لم يدر بخلدى وبعد أن فرغت من قراءة رواية صنع الله إبراهيم الممتعة برلين 69 لحظة وصولى إلى مدينة أنطاليا جنوبتركيا، أننى سأجد إرهاصات لها وقد تشكلت بأكثر من وجه فى العديد من الشرائط السينمائية التى حفل بها مهرجان أنطاليا السينمائى فى دورته الثانية والخمسين وبطبيعة الحال لم يكن الأمر مصادفة ان يكون مسرح أحداثها فى الشرق البعيد الفقير والمقهور، بيد أنها تمحورت حول عذابات بشر لايرون من الخلاص سوى الهروب من الموت والزحف نحو الحياة سواء بالقارة العجوز أو فى أحضان العم سام، هذا مع افتراض وكتبت لهم النجاة غير آسفين على أوطانهم وحتما سينال البعض منهم سدرة المنتهى فى حال وطئت أقدامهم ما وراء الأطلسى حيث الحلم، فعلى ضفافه كل شئ ممكن، هكذا تسابقت مفردات الفن السابع لتؤكده لمتلقيها من جمهور البرتقالة الذهبية وقد توزعت خلال لياليها التسع التى اسدل الستار عليها الأحد الفائت. وها هى السينما الهندية، تتحفنا بعمل مبدع عنونه مخرجه بيرشانت نائير باسم أمريكا ، الذى حرص على كتابته ب Umrika وفقا لما ينطقه مواطنوه فى حواراتهم وأحاديثهم الشفاهية الشغوفة بكل ما هو أمريكاني. ولأن موضوعه مقتبس من قصة حقيقية، ينطلق النص السينمائى من منتصف عقد الثمانينيات، حيث دارت وقائعها، صحيح أن صياغته لم تخل من لمسات كوميدية، إلا أن مضمونها بدا مفعما بالسخرية والمأساة معا، يكشفها هذا الشاب الذى استقيظ من وهم عاشه لسنوات منذ أن كان طفلا، وهو أن أخاه الذى ترك قريته من أجل امريكا، وقع فريسة فقره وانتهى به الحال حلاقا فى أحشاء بومباى لا يبرحها، والخطابات بمظاريفها المختومة والتى حملت قصصه عن بلد العجائب لفقها الأب كرشوة للأم ليهدئ من روعها على ابنها وفى ذات الوقت لا تضن عليه بآهات حرمان فى فراش هجرته بعد أن هجرها الابن. ولم يدر الرجل أن تلفيقه الذى ساعده فيه أخوه موظف البريد، سيجلب سعادة طاغية لأهل عشريته وهم يلتفون فى أمسياتهم الطويلة حول قارئ الرسائل ينصتون بشغف مذهل، لتفاصيل الحياة الامريكانية هنا يقرر الشقيق الأصغر أن يحقق ما فشل شقيقه الاكبر فى تحقيقه والطريق معروف أنهم مافيا تجار البشر. ومن جنوبها وتحديدا من سيرلانكا المجهولة بالنسبة لكثيرين من أوروبيين وغيرهم، كان عشاق السينما على موعد مع عمل آخر بالغ الاثارة والتوحش ومبدع يصب فى نفس الاتجاه أنه «دهيبان» الذى نال سعفة كان فى دورته الأخيرة. نعم، فشخوصه هربوا من حرب أهلية طاحنة بدت لغة الموت فيها أسطورية، ليجدوا أنفسهم فى بلاد الغال هناك كانت فى انتظارهم عوالم لا علاقة لها بفولتير ورموز التنوير، بيد أن الدم والمخدرات والعنصرية سيكونون عناوينها وهكذا انقسم يومهم بين نهار موغل فى الرعب والخوف مثل الليل تماما، فقط أضيف له عذاب أجساد تحترق بنيران الرغبة لكن كان هناك إصرار على المقاومة ورفض الموت بأى ثمن للعيش فى نقيضه. ورغم أن إنتاجه فرنسيا وصاغه سينمائيا المخرج جاك أوديار والذى سيشارك كتابته مع توماس بيدجيان، فإن موضوعه سيرلانكيا بإمتياز وكذا أبطاله ، إننا أمام عائلة مزورة من ثلاثة أشخاص رجل فى الثلاثين وإمراة وصبية لا يعرفون شيئا عن بعضهم البعض فقط التحموا يحتضنهم الفيل الآله الهندوسي، حتى يجدوا مكانا ككيان واحد فى باريس ، وليواجهوا فوضى وحرائق مع السكان المحليين وحربا دموية تقشعر لها الأبدان ولكن لا مفر من خوضها والانتصار فيها هكذا فعل بطل الفيلم ، المعنون باسمه دهيبان، مستغلا مهارته المكتسبة فى القتل والتشويه كجندى طفل حتى سن 19 فى حرب نمور التاميل وهنا فقط يلتصق الغرباء ليصبحوا أسرة حقيقية فى نفس الجغرافيا وبمشاركة فرنسية يابانية ، ينسج لنا المخرج الصينى جيا تشانج شريطا عن هذا الهيام الجنون نفسه بنقيض الشرق أنه الرحيل بعيدا عن الجبال فبالتوازى مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى تمر بها الصين. المفارقة أنه فى الوقت الذى توصد فيه أبواب اوروبا أمام الآلاف من اللاجئين السوريين وغيرهها هى استديوهاتها تنتج افلاما تؤكد أن الغرب سيظل هو دون غيره ملاذا للذين هم أصلا خارج الحياة الانسانية.