عدد قليل من الشخصيات المصرية النادرة في تاريخ مصر يصعب أن تختصر حياتها في بضعة سطور, لذلك فان مهمتي في الكتابة عن أستاذنا محمد حسنين هيكل أشعر بأنها بالغة الصعوبة. الأستاذ هيكل يستحق أن تكتب عنه مجلدات, فلمن أكتب من بين هؤلاء: الأستاذ هيكل: الصحفي ورئيس تحرير الأهرام الذي وصفه رئيس تحرير نيويورك تايمز في أول السبعينيات بأنه الصحفي رقم واحد علي مستوي العالم, أم السياسي ذو الرؤية والتحليل العلمي والنظرة المستقبلية.. وقلق علي ما يواجه وطنه من تحديات خارجية وداخلية, أم أكتب عن السياسي والمثقف الموسوعي وعن متابعته لكل ما يجري من منتديات الثقافة خارجيا وداخليا. الفراغ السياسي الذي يتركه أستاذنا الراحل, يصعب أن نجد من يملؤه. بصمات الأستاذ هيكل المطبوعة علي الصحافة والأهرام كجريدة يومية ومؤسسة صحفية لا تمحي, وجهوده في إعادة بناء الأهرام, وبعد مائة عام من صدوره ليصبح خلال الستينيات والسبعينيات ضمن أهم عشر صحف تأثيرا في العالم سوف تظل ضمن الصفحات ناصعة البياض في تاريخ الصحافة المصرية, سوف يذكر التاريخ أيضا أن الأهرام تحت قيادته تجاوز توزيعه منذ أول السبعينيات المليون نسخة يوميا, وهو ما لم يتحقق لأي صحيفة مصرية أو عربية, وسوف يذكر أيضا تحت قيادة أستاذنا الراحل أن الصحيفة لم تعد مهمتها الانفراد بالخبر والسبق الصحفي رغم أهميته القصوي بل تجاوزت الخبر إلي التحقيق الصحفي والصورة التي تتحدث عن موقف أو حدث أبلغ من أي كلام. الأستاذ هيكل وجه اهتمامه أيضا للقارئ; الأهرام ارتبطت بعلاقة خاصة مع قارئها, أصبحت تعبر عن أفراح وأحزان المصريين, تستقبل في صندوقها البريدي مشاكل القراء الاجتماعية والإنسانية وتوجه خطاباتهم إلي المتخصصين لحلها. أدخل في الصحيفة اليومية الكاريكاتير السياسي والاجتماعي, وعن الأهرام أخذت الصحف اليومية هذا الفن الذي أصبحت به منافسا للمجلات الأسبوعية. كان شجاعا في الرأي, لا يتسامح مع الخطأ أيا كان مصدر هذا الخطأ, ففي منتصف الستينيات أصدر الأهرام صفحة الرأي التي استقبلت الآراء من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار, وكان بعض هذه الآراء ينتقد بشدة بعض السياسات وسلوكيات كبار المسئولين في عصر الرئيس جمال عبدالناصر, وكانت هذه الصفحات التي يشرف عليها الأستاذ لطفي الخولي تحذر من ممارسات بعض المقربين من الرئيس عبدالناصر دون حظر الطبقة الجديدة التي تسعي للحصول علي مكاسب ضد مصالح الفقراء. ووقف الأهرام إلي جانب القطاع العام والعمال ضد من يتآمرون عليه وعلي الطبقة العاملة. انتقد هيكل بشجاعة تجاوزات أجهزة في الأمن خلال حكم الرئيس عبدالناصر ومن بعده الرئيس أنور السادات, وكان الأهرام أول صحيفة تتحدث عن زوار الفجر وتنتقد عدوانهم علي المواطنين وعلي حياتهم الشخصية. لم يكن أستاذنا الراحل يتصور أن يعتدي أي مسئول مهما كان موقعه علي الأهرام أو علي صحفي بالأهرام, فمن منطلق احترامه للمهنة منع نشر أي أخبار عن جلسات مجلس الشعب ورئيسه أنور السادات, لأن الرئيس الراحل منع دخول الصحفي الشاب محمود أحمد رحمه الله مندوب الأهرام في المجلس النيابي من الدخول لمتابعة الجلسات, بسبب نشره خبرا صادقا يتعارض مع رغبة رئيس المجلس في كتمانه وعدم إذاعته. استمر امتناع الأهرام عن نشر أية أخبار عن مجلس الشعب طوال ثلاثة أسابيع حتي تدخل المرحوم المهندس الزراعي سيد مرعي وكيل المجلس, وأجري صلحا بين السادات ومحمود أحمد وبعدها فقط سمح الأستاذ هيكل رئيس التحرير بنشر أخبار المجلس علي صفحات الأهرام. الأهرام في كل العواصم خلال قيادته كان الأهرام ينتشر في كل قارات وعواصم العالم وراء كل الأحداث الساخنة, وكان محررو الجريدة يلتقون مع قادة العالم في مكاتبهم. وكان الأهرام قبلة كبار الزعماء والسياسيين والمثقفين حول العالم, فقد التقيت لأول مرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مجلة الطليعة التي يصدرها الأهرام والرئيس الجزائري بن بيلا والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران والشاعر الفلسطيني محمود درويش. وكان الأستاذ هيكل بالنسبة لهؤلاء القادة والزعماء المصدر الذي يتعرفون من خلاله ليس فقط علي السياسة المصرية بل وعلي المجتمع والثقافة المصرية التي ازدهرت خلال حكم الرئيس عبدالناصر وانطبع هذا الازدهار علي صفحات الأهرام. وكما كان للأهرام السبق في الخبر والتحليل السياسي والتحقيق الصحفي, انفرد في تقديم أحدث تكنولوجيا الطباعة علي صفحاته, فقد أوفدني الأهرام في عام1971 مع المهندس محمد تيمور إلي ألمانياالغربية في ذلك الوقت, لدراسة الصحافة الإليكترونية وكان ماكيت إخراج الصفحة يعد علي الشاشة الصغيرة وتنقل الصفحات إليكترونيا إلي المطبعة وهو ما عرف بالطباعة الباردة التي حلت مكان الطباعة الساخنة حيث كانت تجمع مواد الجريدة بواسطة ماكينات الجمع بالرصاص يذ درجات الحرارة العالية جدا والتي كانت تعرض عمال الجمع حتي أواخر السبعينيات إلي تسمم الرصاص وهو مرض خطير كان يمنع العامل بعد إصابته من الاقتراب من هذه الماكينات, وقد نقلت بقية الصحف المصرية هذه التكنولوجيا عن الأهرام. الصحف.. والأحزاب السياسية الأستاذ هيكل لم يكن عضوا طوال حياته في أي حزب سياسي, وبرغم صداقته ودفاعه عن الناصرية لم يكن عضوا في هيئة التحرير فقد كان يؤمن بأن الصحفي يجب أن يكون موضوعيا غير منحاز لأي حزب سياسي أو ينتمي لأي ايديولوجية تمنعه من التجرد والحكم علي الأحداث من خلال انتمائه الحزبي والسياسي. وقد كانت نظرة الأستاذ هيكل صائبة في موقفه من الانتماء الحزبي, وقد شهدنا خلال سنوات حكم مبارك كيف ابتذلت الصحافة وانحط مستوي المهنة عندما تولي رئاسة التحرير والمؤسسات الصحفية قيادات متوسطة الكفاءة, كانت مؤهلاتها في الصعود هي الانتماء لمبارك ولحزبه غير الوطني. كان الأستاذ هيكل هادئ الطبع لا يغضب أو يثور في اجتماعات التحرير إلا إذا انفردت صحيفة بخبر لم ينشر بالأهرام. وكان يؤكد دائما علي الالتزام بالصدق والتجرد في تغطية أي أحداث, حتي الأخبار الرياضية بالرغم من أنه لم يكن يقرأ صفحات الرياضة كان يطالب محرري الرياضة بالموضوعية في التعليق علي المباريات, وعدم الانحياز للأندية احتراما لحق القارئ في التوصل إلي الحقيقة. وبهدوئه المعتاد طلب من الأستاذ نجيب المستكاوي عدم الهجوم علي نادي الزمالك, وكان أحد المحررين قد هاجم بشدة نادي الزمالك تعقيبا علي مباراة جمعته مع النادي الإسماعيلي. في اجتماع التحرير ثار غاضبا علي المرحوم الأستاذ كمال الملاخ المسئول عن الصفحة الأخيرة بعد نشر خبر من أحد محرري الصفحة هاجم فيه بشدة الفنانة الراحلة فاتن حمامة دون وجه حق, ووجه كلامه للملاخ: عندنا كام واحدة زي فاتن حمامة. وكما كان يؤمن بحق القارئ في الحصول علي الخبر الصحيح الصادق, كان يري أنه من حق القارئ التعرف من خلال صفحات الأهرام علي ما يجري حول العالم من أحداث. أذكر أنه في آخر الستينيات وفي فترة زمنية واحدة كان المرحوم محمد حقي يغطي الحرب الأهلية في الكونجو وكان مكرم محمد أحمد يغطي الحرب في اليمن وكان حمدي فؤاد يتابع المعركة الانتخابية في واشنطن وكان إحسان بكر في بيروت يغطي صراعات الفصائل الفلسطينية وخلافاتها مع حكومة لبنان. كانت لدي الأستاذ هيكل القدرة والقوة علي الفصل الكامل بين عواطفه والتزامه المهني, شهدته قادما من منزل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يوم28 سبتمبر عام1970 في السابعة مساء يغالب دموعه وهو يكتب مانشيت الصفحة الأولي من الأهرام عبدالناصر في رحاب الله. الأستاذ هيكل.. السياسي السياسة كانت تتعارض مع الصحافة عند الأستاذ هيكل ودخل في معركة مع الراحل السيد علي صبري قائد التنظيم الطليعي وأحد المسئولين