طالت ساعات الليل والنهار دون جدوى ، وذلك فى أثناء بحثى عن أى دراسة علمية وسياسية وإخبارية عن حادثتين كل منهما ترتبط بحركتنا اليومية إلى المستقبل. الحادثة الأولى : هى ثورة يهود الفلاشا الأثيوبيين الذين هاجروا إلى إسرائيل ، منذ حكم جعفر نميرى ، وقد خرجوا فى مظاهرات صاخبة بتل أبيب ضد التمييز العنصرى الذى يعانون منه داخل إسرائيل، والحادثة الثانية: هى تدخل أجهزة الدولة المصرية للإفراج عن أخوة أثيوبيين تم إعتقالهم ليبيا ، وإستطاعت السلطات المصرية أن تعيدهم إلى أهاليهم فى أثيوبيا . وسقط حلمى فى العثور على تحليل أو دراسة تشرح ما جرى وأثره على المستقبل . وكأغلب عموم أهل المحروسة دام حزنى على فراق صديقى التاريخى عبد الرحمن الأبنودى ، وزاد الحزن بإتساع الهوة بين “ الثرثرة السياسية “ عن شكل البرلمان القادم ، وبين قدرة الواقع فى القرى والنجوع على عدم فهم ذلك المستقبل «المسموم » الذى يسمعون عنه صادرا من أبواق المدينة الكبيرة «القاهرة» . وهو مستقبل مسموم لأن المتحدثين عنه وبه لا يعرفون شيئا من تفاصيل متاعب وأحلام البسطاء من سكان الخريطة المصرية ، فأصوات القاهرة تزدحم بزعيق يحاول به قادة كل حزب كسر مستقبل أى حزب آخر ؛ وتحاول فيه بقايا التأسلم السياسى القفز إلى مقعد قيادة الوطن ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، ومهما صيغت كلمات رقيقة ، فمشهد الطبيب ياسر برهامى فى أثناء جلسات لجنة الدستور الأولى فى عهد الإخوان تكشف الترصد الواضح للأزهر، وإستطاع كل من النائب البلكيمى صاحب جراحة تجميل الأنف، ومعه النائب على ونيس المضبوط تحت شجرة فى وضع غير لائق ،إستطاع كلاهما مع ترصد برهامى كشف وقائع الفهم المتأسلم للسياسة، ولم يستطع صفاء رؤية النائب «السلفى أيضا» أشرف ثابت أن يغسل الواقع من أفعال من ينتسبون لحزبه، من كراهية للأزهر أو الكذب على الدولة للحصول على مبلغ مالى عن جراحة التجميل أو غسيل السمعة الملوثة تحت شجرة بريف طنطا، ويزيد من إحساسى بعدم الثقة عموم أهل مصر فى الأحزاب السياسية المعاصرة هو عدم وجود علاقة بينها وبين عموم الواقع ؛ فلم نجد أى مشروع لتشغيل الشباب أو لتأهيلهم مهنيا لأعمال القرن الذى نعيش فيه ، عكس كافة الأحزاب اليابانية _ على سبيل المثال _ حيث لا تزدحم الأحزاب اليابانية بوجوه رجال أعمال يحلمون بغسيل سمعتهم من رحلة صعود جارح لكرامتهم أو لطمس رحلة إستنزافهم لثروات مجتمعاتهم كبعض من رجال الأعمال فى بر المحروسة، ولن أنسى فيما بقى لى من عمر ملامح خمسة من كبار رجال أعمال اليابان الذين يرصدون أغلب ثرواتهم من أجل رعاية المواهب اليابانية الشابة، ويتركز جهد بعضهم على رصد نصف عائد مصانعهم وأعمالهم على دعم تنمية تأهيل الشباب، ومن ضرورات التأهيل إعداد الشاب لإمتحانات الثانوية العامة ، وهى فترة تستغرق عامين لتنمية المواهب وتوزيع كل موهبة على المجال الذى تبرع فيه ، ثم ينضم الشاب أثناء الدراسة الجامعية وفيما بعدها للشركة التى تصبح هى عائلته ، فيجد المسكن النظيف المناسب لدخله ؛ ويمكنه العثور على الزوجة سواء من العاملات معه فى نفس الشركة أو من بنات المنطقة التى يحيا فيها . ولن أنسى ما شاهدته على قمة جبل كاميوكا بجانب مدينة كيوتو ، من أجيال شابة تعيش فى معسكر صيفى ووجدت معهم أكثر من رجل أعمال ، وكان كل رجل أعمال يرتدى ملابس عادية ليست مستوردة من سويسرا أو إيطاليا ، فآخر ما يمكن إرتداؤه هو بدلة قادمة من هونج كونج حيث يمكن تفصيل البدلة فى ساعة واحدة وبثمن زهيد. وعندما سألت أحدهم لماذا لاترتدون ملابسكم من إيطاليا أو فرنسا ، أجابنى ضاحكا ، وأشار ناصحا بمشاهدة قناة تليفزيونية أمريكية تبث إرسالها لموقع جزيرة يابانية تزدحم بالجنود الأمريكان حسب إتفاقات الأمن فيما بعد الحرب العالمية الثانية ، وحين شاهدت تلك القناة وجدت إعلانا يقول « قبل أن تشترى إحتياجاتك من أسواق العالم، لابد أن تشترى بضاعة دخل فيها العمل الأمريكى». وبطبيعة الحال أعترف أنى عشت لسنوات أرقب مدى مشاركة الرأسمالية المصرية فى تسيير الحياة اليومية لعموم المصريين ، وأعترف أنى نادرا ما عثرت على رجل أعمال يكتفى بالكسب فى حدود ثلاثين بالمائة فى العام الواحد من دورة رأس المال ، بل أتابع رحلاتهم فى تكديس الأراضى وتحوير مهمتها من إنتاج زراعى إلى أبنية خرسانية يمكن بيعها بأضعاف الثمن الذى دفعوه بقروض من البنوك . وكلنا نعلم أو وصل إلى مشاعرنا لهيب غلاء الحياة بفضل زواج السلطة بالثروة ، وشاهدنا كيف تم إستئجار بعض من ذوى الحناجر القادرة على الهتاف وإثارة المشاعر ، دون أن يقدم واحد منهم خريطة لتشغيل أهل قرية ينتمى إليها أى من رجال الأعمال . وطبعا فى حالة الفوران المطالب بحياة مقبولة يمكن لأصحاب الضجيج أو تعلو أصواتهم ضد مشاريع صياغة أمل جديد، وهو الجهد المشكور لأجهزة القوات المسلحة، والجهد المشكور للبنوك التى عليها مسئولية إحياء «رأسمالية الدولة» بمعنى تأسيس شركات تعمل فى مشاريع إستزراع وتنمية فى مجالات لا يقترب منها القطاع الخاص . ولعل أفكار الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى يرمى بعيدا عن مرمى تفكيره تسد فجوة بين الواقع والأحلام، فالواقع يصخب دون صناعة أى تقدم زراعى أو صناعى. وقد قدم السيسى كشخص لعموم المصريين صندوق «تحيا مصر»، مضحيا بنصف ما ورثه عن أبيه ونصف مرتبه الشهرى، بينما لم يقدم من أثروا بإستنزاف مصر عبر أربعين عاما سوى الضجيج . وحين قدم السيسى لعموم المصريين مشروع حفر قناة السويس الجديدة جاءه البسطاء بقيمة حفرها فى أقل من ثمانية أيام. وكلما إقترب موعد إفتتاح القناة الجديدة كلما زاد الصخب السياسى ، متجاهلين أن حفر القناة الأولى تم بالسخرة ، وأن من تمرد على السخرة بعد سنوات هو فلاح مصرى اسمه أحمد عرابى ، وعندما سار قطاره حاملا جنوده إلى التل الكبير أحاط الفلاحون بالقطار ليسلموا «الباشا عرابى» شكاوى ضد إستنزافهم بإستغلال الأتراك والشراكسة . وبعد سنوات جاء سعد زغلول كواجهة لحزب قام بتأسيسه عبد الرحمن فهمى، بعد أن تكونت لجان الوفد بكل قرية مصرية، وظل الوفد على تماسكه إلى أن تسلمه «الأفنديات» و«الباشوات». وحين قامت ثورة يوليو بكسر شوكة الأحزاب بما فيها أحزاب التأسلم السياسى، لم تنجح يوليو فى تأسيس تنظيمها السياسى ، لكنها نجحت بتنظيم شباب على وعى بحدود وإمكانات أحلام يوليو وهو منظمة الشباب ، كنت أكثر الناقدين لكثير من برامجها ، لكن جهدها فى صقل الوعى العام لم يولد له نظير، اللهم إلا فى حركة الشباب الذى قام بتنظيف ميادين مصر فى ختام أيام ثورة يناير ، وحركة الشباب عبر «تمرد» التى أسقطت المتأسلمين . وإختارت لنا قيادة عبد الفتاح السيسى . وعلينا أن نزاوج بين ما يقدمه السيسى من همس عملى لأحلام يتم تنفيذها ، وبين ما كتبه عبد الرحمن الأبنودى عن ضرورة إمتزاج المثقف بالواقع الذى ينتمى إليه، دون هواية قديمة وبالية ، وهى قطع الخريطة المصرية بعيون الخيال من الكرة الأرضية ثم الصعود بها فوق سحابات من أوهام لإعادة تصميمها على أسس من زبد خداع النفس ، ثم علو الصراخ عاليا ، بمزيد من الصخب. وتبقى ملحوظة هى أن أى قيادة سياسية فى هذا الوطن لا تملك منحى أى مكسب شخصى ، فعمر الخامسة والسبعين لا ينتظر سوى رقى مجتمعه ككل ، بعد سنوات طويلة من مشاهدة ضجيج صاخب لم يترك للواقع سوى حزن قاس ، وكان الحلم _ ومازال _ أن تزيله قواعد شباب الخامس والعشرين من يناير ومعهم حكمة تنقية المجتمع من العبث السياسى عبر ثورة الثلاثين من يونيو . أللهم أنى أبلغت .. اللهم فأشهد . لمزيد من مقالات منير عامر