حين أتابع ما يجرى أمام عيونى من أحداث تخرج من قوى تصف نفسها بأنها «قوى سياسية» ينتابنى إحساس بأن أغلب تلك القوى نسيت أن مصر ليست هم وحدهم ؛ ولكنها مجموع البشر الذين يعيشون على رقعة جغرافية هذا الوطن المسمى «مصر». أقول ذلك حين أجد صاحب الصياح على المفترض من وجهة نظره وما يتحمس له هو فى جوهره صياح بلا عيون ترى ما يقدمه من خدمات مجانية لقوى التخلف التى ترتدى مسوح الحرية تارة ، ومسوح ادعاء الانتساب للدين تارة أخرى . وأقول لنفسى «ما لهذه القلوب مصابة بالعمى معظم الوقت»؛ وفى بعض آخر تبدو عيونهم تعانى من الحول الذى لا يرى الأخطار فيتجه بقوته بعيدا عنها فتنكشف الجوانب التى تتيح للغير اقتناصهم ؟ فالبديهية الأولى التى ينساها هؤلاء هى عدم الوعى بأننا خرجنا من مستنقع الترهل الراكد لأعوام تمتد من 1974 لحظة أن لامست أقدام نيكسون أرض المحروسة مسبوقة بتصريح وزير خزانته ويليم سايمون «أنف مصر يجب أن يبقى طافيا فوق الماء أما فمها فلا يجب خروجه من تحت الماء، وطبعا تنوعت السياسات ولكن جوهرها ظل واحدا حتى الحادى عشر من فبراير 2011 لحظة تخلى مبارك عن السلطة ؛ ثم استسلمنا لوهم أن من حسبناهم من «أهل الله» ويراعون الحق فى كل سلوك ، وما أن صعدوا على سلم رغبات القوى الكبرى ؛ حتى تاجروا بنا فى سوق المناقصات والمزايدات العالمية ، ومازلت أذكر أثناء كتاباتى لتلك السطور ملامح د. عمرو دراج أمين لجنة دستور 2012 وهو يصر على بقاء مادة تتيح لرئيس الجمهورية _ الذى صار معزولا بعد ذلك _ أن يتنازل عن أى مساحة من أرض الوطن للغير ، فهاج الضمير الوطنى ولم يستطع الرجل تمرير عملية إهداء حماس إمارة إسلامية بسيناء . ومازلت أتذكر لحظة كتاباتى هذه ملامح الطبيب ياسر برهامى فى إحدى جلساته وهو يدبر التآمر على منصب شيخ الأزهر وكيف يمكن تقليص دور ألف عام من نشر علوم الإسلام ليكون دور الجامع الجامعة مجرد دور «المحلل» للإستبداد السلفى فى بر المحروسة . وأتذكر هنا كيف شرح أحد المحبوسين فى قضية حرق المجمع العلمى « ما فائدة الكتب لشعب جائع ؟ « ولم يع صاحب الحماس الأرعن كم الجهد المبذول من وزير الثقافة آنذاك الأستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد ، حتى لا يسقط معرض الكتاب من مكانته الدولية كثانى معرض دولى مرموق ومتميز بما له من مكانة وطابع خاص وسط المنطقة العربية أجمعها . وتحضرنى هنا مقولات صديقى الجميل الذى رحل جسده الواهن حين أدلى فى أواخر أيامه بحديث طلب آلا ينشر إلا بعد وفاته ، الصديق هو الشاعر عبد الرحمن الأبنودى الذى قال « يبدو السيسى كعلم يرفرف على مبنى ملىء بالمتآمرين». أكتب أنا صاحب تلك السطور ذلك وعمرى يسير فى عامه السابع والسبعين أى أننى لا أصلح لأى منصب سوى الولاء للقلم الذى لم يعرف عبر تاريخه ولاء سوى للوطن الذى هو فوق محبتى لناصر وعدم توافقى مع السادات الذى فتح باب إعادة استعمار مصر التى حررها جيشها من إحتلال إسرائيلى لتتسرب كل مقدراتها للولايات المتحدة مخطئا الظن بأن بريق الإعلام الذى سلطته الولاياتالمتحدة عليه سيسمح له الخروج من مصيدتها ؛ وكل ما فعله بريق الإعلام أن أكل منه القدرة على رؤية ما يغلى فى قاع المجتمع من دهس قاس للطبقة الوسطى عبر الانفتاح السداح مداح ، إلى أن اغتالته يد آثمة أرادت أن تقفز فوق عقارب الزمن لتعيد ساعته إلى زمن توهموا أنه الفردوس ، لكنه أبدا لم يكن كذلك . واستمر فيضان الترهل عبر رجل كان له شرف المشاركة فى حرب أكتوبر المقدسة ، واستمر بوهم سيطرة أفكار الرأسمالية المتوحشة عليه وعلى ولديه ، فراح يغرف من دم البسطاء ما يتم تخزينه كدولارات فى بنوك الغرب، واستسلام لرؤية التفسخ يجرى أمام عيونه غير متذكر ما روى عن قيصرة روسية قصيرة النظر شاءت أن ترى سعادة شعبها التى يتحاكى بها رجال حاشيتها على مسامعها صباح مساء ؛ فطلبت منهم أن يدبروا لها رحلة على نهر الفولجا لتشاهد «الريف السعيد» فرسمت الحاشية وجوها مبتسمة تعلوها نعمة السعادة ، رسموا ذلك على ألواح خشبية على ضفتى النهر , واعتمدت الحاشية على أن القيصرة مصابة بقصر النظر ولا ترى ما أمامها إلا بصعوبة ، وانتهت الرحلة بابتسامة السعادة المغشوشة