«الحضارة روح وعقل قبل أن تكون مصانع وأجهزة».. كلمات كان العالم والمفكر والفنان والرحالة فى دروب الزمان والمعرفة بفروعها المختلفة: الدكتور حسين فوزى دائما ما يرددها فى كتاباته وحواراته، عبر خلالها عن رؤيته لجوهر الحضارة التى كانت رحلته فى الحياة تتمحور حول الكشف عن تلك الروح وتحدى ذلك العقل؛ فجاء إبداعه يعكس تنوعا ثقافيا ثريا يمتع الروح والعقل معا، فكتب فى العلم و الأدب والفن بأشكاله المتنوعة, خاصة الموسيقى والعلوم وأدب الرحلات والتاريخ, مما جعله أحد أبرز المفكرين الموسوعيين ورواد النهضة والتنوير فى مصر فى القرن العشرين، وقد أمتع فوزى قراء الأهرام على مدى سنوات بمقالاته فى مجالات مختلفة، فى رحلة عطاء امتدت منذ الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضى. ما بين 29 يناير1900 وأغسطس 1988بدأت وانتهت رحلة حياة الدكتور حسين فوزى على مدى 88 عاماً، حيث ولد بالإسكندرية، وحصل على بكالوريوس الطب وتخصص فى جراحة العيون، لكنه ترك الطب وبدأ فى دراسة التاريخ الطبيعي، وسافر إلى فرنسا لدراسة علم الحيوان، وتخصص فى بيولوجيا الأحياء المائية وحصل على ليسانس العلوم من جامعة السوربون، ودبلوم الدراسات العليا فى علم الأحياء المائية من جامعه تولوز. وبعد عودته لمصر أسس مركز الأوقيانوغرافيا أو علم المحيطات، وفى عام 1931 عين مديرا لبحوث الأسماك بالإسكندرية. ويعود لفوزى الفضل أيضا فى إنشاء البرنامج الثانى بالإذاعة المصرية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون عام 1966. وعكست كتابات الدكتور حسين فوزى ولعه بالحضارة والغرب، وهو ما عبر عنه بوضوح فى تقديمه لكتابه «سندباد عصري». وجاءت كتاباته العلمية تحمل لمسة أدبية شيقة. ويعد فوزى أول من قام بتأصيل النقد الموسيقى فى مصر، وأكد تميز الموسيقى الفرعونية والقبطية والعربية عن مثيلاتها فى الغرب. كان له الفضل فى تنظيم أوركسترا القاهرة السيمفونى وإنشاء كورال الأوبرا من شباب مصر. وساهم عاشق الكمان فى استجلاب خبراء أجانب للتدريس بمعاهد أكاديمية الفنون فى مجالات السينما والباليه والموسيقي. كما كتب فى الشعر عدة قصائد أشهرها أو بريت «سليلة كليوباترا». وقد زخرت كتابات الدكتور حسين فوزى التى أمتع بها قراء الأهرام من خلال مقالاته بمجالات ورؤى متنوعة، نعرض هنا نذرا يسيرا منها يعكس تنوع ذائقته ومشاربه الثقافية والإبداعية، ربما تفتح شهية من لم يعاصروه لاستكشاف كنوز انتاجه الفكري. فى سبتمبر 1968 كتب مقالا بعنوان ادرس فى أدب الرحلاتب أعطى فيها «روشتة» سريعة تضمنت إرشادات لكل مستكشف قال فيه: «الدقة فى الوصف والاستغراق فى التفاصيل من متطلبات المستكشف والعلامة والباحث دون أن تنتفى قدراته إن وجدت- على الديباجة الجميلة والأسلوب الراقي. بيد أنه مهما تغير أسلوب المتسلق الأول لقمة جبل شامخ فإن لما يكتبه قيمة تقديرية علمية، وحتى تلعثم أول رجال الفضاء فيه قيمة المستند الإنسانى الأول عن حادث رهيب دون أن تتاح لنا مطالعته ذات يوم فى مختارات الأدب، والكتابة التقريرية تضيف