فى وقت اختلط فيه الحابل بالنابل، وبات الناس يوجهون النقد بكل قوتهم فى كل صوب وحدب، ضاعت المسئولية، وأمسى الهروب منها عنواناً بارزا، يفرض نفسه على مجريات حياتنا بصورة مثيرة، ليشكل واقعا ملموسا، نتعايش معه بتراض عجيب وغريب. مصدر الغرابة، هو حالة المقارنة المتوهجة دائما، فيما بيننا وبين الآخرين، أو قل المتحضرين، والتى لا تهدأ على الإطلاق، فعلى الدوام تجد من ينتقص من قدر المصريين، ووصفهم بصفات سيئة، والتقول بأنهم يستحقون تلك الصفات لاسيما وأنهم موصومون بالتخلف. هذا والمتحدث مصرى حتى النخاع أبا عن جد، وهو هكذا يحاول أن يصدر لمن حوله صورة ذهنية توحى بأنه مختلف عن عموم المصريين. مشهد مستفز، أصبحنا نراه كثيرا فى الآونة الأخيرة، كما أضحت مشاهدة الكثيرين ناقدين، ناقمين، محاولين خلع عباءة القبح التى التحفها العديد، جبرا، أو طوعا، دون بذل أدنى درجات الجهد فى محاولة تغييره، حتى بات وجوده ركناً أصيلا فى البيئة المحيطة. ببساطة وبشىء من الإيضاح، يمكن إلقاء الضوء على بعض الأمثلة التى تبين حالة اللامبالاة ، أو الاستسهال لدى قطاع من الناس، ولنبدأ بيوم من حياتنا، يخرج أولياء الأمور لتوصيل أبنائهم للمدرسة، فتجد المناطق المحيطة بمعظم المدارس إن لم تكن كلها مزدحمة بالسيارات، والكل فى سباق محموم من أجل الوصول لباب المدرسة، بل والانتظار أحياناً لحين دخول الأولاد، ولنا أن نتخيل عدد السيارات التى تتصارع فى هذا السباق، أضف إلى ذلك عدم الالتزام بقواعد المرور المتعارف عليها، لذا يكون من الطبيعى أن نشاهد من يسير عكس الاتجاه، أحد أهم لزمات «الفهلوة» فى هذا العصر، غير مكترث بالآخرين، فالمهم الوصول لباب المدرسة بسرعة، وفى المقابل يصل الملتزم بقواعد وأعراف المرور متأخرا نسبيا، بما يعنى تأخره تباعا فى أشياء أخرى. فيصل للعديد من الناس قناعة مفادها ضرورة التصرف ب «فهلوة» حتى يواكب العصر وإلا عليه تجرع مرار الالتزام، بالإضافة إلى تحمل نظرات الاستهجان من «الفهلوية» الذين سكن نفوسهم اعتقاد خاطئ بأنهم أصحاب الحق، متحججين بمبررات واهية، والملتزمين على باطل! ومع الانتقال لفصل آخر من أحد أيام حياتنا، حينما يبدأ الأهالى فى التحرك صوب أعمالهم، حيث يدخل السباق فى مرحلة أخرى أكثر تبايناً، يتبارى فيها بعض السائقين فى إظهار مهارتهم الخارقة فى القيادة، التى تبيح لهم كسر كل قواعد المرور، بحيث تصاب ب «الخضة» أحياناً حينما ترى أحدهم ينير إشارة سيارته معلناً نيته فى تغيير اتجاه مساره، والسير فى اتجاه مختلف! مع العلم بأن كل السيارات تمتلك هذه الميزة، ولكن قائدوها لا يستوعبون ذلك! لذا يكون من المفهوم مشاهدة زحام كبير، سببه «رعونة» بعض السائقين الذين يتلذذون فى إبراز «فهلوتهم» والأمثلة كثيرة منها، سد حارة الدخول يمينا أو يسارا فى مقابل الوقوف فى أول إشارة المرور، والتحرك سريعا فور فتحها، ولا يهم كم المتعطلين جراء هذا التصرف «الفهلوى» ومثال آخر غاية فى الاستفزار، تشاهده حينما يتفرع الطريق، تجد من يأتى من الجانب ليدخل عنوة بسيارته أمامك بطريقة بهلوانية مربكة، ... إلخ. و لا يختلف الحال فى وسائل المواصلات العامة، ففى مترو الأنفاق تجىء محاولات تعطيله من قبل «الفهلوية» من خلال عدم غلق الباب من أجل اللحاق به، لتؤكد أن داء «الفهلوة» استشرى بصورة مخيفة، فقد بات هذا السلوك معتاداً، علماً بأن تلك «العطلات» المتكررة هى التى تزيد زمن التقاطر لوقت أطول من اللازم، بما يؤدى إلى تأخر وصول باقى الركاب، بسبب «قلة» ترسخ فى وجدانها، أن «الفهلوة» هى أحد أهم علامات التميز، وأفضل وسائلها، هى تعطيل مصالح الغير. وهكذا أصبحنا نرى سلوكيات مرفوضة، تحولت إلى عادات مفروضة، مثل إلقاء القمامة فى الطرقات، أو فى غير مكانها، أو ركن السيارة أمام أحد المحال حتى لا يسير صاحبها بضعة أمتار إذا أوقفها فى المكان المخصص، ولا يهمه أن يتوقف الطريق الضيق بطبيعته! وللأسف تسلل داء «الفهلوة» إلى الكثيرين من فئات المجتمع المصرى بكل طبقاته، مهنيين، وصناعا، وتجارا، وأصبح من المسلمات أن تستنزف المدارس الخاصة أولياء الأمور، تحت مسميات مستهلكة، بعد أن تحولت المدارس الحكومية لهيكل بلا مضمون، وكذلك المستشفيات الخاصة التى تتعامل مع المرضى، معاملة الفنادق ذات النجوم الخمس مع الرواد، بعد أن أنهكت قلة الإمكانيات المستشفيات الحكومية، لذا اللجوء للخاص بات أمراً حتميا وليس اختيارا ترفيا. الأخطر أن داء «الفهلوة» ظهر وسط الصناع، الذين تفتق ذهنهم عن أفكار جهنمية للتحايل على المواطنين، بعد أن قرروا عدم رفع الأسعار رأفة بحال الناس، قللوا فى المقابل حجم العبوة، ليحققوا ذات الربح المنشود، ولكن بطريقة مخادعة، وآخر يعطيك ضماناً لمنتجه، وحينما تظهر به عيوب، يرجع الأمر لسوء الاستخدام وليس لعيب الصناعة. إن «الفهلوة» أصبحت سمة من سمات المجتمع فى الفترة الأخيرة، بعد أن أقنع أصحابها أنفسهم بأحقيتهم فى التعامل بها ، ولا عزاء للضمير الذى اتشح بالسواد حزناً على عزوف البعض عنه، والغريب أن هناك من يشتكون شحه وهم السبب فيما حدث له. وأخيراً قبل أن توجه اللوم لغيرك اسأل نفسك هل أنت ملتزم أم «فهلوى»؟. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم