فازت السينما العربية بجائزة ذهبية للفيلم اللبنانى القصير «موج 98» للمخرج إيلى داغر، عشنا هذه الدورة فى حضور عربى شحيح جدا يصل إلى حدود الندرة، حتى إننى وصفته فى مقال سابق «حضور بمذاق الغياب»، ولكنه فى نهاية الأمر توج بجائزة عزيزة المنال، وذلك فى سابقة نادرة طوال تاريخ السينما العربية بالمهرجان على مدى تاريخه فى 68 دورة، فزنا عام 1975 بجائزة السعفة الذهبية عن فيلم «وقائع سنوات الجمر» للمخرج محمد الأخضر حامينا، وقبلها فاز حامينا أيضا بجائزة «الكاميرا دور» الكاميرا الذهبية كأفضل فيلم عمل أول عن «ريح الأوراس»، عدا ذلك رصيدنا ضئيل جدا فى جوائز «كان». لجنة تحكيم لكل من اللبنانى مارون بغدادى «خارج الحياة» 91، والفلسطينى إيليا سليمان «يد إلهية» 2002، ولو أضفنا التكريم الخاص ليوسف شاهين عن مجمل أفلامه عام 97 نستطيع أن نرى الحقيقة المرة التى عانينا منها كعرب كأنه نوع من الحب من طرف واحد. هذا العام لم يزد حضورنا على مجرد عضوين فى لجنة تحكيم قسم «نظرة ما» نادين لبكى، المخرجة والممثلة اللبنانية، وأيضا المخرجة السعودية هيفاء المنصور، لنا أيضا الفيلم الفلسطينى فى قسم «أسبوع النقاد» وعنوانه «ديجراديه» قَصة شَعر تجرى أحداثه فى صالون لتجميل النساء، ويحيل القضية إلى مجرد صراع فلسطينى فلسطينى داخل غزة، رغم استناد الفيلم الذى أخرجه الأخوان عرب وطرزان إلى واقعة حقيقية، إذ سرق شاب أسدا من حديقة الحيوان وطاردته سلطات «حماس» وذهب هو والأسد ضحايا فى نهاية الأمر. لا بأس بالطبع أن ينتقد الفلسطينى «حماس»، إلا أن ولا كلمة توجه فى الصالون ضد إسرائيل، لم أرتح إلى الفيلم فكريا، ولكن على المستوى الفنى لم يشبعنى، ولم أجد فى الحقيقة إضافة إبداعية حقيقية، لأن حصر الأبطال فى مكان يحتاج إلى قدرة خاصة سواء فى الكتابة الدرامية أو على مستوى تشكيل الصورة، وأخفق المخرجان التوأم فى الحالتين، كنت قد شاهدت للتوأم قبل عامين فيلما قصيرا عنوانه «كندم» سخرا فيه من إسرائيل، وعبرا عن ذلك بالإخفاق الجنسى الذى عانى منه رجل مع زوجته، فأحال «الكندم» العازل الطبى فى نهاية الأمر إلى بالونات. الفيلم القصير كان ساخرا وطريفا فى معالجته الدرامية، وهذا هو ما افتقدته تحديدا فى أول تجربة روائية طويلة للتوأم عرب وطرزان. أيضا الفيلم المغربى الطويل «الزين اللى فيك» الذى يتناول الدعارة فى المغرب، وكتبت عن الفيلم مقالا عنوانه «بورنو إلا قليلا»، إلا أننى فى نفس الوقت ضد توجيه أى عقاب أدبى للمخرج مثل التهديد بنزع الجنسية أو اتهامه بأنه يبيع وطنه من أجل تقديم شريط سينمائى يرضى الغرب. الفيلم رفض المركز السينمائى المغربى تمويله لاعتراضه على السيناريو لأسباب من المؤكد فنية، ولكنى أراه فى نهاية الأمر متواضعا فنيا، ولكنى ضد شهر سلاح المنع والتخويف بالعمالة الذى وجه ضد المخرج لمجرد أنه تناول قضية الدعارة. وقبل أن نصل إلى الفيلم العربى الذى شرفنا حقيقة فى «كان»، دعونا نتوقف أمام جوائز الصدمة، التى أسفرت عنها هذه الدورة، والتى رأس لجنة التحكيم الأخوان «كوين» إيثان وجويل، توقعت أن الجائزة من نصيب الفيلم المجرى «ابن شاؤول» وكان قد حصل على جائزة الفيبرسكى قبلها بأربع وعشرين