إلى أرشيف الإنسانية حرارة جديرة بعناية الأجيال». وفى مقال «سندباد يختتم رحلاته» المنشور فى 10 يوليو 1982يكشف فوزى عن خطاب أعده ليلقيه خلال استقباله للرئيس جمال عبدالناصر خلال زيارة الأخير لجامعة الإسكندرية ناشده خلاله الاهتمام بغذاء الروح رغم فقر الموارد التى يعانيها الشعب، قال خلاله. إذا كنا يا سيدى الرئيس نشكو الفقر، وإذا كنتم تعملون بنشاط الجبابرة فى القضاء عليه، فإنى أرجو أن نرفع عقيرتنا بالشكوى من الفقر الروحي، وهو أسوأ وأضل سبيلا..فالعلم بضاعة بائرة إن لم تسند ظهرها القوى الروحية المستمدة من الثقافة والأخلاق. ليس يكفى أن أعرف كيف تطير الطيارة أو تعمل الجرارة ، فقد تعمل كلتاهما دون قيادة إنسانية. إنما الذى يعنى أهل الثقافة من كافة مظاهر التقدم المادى هو ما حققه الإنسان فى ميدان الفكر المطلق. لأنه بدون إعمال الفكر، لم يكن الإنسان ليستطيع فهم القوى الطبيعية فهما فلسفيا رياضيا، ما كان الإنسان ليسخرها لخدمته أو لنقمته. القوى الروحية فى العلم هى ذات القوى الروحية فى شئون الأدب والفن. لأن خلف حقائق العلم ومادة الأدب، ومظاهر الفن العالي، حقيقة واحدة هى أروع ما فى هذا العالم . حقيقة الفكر الإنسانى ومشاعر الإنسان..ب وكان الدكتور حسين فوزى مهموما بحال التعليم والثقافة فى مصر، فهو دائم الترحال ولعاً بحضارة الغرب ودائما ما كان يعقد المقارنات بين حال مصر وحال الغرب، مبديا أسفه عليها، منتقدا الأوضاع التى تؤدى بها إلى هذا الحال، ومن أبرز ما كتب فى ذلك مقاله «إيقاع الحياة» فى 9 مارس 1984 وقال فيه: «كانت مصر فى العام الخامس والعشرين من القرن الحالى تزدهر بالأمل فى مستقبل أبنائها، فتعنى بإيفاد المتقدمين فى قائمة امتحانات التخرج إلى أوروبا، وهذا قبل إنشاء الجامعات وبعد إنشائها ولتحقيق دراسة أعلى فى جامعات أوروبا بالإضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكانت هذه ظاهرة فى العشرينيات المباركة وحتى نهاية الأربعينيات ..ظاهرة لم تتجدد مع الأسف، وانصرفنا عنها، أقصد صرفونا عنها وقالوا فلنعلم هؤلاء كما تعلم من سبقهم، ولكن فى مصر التى ازدانت بجامعاتها ذات الكفاية ونسينا أمرا بسيطا، هو أن الغرب لا يتوقف عند حد، وذلك بفضل تقدم العلوم والمعارف وتطور الفن والأدب . ماذا أصاب مصر عندما توقفت فجأة عن التواصل والاستمرار فيما صنعته الحكومات السابقة مع أبنائها وبناتها فى النصف الأول من هذا القرن؟ انزوت فى ركنها وبعروبتها، واعتبرت نفسها منتهية من التعليم الحضارى الأكبر، وشأن هذا لم يتوقف هناك لحظة كما يعرفه العارفون بل تقدم ويتقدم فى كل باب». كان حسين فوزى من المثقفين الموسوعيين. وقد أثرى بمقالاته عبر الأهرام وعى القارئ المصرى والعربى فى مجالات العلم والموسيقى وأدب الرحلات فى الجغرافيا والتاريخ , فكان حقاً كما وصف نفسه: سندباداً مصريا عصريا طاف بقارئ الأهرام بحار الدنيا والزمان وكُتب التاريخ ومتاحفه وقارات المعرفة الإنسانية شرقا ً وغرباً وشمالاً وجنوبا, وكان بحق من أهرامات «الأهرام» فى عصره الذهبي.