خلال حكم الرئيس عبدالناصر, وقد حاول علي صبري القيام بانقلاب بعد وفاة الرئيس عبدالناصر لكن الأستاذ هيكل ساند بقوة السادات الذي كان يري أنه الأحق بالرئاسة, وأذكر أنه قبل وفاة عبدالناصر وفي الوقت الذي كان فيه علي صبري في قمة السلطة, سافر في مهمة في الخارج وعاد برفقته23 حقيبة لم يدفع عما بداخلها من أطقم صيني وسجاجيد وملابس حديثة وغيرها القيمة المستحقة من جمارك, وفي اليوم التالي كان مانشيت الأهرام في الصفحة الأولي كلمة واحدة الحقائب وذكر فيها أستاذنا الراحل تفاصيل ما حدث وكان الرئيس عبدالناصر ضد الفساد, لا يقبل أن يدافع عن أي فاسد مهما كان قريبا منه فقد قام بتوبيخ علي صبري وألزمه بدفع قيمة الجمارك كاملة. فقد تصاعد الخلاف بين الأستاذ هيكل والسادات في أواخر السبعينيات, وكان أستاذنا ينتقد بشدة مواقف الرئيس السياسية علنا ودون خوف, وفي صيف عام1981 قام الأستاذ هيكل بزيارة لباريس, وكنت أعمل وقتها مراسلا للأهرام في العاصمة الفرنسية. كنت أزوره يوميا في فندق الكريون الذي يقيم به في ميدان الكونكورد ووقتها رجوته أن يطلب حراسة خاصة من الفندق خوفا من انتقام أجهزة الأمن المصرية التابعة للسادات, وأن يتوقف عن الحديث عنه وانتقاده في العلن لكنه رفض, وكان رده: السياسة مثل القمار لا يمكن أن يتوقف السياسي عن ممارستها فهي تسير في عروق الإنسان. طلبت أن أمر عليه صباح اليوم التالي لاصطحابه بسيارتي إلي قصر الاليزيه مقر الرئيس الفرنسي وكان علي موعد افطار مع الرئيس فرانسوا ميتران ولكنه أصر علي أن يمارس رياضته المفضلة المشي ويسير علي الأقدام من الفندق حتي مقر الرئاسة الفرنسي وهي مسافة لا تزيد علي15 دقيقة. كنت في وداع الأستاذ هيكل في مطار باريس مع الكاتب الكبير الأستاذ محفوظ الأنصاري رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط وبعد وصوله إلي القاهرة ب48 ساعة القي القبض علي الأستاذ هيكل مع مجموعة من السياسيين المعارضين لسياسات السادات. الأستاذ هيكل.. الإنسان طبقا لتقاليد الكتابة الصحفية لا يصح أن أكرر صفة أو درجة الذين أكتب عنهم لكنني اعتذر للقارئ فأستاذنا الراحل هو الاستثناء الوحيد, فأنا لا أستطيع أن أكتب بقلمي اسمه مجردا حتي إذا تعارض هذا التكرار مع تقاليد الفن الصحفي لأن ذلك يتعارض مع الأخلاقيات والعرفان بالجميل من تلميذ للأستاذ. في عام1961 كنت أقف علي أولي درجات سلم صاحبة الجلالة كانت الصحافة في ذلك الوقت بالفعل صاحبة الجلالة فوجئنا بدعوة الأستاذ هيكل لجميع الصحفيين بالأهرام علي الغداء في مزرعته بقرية برقاش بالجيزة وكانت هذه الدعوة لتكريم الأستاذ الراحل الصحفي صالح البهنساوي بمناسبة بلوغه سن الستين واحالته إلي التقاعد. وكنا نشفق في ذلك الوقت علي من يصل إلي هذا السن التي يقترب فيها المرء من الموت خاصة أن متوسط الأعمار في مصر لم يكن يتجاوز الستين في ذلك الوقت وكنا نحن كشباب الأهرام في العشرينيات, كان الأستاذ البهنساوي مندوبا للأهرام في رئاسة الجمهورية, وقبل الثورة كان مندوبا في القصر الملكي, التقي في حديقة الأستاذ هيكل الشباب مع الشيوخ واجتمع الكبار والشباب علي مائدة واحدة يربطنا جميعا الحب للأهرام وللراحل الأستاذ هيكل. الحزن العميق الذي يطغي علي مشاعري لرحيل أستاذنا الجليل ليس بسبب غيابه عن المسرح السياسي والأضواء الإعلامية, لكن الأستاذ يرحل ومصر في أشد الحاجة لابن بار ووطني من طراز نادر, فالفراغ الذي سوف يتركه ليس هناك من يملؤه, لقد فقدنا الرؤية الصائبة والتحليل العلمي والثقافة الموسوعية, لكن الأستاذ هيكل سوف يبقي معنا بكتبه وبأحاديثه وبرؤيته النافذة, فهو نوع نادر من المصريين ممن هم لديهم حصانة ضد الغياب وضد الرحيل.. سوف يبقي معنا كل يوم وكل ساعة نستلهم حكمه ونتذكر نصائحه. رحم الله الأستاذ هيكل بقدر عطائه لوطنه وللصحافة وللأهرام.