ساعة، التى يمنحها اتحاد النقاد الدوليين، ولكن حصل الفيلم على جائزة المهرجان الكبرى التى تلى الجائزة «السعفة»، كما أننى كنت أرى الفيلم الإيطالى «شباب» يقدم لغة سينمائية خالصة ولكن لجنة التحكيم كان لها رأى آخر. ويبقى اسم المخرج الفرنسى الذى كسب فى نهاية المطاف الجولة وانتزع السعفة جاك أوديار بفيلمه «ديبان»، فيلم فرنسى ولكنه يدين فرنسا فى تعاملها مع المهاجرين، ويحذر من عصابات «مافيا» تفرض قانونها على ضواحى باريس. اختار عائلة ليست عائلة بالمعنى الصحيح للكلمة، بل جمعتهم الرغبة فى الهجرة من سيريلانكا إلى فرنسا، إلى انتحال صفة العائلة. رجل وامرأة وطفلة أرادوا الحياة، بينما الموت يحاصرهم من كل جانب. الرجل كان ينتمى إلى قوات التاميل فى سيريلانكا، ولكنه يريد أن يبدأ صفحة جديدة تريد الحياة ويهاجر إلى فرنسا أملا فى حياة أفضل. الطفلة تقبل على الحياة الجديدة وهى الأكثر بحكم السن لتقبل تعلم اللغة الفرنسية، ولكن الرجل والمرأة لا يفقدان الأمل فى تعلم اللغة. الرجل يعمل كحارس مبانٍ، وهو لا يريد سوى السلام والعيش بكرامة، ونراه وهو حريص على العائلة لكى يصبح لها قوام رسمى، يبدأ فى البحث بأمواله القليلة على شبكة يقدمها للمرأة لتصبح بالفعل عروسه، ولكن المافيا تضعهم فى عمق النيران، إذ إن المرأة تعمل فى بيت أحد الرجال المسنين لمساعدته مقابل أجر على العيش، وهو لديه ابن، نكتشف فى ما بعد أنه متورط ومطلوب، ويتم بالفعل اغتياله هو ووالده فى أثناء تبادل لإطلاق النيران، وتشعر السيدة بالخوف وتتصل برجلها، كانت قبلها وهى تسعى لكى تهاجر بمفردها إلى لندن لابن عمها الذى يقيم هناك، وتنتهى الأحداث وهم هناك فى لندن بعد مرور زمن، لنعيش مع هذه العائلة أملا قادما. الفيلم بسيط فى تناوله الدرامى والإخراجى، وكلاسيكى فى منهجه الفكرى، ولكن هكذا أرادت لجنة التحكيم أن تنحاز إلى هذا النوع من الفن السينمائى، فهو يدافع عن الإنسان المهاجر البسيط، الذى قرر أن يناضل من أجل الحياة، وعبر عنه بطل الفيلم ديبان، الذى لم يمتنع فقط عن حمل السلاح، وإن كان قد أجبر عليه للدفاع عن نفسه، ولكنه كان يحمل مشاعر صادقة وحقيقية للدفاع عن الحياة، ربما بسبب أن الفيلم تبنى تلك الرسالة النادرة والعزيزة قرروا تتويجه بالسعفة، رغم استحقاق أفلام أخرى الجائزة، مثل «شباب» و«أمى» من إيطاليا و«كارول» الأمريكى، ولكن من حق اللجنة أن تعلن بالطبع انحيازها. ويبقى فى الحقيقة الانتصار العربى لنا فى فيلم «موج 98» لإيلى داغر، وجاء فوزا لبنانيا وعربيا عزيز المنال فى لجنة التحكيم التى يرأسها المخرج الموريتانى عبد الرحمن سيسيكو. وبالطبع لا توجد أدنى شبهة للتحيز العربى، الفيلم حطم الشكل التقليدى، فلا تستطيع أن تضعه تماما فى عالم التحريك، ولكنك أيضا لا تستطيع أن تضعه داخل القواعد الصارمة لأفلام التحريك، رغم اعتماد المخرج فى بنائه على هذا المنهج، وهو ينتقل بين الواقعى والمتخيل فى رؤية تنحو إلى السيريالية، وهى تقدم أحلاما، وفى تنقلها بين كل الأطياف، لوحات مرسومة بألق وحس درامى وتعبيرى وطبيعة ثرية، تقف بين كل ذلك وتجمعه فى هارمونية، وهكذا تحول غيابنا الذى كان له مذاق الحسرة إلى انتصار مدوٍّ له مذاق الزهو!!