كان يمكن لأصغر كادر ماركسى ينتمى إلى الحزب الشيوعى الحاكم فى الأنظمة الشمولية قبل سقوط الاتحاد السوفيتى أن يفحم مواطنه الغلبان المعارض منهيًا أى حوار معه بسؤال استنكارى قائلا: هل تعترف أنك بهذا تخالف ما هو ثابت ومعلوم من قواعد الماركسية؟! ولكم أن تتخيلوا ما يمكن أن يحدث فى حالة عدم تراجع ذلك المواطن الغلبان عن رأيه. الحكم باسم الدين لا يختلف عن هذا فى شىء مطلقا، بل إنه يزيد عليه قسوة وصرامة. لأنه يقهر المواطن بأعتى أنواع الأنظمة الشمولية التى تتسلط عليه وتزعم أنها تعرف مصلحته أكثر منه، والتى يحق لأصغر كوادرها وأشدهم جهلا أن ينهره عندما يختلف معه ويسأله مستنكرا: هل تخالف شرع الله؟ هل تنكر ما هو معلوم منه بالضرورة؟ ربما يسأل بعضكم: وهل تجوز المقارنة بين نظرية وضعية، وديانة سماوية؟ نعم. تجوز وألف تجوز. انظروا معى إلى تعدد نظم الحكم الإسلامية من سُنية إلى شيعية وعلوية على اختلاف مذاهبها ومدارسها الجهادية والتكفيرية. كلها تزعم أنها الفرقة الناجية صاحبة التوكيل الحصرى للإسلام، وكلها تقدم رؤية مختلفة تخصها فى الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكنها كلها تتفق -ويا للعجب!- على رعايتها لأحطّ أنواع الممارسات الفاشية التى لا تبدع غير وسائل القمع ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان! كلها تتجاهل تماما أن النقاش العلمى الحر فقط هو الذى يحدد صحة الفكرة ومدى نجاحها أو إخفاقها. تنكسر نزاهة ومعقولية الحوار معهم عندما يشهرون سلاح رفض شرع الله فى وجوه معارضيهم. سلفيونا يشتركون مع طائفة الآميش، وهم السلفيون الأمريكيون، فى استخدام سلاح شرع الله ومشيئته لرفض إباحة الإجهاض. رغم أن المجتمع الأمريكى المسيحى، المحافظ بطبعه، يرفض طواعية إباحة الإجهاض، إلا عندما تدعو إليه الضرورة كالحمل سفاحًا فى حالات الاغتصاب، أو زنى المحارم، أو فى حالات انعزال العوامل الوراثية التى تثبت الهندسة الجينية أنها ستؤدى إلى إعاقات أو تشوهات خلقية للأجنة. رفض الإجهاض حتى فى تلك الحالات يحدث تحت إرهاب المعارضين بحجة رفضهم لشرع الله ومشيئته! لدينا مثال آخر أبشع لامتطاء الدين وفقر الفكر. يجسده مليارديرات الإخوان، الذين أكرمهم حظنا العاثر بالقفز على مقاعد السلطة، والذين يروّجون لاقتصاد إسلامى يعشش فى رؤوسهم فقط. يهدر العدالة الاجتماعية بطريقة أشد توحشا من أعتى الرأسماليات العالمية. عندما يروّجون لفكرة الزكاة كبديل عن النظام الضريبى فى المجتمع. يتضح التحايل البشع هنا عندما نعرف أن أولئك المليارديرات لن يستحق عليهم شرعًا تأدية الزكاة عن أرباحهم الخرافية! لأن شرط احتساب زكاة المال أن يحول عليه الحول، أى أن يكتنزه صاحبه لعام قمرى كامل. وهو ما لن يحدث بالطبع لأنهم يديرون أرباحهم دائما فى الأسواق بطريقة تخرجها من دائرة الأموال الراكدة التى تستحق عنها الزكاة! يُفتون بهذا بينما فى شرعهم يدفع المواطن الغلبان الزكاة عن أمواله القليلة لأنها لا تدور فى سوق العمل! فأىّ شرع هذا الذى يبيح التلاعب بعقول البسطاء وحقوقهم فى عدالة اجتماعية يهدرها تطبيق قواعد رأسمال بدوى، عفا عليه الزمن، على مجتمعات معاصرة تنتمى إلى سوق اقتصادية عالمية معقدة؟ وكله بالشرع يا معلم! وصباح الفل على حقوق الكادحين فى عدالة اجتماعية لن يصنعها تكافل هو صدقة يمن بها الأغنياء على الفقراء، وليس إلزاما يعتبر المتهرب منه مجرما بحكم القانون. هناك فرق هائل بين مجتمعات تحترم المواطنة، وأخرى تهدر أبسط القيم الأخلاقية بشرع الله! فى مقالى السابق تحدثت عن استحالة العودة فى الزمان، لأن الأفكار التى ترفض الاعتراف بالشيخوخة تعيش كعجوز متصابية، يتملكها حلم العودة إلى عصر زائل كان يعتبرها، فى شبابها، قمة الحداثة والثورة على أفكاره البالية. لكنها تفقد قدرتها على الصراع من أجل البقاء، وستنقرض بمرور الوقت عندما تفشل فى إدراك أن الأفكار الجديدة، التى ربما تكون مستلهَمة منها، صارت أكثر لياقة وقدرة على مواكبة روح العصر الجديد. من أطرف الأشياء أن هناك سلفيين يعتبرون النباتيين مارقين، ما دام المرض لا يمنعهم من تناول اللحوم! ويعتبرون سلوكهم هذا خرقًا للشرع لأنهم لا يأكلون ما أحلّه الله للمؤمنين! بدعوى أن رفضهم تناوُل تلك الأطعمة يخرجهم عن الملة لمخالفتهم شرع الله الذى أحلّ صيد البر والبحر، والذى يأمرنا صراحة بقوله «كلوا من طيبات ما رزقناكم». هل وضحت الرؤية؟ الوصاية على الأفكار هى محاولة لتنميط البشر، وإفقادهم تفردهم لحرمانهم من كل إبداع يصنعه الاختلاف. منذ أسابيع كتبت على «فيسبوك» ما معناه: كيف تدّعى تيارات الإسلام السياسى أنها صاحبة الثورة بينما لم يخرج من بينهم شاعر أو فنان أو أى صاحب فكر مبدع فى أى مجال من المجالات؟ لماذا يتحفوننا فقط كل آن وآخر ببذاءات وأفكار مستعادة ما أنزل الله بها من سلطان؟ الإجابة: لأن الإبداع لا يمنح نفسه إلا للمجددين الثائرين، الذين يتفاعلون بأفكارهم مع روح عصرهم. من رابع المستحيلات أن ينشأ إبداع فى عقول لا هدف لها إلا إعادة استنساخ الماضى. العودة فى الزمان لا تتطلب أى إبداع لأن منهجها تلخصه مقولة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان!» لن يحدث تقدم إلا بإعمال العقل، وتزاوُج الأفكار، وحرية الخيال، وكلها أشياء يستحيل حدوثها فى مناخ يستميت لزراعة الماضى فى رحم الحاضر، ويفرض وصايته على العقول بادّعاء مخالفتها شرع الله بطريقة لن يخرسها إلا الرد بأعلى صوت بالسؤال العبقرى المصرى الخالد: فى شرع مين يا بابا؟