الوهلة الأولي لتأمل أسماء رؤساء الصحف الجدد تكشف لك سقوط الولاء لأشخاص من يقومون بالاختيار لتصعد حقيقة أخري كضوء ساطع وهي نزاهة كل الأسماء للمهنة والقدرة علي نقاء البصائر من أي هدف سري. الأسماء كلها جاءت من رحم التمرد علي افتقاد المصداقية، وقامت النزاهة مع إتقان المهنة الصعبة باختيار أي منهم. وبهذا انتهي عصر اختيار رؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف من خلال دراسة ولاء كل فرد فيهم لهوي الحزب الوطني والمسئولين عن تحويل الكلمات إلي أصوات ببغائية تردد التعليمات وتزوقها، ولا مانع من التنكيل والتبكيت لأي معارض. وتنقية كل مقال أو تحقيق من أي لمحة معارضة حقيقية، بل لابد من معارضة مزيفة كي نبدو أمام أنفسنا وأمام العالم وكأننا أحرار، بينما يعرف أي منا أن أغلب المطبوع في كل الصحف؛ إنما يخضع للمرور من خلال عيون كهربائية أو إلكترونية تؤكد الولاء للحزب الحاكم أو لبعض من إدارات الأمن المختلفة، إلي الدرجة التي صرت أبحث فيها عن «رتبة» كل قائد صحفي الموجودة علي كتفه قبل الحديث معه، ولم ينج من تلك التبعية إلا قلة نادرة. ولابد من التأكيد علي أن صباح الخير كمجلة تتبع مدرسة الهواء الطلق قد نجت بمعجزة في عديد من الفترات من ذلك الفخ البشع. •• حين تتأمل رحلة تغيير رؤساء تحرير الصحف لابد للذاكرة أن تعود إلي مشهد قديم حين جلس جمال عبدالناصر مع رؤساء التحرير، وكان منهم أستاذنا الراحل فتحي غانم، ووجه عبد الناصر حديثه لفتحي غانم عن كاريكاتيرات رسامنا الأشهر حجازي، وكان عبدالناصر ينقل لفتحي غانم مرارة خاصة حين يتحدث معه بعض من القادة العرب عن رسوم ضاحكة عن عشاق يختبئون في دواليب غرف النوم، فيكتشفهم الأزواج. وحين عاد فتحي غانم من الاجتماع طلب غلافا من حجازي ينطلق فيه علي هواه. ولم نعلم بحكاية حديث عبد الناصر تلك إلا بعد أن ترك فتحي غانم كل المناصب وتحول إلي كاتب أثير لصفحة متميزة في روزاليوسف، وناشر لرواياته الجديدة في صباح الخير. •• ولأني واحد ممن عاشوا فترة تأميم الصحافة، فقد رأيت رأي العين رغبة جمال عبدالناصر في ألا تفتعل الصحف مباريات وأكاذيب وهمية كي ترفع التوزيع، مثلما فعل الراحلان علي ومصطفي أمين حين أوحيا إلي سيدة تسمي «تاتا زكي» أن تختفي، وبدأت مانشتات جريدة الأخبار تبحث عن أسرار اختفاء تاتا زكي بينما كان المجتمع المصري يمور ويفور من أجل الحلم بصناعة العدل الاجتماعي ومواجهة القوي المتربصة بثورة23 يوليو. وجاء تأميم الصحف، ومازلت أتذكر كيف استقبل أستاذنا إحسان عبدالقدوس الخبر وهو خارج مصر، فعاد مرحبا بهذا التأميم فقد انزاح من علي كتفيه عبء إدارة دار صحفية تملك حرية هائلة، وقدرات اقتصادية محدودة. ولكن الدس والوقيعة، وافتعال بعض من عدم الموهوبين وقائع مكذوبة علي روزاليوسف، كل ذلك كان سببا في تغيير رئاسة تحرير روزاليوسف، فتم استبدال إحسان باسم واحد هو الراحل أحمد فؤاد الذي كان المدني الوحيد في تنظيم الضباط الأحرار. وأتذكر كيف جاء أول اجتماع لأحمد فؤاد معنا، وكيف حاولت واحدة من أذناب الأجهزة الأمنية الإساءة لإحسان، فطلب منها أحمد فؤاد مغادرة الاجتماع، لأن إحسان عبدالقدوس أرقي من أن تناله أقاويل. ومازلت أتذكر كيف حاول الأستاذ محمد حسنين هيكل إنقاذ الصحافة المصرية من موقف الببغاء المحبوس في قفص السلطان، فجمع خلاصة العقول الكبيرة كي تكتب بالأهرام. ولابد لنا أن نذكر قدرات أستاذنا أحمد بهاءالدين في تأكيد أهمية أن تكون الصحافة هي «سالم» بالنسبة للقبائل، وسالم هو من كان يقرأ النجوم ليحدد للقوافل طريق السير من موقع إلي موقع فلا تتوه عن مقصدها. وهل يمكن أن ننسي قدرات البارع النقي الفنان حسن فؤاد الذي أسس الشكل المبدئي لصباح الخير كي تكون مجلة للعقول الشابة والعقول المتحررة؟ طبعا لا يمكن نسيان ذلك أبدا. •• في الأفق السياسي أثناء عهد جمال عبدالناصر دار صراع بين ما يمثله أحمد بهاءالدين من ضرورة ترك الحرية للصحف والأقلام كي تستكشف المستقبل، وبين ما تمثله أجهزة الدولة من ضرورة التبعية لما تمليه علينا وزارة الإعلام أو الإرشاد القومي كما كانت تسمي في ذلك الزمن القديم. وكنا نتأرجح بين الحرية، وبين القيود. ولكن ما أن وقعت علي رءوسنا هزيمة1967 حتي بدأت الصحف عهد الرضوخ إلي الرقيب. ورأينا ألوانا وأشكالا من الرقباء، ولكن ذلك لم يمنعنا من أن نعبر ونحاور ونتعارك ونرصد، ولن أنسي ملامح الرقيب كمال صقر وكان منقولا حديثا إلي إدارة الرقابة من المخابرات العامة كواحد من أعضاء مكتب صلاح نصر مدير المخابرات المعزول. وبطبيعة ما مر علي الرجل من أحداث، كان يرهق مكتب «حرية الصحافة» كما كنت أسميه أنا كسكرتير تحرير لصباح الخير، وكان يدير هذا المكتب رجل طيب، وكان يفاوضنا علي بعض من السطور والكلمات، وغالبا ما كنا نهزمه. وهل أنسي حديثا أجريته مع نجيب محفوظ حين بدأت اجتماعات المؤتمر الوطني لمناقشة المستقبل بعد الهزيمة، وقال نجيب محفوظ كلمة أساسية وهي أن كل المجتمعين في هذا المؤتمر متهمون بالولاء لوظائفهم أكثر من ولائهم للوطن. وحاول الرقيب منع تلك الكلمة بكل الوسائل، فقررت إرهابه بأن كسرت زجاجة كوكاكولا، وهددته بعنقها المكسور، فما كان منه إلا أن يوقع علي نشر الحوار كما هو، ومن بعد ذلك جاءتني رسالة تأنيب من صديقي شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي، وكانت بيننا صداقة أساسها عشقنا المشترك للموسيقي الكلاسيكية. ولم آبه للتأنيب لسبب بسيط هو إيماني بأن ما يمثله جمال عبدالناصر من أفكار لا يتناقض مع رأي نجيب محفوظ. وما أن جاء السادات إلي الحكم حتي اشتدت الرقابة علي الصحف، ورأينا تجريم العديد من الكتاب والصحفيين وتحويلهم إلي موظفين، وكان يقود منطق التبعية المطلقة د.عبدالقادر حاتم الذي كان يتهم أي مختلف معه بأنه شيوعي «!! ». وما أن قامت حرب أكتوبر حتي رأينا زحف طبقة جديدة من السماسرة علي المجتمع. وكانت روزاليوسف بقيادة الشاعر الكبير عبدالرحمن الشرقاوي هي منارة التصدي لهذا الهرج الاجتماعي الشديد، ويساعده قادة في حجم صلاح حافظ وفتحي غانم، ويدير المؤسسة عقل شديد المعاصرة هو أستاذنا لويس جريس، ويتيح لنا الرائع حسن فؤاد عبر صفحات صباح الخير طاقة تعبير تفوق أي خيال. ولكننا نفاجأ بالخلاف الجوهري بين أنور السادات ومحمد حسنين هيكل حول تفاصيل إدارة استراتيجية هذا الوطن، هل هو جزء من الأمة العربية؟ أم أننا باحثون فقط عن منفذ من مصيدة حصار الولاياتالمتحدة لنا؟ وكانت الولاياتالمتحدة تفضل عزل مصر عن محيطها العربي. وتولي الأهرام من بعد ذلك علي أمين الذي كان يبشرنا بأن أيا منا سيحاول أن يصد رياح الثراء التي سوف تهب علي كل فرد في المجتمع، وكنا نسخر من ذلك التصور، ثم حاول أستاذنا إحسان عبدالقدوس أن يطبق في أخبار اليوم ثم الأهرام ما يؤمن به دائما، بأن الحرية هي التي تفرز الغث من السمين، وحاول أستاذنا أحمد بهاء الدين إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلي أن وقعت إضرابات الجوعي في السابع عشر والثامن عشر من يناير عام 1977 فكان قرار السادات بتصفية كل الحالمين بمستقبل لا رضوخ فيه، وخرج قيادة روز اليوسف عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وفتحي غانم لتمور الدار الصحفية تحت وطأة من القهر غير المسبوق، فصدقت كلمة السادات التي نقلها لي ذات مساء د.علي السمان لقد أرسلت إلي روزاليوسف قيادة تنقي كل سطر فيها أو في صباح الخير من أي تمرد». ولن أنسي محاولة السيد منصور حسن أن يولي الأهرام لقيادة مثل فتحي غانم فرفض السادات، وحاول منصور حسن أن يولي صلاح عبدالصبور نفس المنصب فرفض صلاح عبدالصبور. وبدت خصومة السادات مع شبح أي من يختلف معه شديدة الوطأة علي الصحف، اللهم إلا المهارة الفلسفية الرائعة التي أسس بها أنيس منصور مجلة أكتوبر، ومحاولة موسي صبري أن يسير بأخبار اليوم بعيدا عن أنواء العواصف، وحاول حسن فؤاد ولويس جريس في صباح الخير تهيئة درجة من المصالحة الاجتماعية دون إبادة للطبقة الوسطي. وفي تلك الأثناء كانت أجهزة الأمن قد توصلت إلي ربط العديد من الصحفيين الشبان بها، خوفا من أن تظهر في الأفق تباشير مقاومة كالتي خرجت في يناير 1977. وهل أنسي ما روته لي الكاتبة المقتدرة سناء البيسي من أنها سمعت بأذنيها رئيس تحرير يرفض إجراء حوار مع الرائع جمال حمدان، وعلق رئيس التحرير علي ذلك بقوله «يبدو أن المحرر الذي عرض إجراء هذا الحوار يريد تلميع طبيب أطفال اسمه جمال حمدان أي أن رئيس التحرير المذكور لم يتعرف علي جوهر إعادة اكتشاف مصر التي قدمها جمال حمدان في موسوعته الأشهر. ولكن هل كانت الدنيا كلها مظلمة؟ طبعا لا فقد كان هناك مكرم محمد أحمد يمسك بجمرة الحرية مهما لسعت يديه، أليس هو من قدم للسادات مفاتيح دار الهلال قائلا «لن أدير مؤسسة يتم القبض فيها علي صحفي واحد». وكان هناك صلاح حافظ الذي رفض منطق وصاية أجهزة الدولة علي روزاليوسف، وكان هناك العديد من الأسماء التي لا تبحث عن ترقية ثمنها الركوع علي حذاء الحاكم أو وزير إعلامه. وحين جاء مبارك غرقنا في الحلم بأن الواقع سوف يختلف لأن مبارك قد شاهد بعيونه نهاية كتم الحرية في الصحف والمجتمع برصاصات خالد الإسلامبولي. ولكن الواقع لم يختلف، فقط تم منع أي محاولة لاستكشاف المستقبل في إطار الحرية، ورغم ذلك بقيت شعلات مضيئة في أقلام ترصد خريطة التفاصيل، فكان التعليم الجامعي _ علي سبيل المثال - هو هاجس كاتب في حجم وإخلاص واحد مثل لبيب السباعي الذي رأي من البداية أن أي حرية في مصر لن تبدأ إلا بجدية هذا التعليم. وخاض من المعارك ما يفوق الخيال. وأن حسن اختيار رؤساء الجامعات يمكن يرفع أمن مستوي المجتمع ككل. وأن محاولة تحويل أساتذة الجامعات إلي قطيع هو أمر ينهي أي حلم في النجاة. ولعل خريطة العالم المفتوحة أمام كاتب في الشئون الخارجية بحجم عبدالعظيم حماد، تلك الخريطة التي يجيد قراءتها تماما هي التي كشفت في مقالاته هوة المسافة التي تفصلنا عن التقدم. ولعل إخلاص ونقاء شاب مثل حمدي رزق كان طاقة