والمتوهمة. وما أن رحل مبارك وجاء وحش تزييف الدين ليقود بلدنا ، كانت السعادة وارفة الظلال على البيت الأبيض قائد قصور الرأسمالية المتوحشة ، فما سبق وأطلقوه من وحوش لمحاربة الإمبراطورية السوفيتية ، صار يملك الآن فرصة استمرار التبعية لهم بأن تمنحهم حكومة التأسلم فرصة التنازل عن بعض سيناء لتكون إمارة إسلامية. وحين جاء إعلان دستورى يجرد المصريين من صناعة مستقبلهم بدأت رحلة نهاية حكم مكتب الإرشاد وضاعت فرص التجارة بالديمقراطية ، وشخصت عيون الغرب على الجماهير التى سبق وخرجت فى الخامس والعشرين من يناير 2011 ، وبدت ملامحها تظهر فى تلك المظاهرة النبيلة التى حاصرت قصر الاتحادية ، فما كان من مدعى التأسلم سوى البغى والقهر ، وبدأت رحلة بناء يوم الثلاثين من يونيو ليستقر الأمر فى الثالث من يوليو إلى خارطة طريق تمت خطواتها الثلاث فى مسيرة لم ترحب بها دول الغرب الذى كان مستمتعا باستمرار احتلال مصر بمن يسمعون الكلام وينفذون تعليمات السفيرة الأمريكية، ولعل عدسات جوجول قد أذهلت الكون حين أوضحت أن ثلاثين مليون مصرى خرجوا ليسقطوا حكم التأسلم ، ثم جاء السادس والعشرون من يوليو لتخرج جموع متقاربة مع جموع الثلاثين من يونيو. ولذلك كان لابد من العبث بتلك الجماهير . وكلنا لا ننسى كيف رفض عبد الفتاح السيسى مكالمات تليفونية من البيت الأبيض أثناء توليه منصب وزير الدفاع وقال لمن يطلب الحديث «هناك رئيس جمهورية هو القاضى عدلى منصور». واكتفى عبد الفتاح السيسى بتلقى مكالمات وزير الحرب الأمريكى ، وعندما أبلغوه بقرب إلغاء المعونة ، لم يظهر عليه أدنى اهتمام فتراجعوا عندما لم تهتز أقدامه ارتباكا. وجاء الدستور ثم انتخابات الرئاسة وأخيرا مجلس النواب . كل ذلك والأمن ينمو تدريجيا ، لكن الترصد من المتأسلمين ومن يريدون تركيع مصر يحاربونها فجاء إسقاط الطائرة الروسية ليغتال موسما سياحيا كان المتوقع له أن يكون ناجحا . ورغم ذلك كانت عيون المصريين تطل على الأمل ، فتم إنجاز مجرى قناة السويس ليسع رحلة للذهاب ورحلة للعودة دون عوائق . وطبعا حدث ذلك وسط لهيب من ثرثرة شرسة ، تحاول الترصد لكل خطوة ، ويقول الرجل « لست وحدى المطالب بالبناء فلابد أن تكونوا معى «فيسمع أصوات الناس فى أرجاء المحروسة «نحن معك» ، لكن أصوات الأقزام التى لاتكف عن الثرثرة تخلع الخريطة من مكانها وترفعها عالية ليعيد كل فريق إعادة تفصيل مستقبلها إما على نار تأسلم ملتحف بإدعاء الحرية ، وإما على نار الترصد وتسخيف كل ما يجرى على أرض الواقع. ولأن قراءة الخرائط هى عمل عسكرى وسياسى لذلك نجد القاهرة ترنو إلى ليبيا فلا تسمح لداعش بألا تتلقى عقابا فوريا على ذبح عدد من المصريين ، وترنو عيونها إلى المشرق فلا تسمح لإمارة غزة التى تم تأسيس قادتها بواسطة إسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل كما اعترف ، يبدو واقعنا الآن فى حاجة لبعض من الصمت الحكيم الذى نكتشف فيه أهمية أن تعمل الإيدى لننتج بعض ما نحتاج إليه ؛ بدلا من استمرار الصوت المنادى على القيادة أن تجلس فى موقع التلميذ المطالب بسماع أساتذة لا يعرفون فى أى أمر يتكلمون سوى الثرثرة بشعارات يسار متخلف يبدو سلفيا فى جوهره، أو ثرثرة مصنوعة فى أجهزة الغرب الذى ما زال مصرا على أن تكون مصر ذات أنف فوق الماء ، وتعجز عن تنظيم أصوات سكانها ليعلنوا حقيقة إيمانهم بأنهم أصحاب حق فى بناء بلد قادر . ومازال صوت الأبنودى فى خيالى يردد ما طلب نشره بعد الرحيل «مصر محاصرة من أقسى ما واجهته فى حياتها منه ما يمكن أن يراه المبصرون ، ومنه ماهو غير مرئى ونحن على الشاطئ لم ننزل بعد إلى أرض المعترك فكان الله فى عونها إذا لم يتحد كل أبنائها ويتحولوا إلى كتائب مقاتلين ، فما بالك ونحن نحاول أن نجعلهم الآن مجرد مواطنين» ؛ ويذكرنا عبد الرحمن بأيام أن كان سكان مصر جميعهم قد صاروا حرسا وطنيا يحارب ليحمى حقنا فى الحياة ، فأين هو الحرس الوطنى من أفكار وزارة الشباب كى تتحرك الأجيال الشابة من رغبة إثبات الوجود بالثرثرة إلى إثبات الوجود بالمشاركة الجادة فى مشاريع الرصف والبناء ومحو الأمية ، وأكرر شرط أن تكون المشاركة جادة . لمزيد من مقالات منير عامر