ثمّة إجماع- أو ما يشبه الإجماع- على أن الانتخابات النيابية الجارية هذه الأيام على قدم وساق شهدت تغول ظاهرة شراء الأصوات فى العديد، بل الكثير، من الدوائر كما لم يحدث من قبل. وقيل الكثير عن تطورات بورصة شراء الأصوات. وتناقل الناس الروايات تلو الروايات، عن دلق مئات ملايين الجنيهات، فى هذا المعترك الصعب. بعضهم أكد أن الصوت الواحد بلغ ثمنه أحيانا 500 جنيه، بل وأقسم أحدهم أنه شاهد من يدفع فى الصوت 700 ! ولأننا اعتدنا دائما النظر إلى الأمور من زاوية ضيقة، فقد ذهب المراقبون الأشاوس إلى أن تلك الظاهرة مشينة، وكبيرة من الكبائر السياسية. بل وتهور بعض المحللين، فأساءوا إلى الفريقين؛ دافع الفلوس والمدفوع له. ودارت طاحونة المزايدات، والمبالغات والادعاءات الرومانسية، وتجرأ البعض فقالوا إن برلمانا جاء نتيجة للمال السياسى هو برلمان مطعون فى صدقيته، وأن النواب الذين دخلوا من هذا الباب هم نواب لا يستحقون شرف تمثيل الأمة. غير أن التفكير بتمهل ورويّة، وببعض الواقعية المجتمعية، والموضوعية اللوذعية، التى تفرضها الضرورة الحياتية، سوف يقودنا لا محالة إلى تصورات أخرى عبقرية. وهكذا فإن المنطق يفرض علينا أن ننظر للأمور من زاوية واسعة. والسؤال هو: إذا كانت الذمم أصلا خربة وواسعة اتساع المحيطات.. فلماذا نأتى إلى المسالة الانتخابية ونريدها ضيقة؟ كن واقعيا يا سيدنا.. وبحبحها قليلا.. وساعتها سوف تكتشف أنه لا أزمة فى الموضوع ولا حاجة! كيف يعنى؟ تعال نسأل أنفسنا هذا السؤال: من الذى دفع؟ أليسوا أناسا فتح الله عليهم بالرزق الوفير، وتلتلوا الأموال على قلوبهم، فلم يعودوا يعرفون كيف ينفقونها من كثرتها؟ طيب.. فمن الذين تم الدفع لهم فقبضوا هنيئا مريئا؟ أليسوا فقراء معوزين ضربهم السلك فأوجعهم؟ يا عم الحاج أين الأزمة إذن؟ ناس معهم منحت أناسا ليس معهم.. أين المشكلة؟ ولماذا قطع الأرزاق؟ ستباغتنى حضرتك بسؤال تحسبه مفحما مع أنه لا مفحم ولا حاجة. ستقول: أليست تلك فلوس حرام؟ وسأجيبك: وهل مع سيادتك فتوى من دار الإفتاء بذلك؟ طلّعها لو كنت شاطرا. يا أستاذ.. إن من يملك أعطى من يستحق.. غلبان وشاف لقمة سهلة أمامه.. ألا يمد يده فيأكلها؟ حط نفسك مكانه يا عمنا ثم أجب. ستتفلسف وتتمنظر وتتعبقر وتصرخ: وهل مثل هذا المال الانتخابى أصل من أصول اللعبة الديمقراطية؟ وسأجيبك على الفور:آآآآآى نعم ! وانظر إن شئت إلى كل الانتخابات فى أعرق الديمقراطيات.. حتى الأمريكية منها. سوف تجد التبرعات، والمساهمات فى الحملات، والمكاسب التى تعطى لكبريات الشركات نظير المساهمة فى دعم المرشحين والمرشحات.. ولسوف يقشعر بدنك من حجم الأموال التى يتم دفعها من تحت الترابيزات. طبعا هم هناك يفعلون ذلك بمنتهى الذكاء والشياكة والفتاكة، لزوم المنظرة والشكل العام.. لكن فى نهاية المطاف فإن المال هو المال.. وكل واحد وعلامه. أما نحن فقد كنا أكثر صراحة ومكاشفة للنفس منهم.. ناس واضحة.. إذ لماذا الدفع تحت الترابيزة يا سيدنا مادامت النتيجة واحدة؟ يا حبيبى إن من يزمّر لا يخبئ ذقنه! ثم تعال نكن أكثر صراحة- تلك الصراحة التى تبلغ حد الوقاحة- ونسأل: أليست سياسة الدرج المفتوح باتت سنّة مؤكدة فى كثير من مصالحنا الحكومية؟ أليس شعار«أبّجنى تجدنى» أصبح سائدا فى العديد من المؤسسات، حتى الاستثمارية منها؟ لا تصدق؟ إذن فاسأل أى راغب فى الاستثمار بهذا البلد وسوف يحكى لك ما يجعل الولدان شيبا؟ فلماذا نأتى إلى الغلبان المفحوت ونستكثرها عليه؟ وهل الكعكة فى يد اليتيم عجبة؟ طبعا هذا التحليل، العبثى فى ظاهره العميق فى جوهره، لن يروق لك، وقد يفجعك فيوجعك. أنت حر. لكن لو حدث وتعاطفت معه( ولو بنسبة ضئيلة!) فهيا نقترح معا- أنا وأنت- هذا الاقتراح: لماذا لا تسارع حكومتنا السنية، إلى جعل تلك الانتخابات البرلمانية، عملية نصف سنوية، أو حتى شهرية، ومن ثم يجود الميسورون بمالهم، ويجود الغلبانون المطحونون بأصواتهم؟ أتدرون ماذا ستكون النتيجة؟ لن يمضى عقد من الزمان أو عقدان، إلا وسيشهد المجتمع إعادة لتوزيع الثروة به.. وهكذا يتحقق التكافل الاجتماعى المنشود. طبعا حضرتك ستفاجئنى آنئذ بسؤال وجيه وتقول: ومن أدراك يا معلم أن الناجحين فى البرلمان بالمال السياسى سيتركون أى شىء أصلا لهؤلاء الغلابة بعد نجاحهم؟ أليس من الوارد أن يشفطوا «الحليبة والرايبة» فلا يبقى للشحاذين سوى مصمصة الشفاه؟ سؤال جميل.. فما رأيكم.. دام فضلكم؟ لمزيد من مقالات سمير الشحات