إصرار علي ضرورة تخليص المجتمع من آفات التنظيم السري للإخوان المسلمين. وهو من عمل تحت قيادة مكرم محمد أحمد أول من نبهنا إلي مرارة بيع مصانع القطاع العام، وكيف اشترك جمال مبارك في لعبة شراء ديون مصر الخارجية كبداية لتكوين ثروته الخارقة. وحمدي رزق زامل أيضا عبدالقادر شهيب الذي ترصد نهب اقتصاد مصر تحت اسم شركات توظيف الأموال. ولعل محاولة رءوف توفيق لاستعادة رونق صباح الخير هي الباقية أمامنا في رحلة هذه المطبوعة كعطر لزمن أدار فيه عبدالرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد شرارات التوهج في القلوب الشابة والعقول المتحررة. وما أذكره من أسماء هو بعض ممن حاولوا الخروج من دائرة مربع له أضلاع كهربائية تصعق أي محاولة للخروج من هذا المربع، الذي كان يديره صفوت الشريف من جهة، وتديره أجهزة الأمن من جهة أخري، حتي تحولت أغلب الصحف والمجلات إلي ثرثرة من الصمت المطبوع تفتقد قدرة التواصل مع القارئ. نعم جرت عملية اختطاف الصحافة المصرية لتركيب غمامة من القهر علي عيون كتابها ومحرريها، وصار الرضوخ ل«الكذب الوطني» كما كنت أسمي الحزب الوطني أمام عديد من قياداته هو جوهر إدارة الصحف والمجلات. وكانت الكهرباء الصاعقة لأي صاحب رأي مختلف تدور أمام أعين الجميع، وطبعا لن ينسي أحد محاولة ضرب الراحل الكريم جمال بدوي ومحمد عبدالقدوس وإرهاب د.عبدالحليم قنديل، واختطاف د.عبدالوهاب المسيري من ميدان التحرير ثم تركه وحيدا في الصحراء. وطبعا هناك العديد ممن لم يرهبهم ذلك التوحش، وهناك الكثير جدا ممن آمنوا بكلمة قالها الراحل العظيم صلاح حافظ سيد صحافة الرأي المعارض، حين قال: أصحاب الكلمة هم بشر حين تتم إهانتهم، فتوقع النهاية للسلطة الحاكمة لهذا المجتمع، فليس هناك راغب في رئاسة الجمهورية من بين الصحفيين، ولكن هناك من يستكشفون الوجه الخفي لأي فساد، فالفساد هو القوة المدمرة لأي سلطة لا تثق في الحرية للكتاب والصحفيين. وفي عصر إبداع صناعة الرضوخ خرجت أسماء تخلصت منها الصحافة في التشكيل الأخير لمجالس إدارات وتحرير الصحف، فجاءت وجوه لا يمكن لكائن من كان أن يجد في تاريخ أي واحد منهم شبهة نفاق أو تزلف لعصر جمعته ثورة الخامس والعشرين من يناير لتلقيه بعيدا عنا. ولن أتحدث عن مهارة محمد جمال الدين في الإدارة وفن انتقاء المقال الصالح للتعبير عن الرأي. ولن أتحدث عن رحلة أسامة سلامة في مقاومة الفتنة الطائفية بكل جذورها، ولن أحكي عن براعة إبراهيم خليل في التقاط الخبر الموثق، ولن أتحدت عن إخلاص محمد هيبة لحرفية العمل الصحفي في مجلة كانت رائدة ذات يوم قديم، فهؤلاء القادة الجدد لروزاليوسف هم بمثابة الأبناء الذين لا تشوب ضمائرهم شبهة ولاء لسيد آخر غير القارئ ولهذا عملوا في صمت حتي جاء اليوم الذي يتولون فيه قيادة روزاليوسف بعيدا عن أجهزة الحزب أو أجهزة الأمن. ولكن لابد أن أقول في نهاية كلماتي تلك أنها مجرد انطباعات كاتب لم يعد شابا، ولا يمكن أن أنسي أدب ورقة محمد عبدالنور الذي قاد صباح الخير بعيدا عن أي صدام مع أجهزة متوحشة شديدة القدرة علي الصعق. ولمن شاركوا في صناعة مربع الكهرباء الصاعق لأصحاب الرأي نقول وداعا و«أهلا» لمن يتحملون بالتعديلات الأخيرة مهمة بناء صحافة نزيهة تضع المستقبل كمسئولية أولي وأساسية أمام القارئ، وما أصعبها من مهمة.