فى تولى السلطة، لكنه قرر أن يفعل ذلك لأنه لا يوجد حل آخر. السيسى أنقذ مصر من أصولية الإخوان . وفى هذا الصدد فاننى أقترح تشكيل فريق بحثى يتولى تجميع ونشر الأعمال الكاملة للدكتور بطرس غالى بحيث تكون متاحة للأجيال الجديدة. كما أقترح أن يكتب أحد الباحثين رسالة ماجستير عن فكره السياسى واسهاماته فى حقل العلوم السياسية. لمزيد من مقالات د. محمد السيد سليم