يرمز الفراعنة للبيت فى كتاباتهم بمستطيل فيه فتحة صغيرة. البيت كما فهمه أجدادنا هو حيز هندسى مقتطع من العالم، ولكنه متصل به،وفى أمان البيت نكرر طقوسنا اليومية، وداخلها نولد ومنها نطل على الدنيا، وفى حجراتها لا تنمو أجسادنا فقط وإنما تتشكل أرواحنا أيضا. البيت والعالم هو عنوان رواية طاغور أديب الهند الكبير، وقد حولها عبقرى هندى آخر وهو ستياجيت راى الى فيلم سينمائى بنفس العنوان. طاغور يبحث فى روايته عن علاقة البيت وغرفه بالعالم الداخلى لأبطاله، بنفوسهم المغلقة على نواياها واسرارها، والتى لا تملك إلا التقاطع والتدافع فيما بينها، تتجاوز السيدة بيمالا بطلة الرواية، عتبات القاعة الداخلية المخصصة للحريم ،وتصر على استقبال ضيوفها بنفسها فى البهو الرحيب للبيت، فتواجه بالريبة والاستهجان، جرأة بيمالا على نظام البيت، لم يكن هروبا من رتابة المهام المنزلية وإنما خطوة شجاعة نحو العالم الواسع الصاخب خارج الجدران . عندما تصطف البيوت تصنع بتجاورها شارعا، والشوارع تمتد لتتقاطع فى ميادين، ومن الشوارع و البيوت والميادين، ينشأ النسيج العمرانى، الى جانب هذا النص المادى، هناك حياة يصنعها بشر وكائنات تعمر فراغات المدينة ،قديما كانت الخيول والحمير تقطع شوارعها بأمان، والآن توارت ولكن مازالت القطط والكلاب والطيور والفئران والدواجن تتمتع بحق المواطنة كاملا، إنها الجزء المرن والبيولوجى من حكاية كل مدينة، وكى تصنع البيوت فى تجاورها شارعا عليها أن تتخلى عن كتلتها وخصوصيتها وتتمسك فقط بواجهتها، وتكتفى بأن تصبح رقما مسلسلا يطل على طريق، فى هذا الاصطفاف يكمن جوهر المدينة، فلكل بيت رقم، وربما لانعرف من يسكن بداخله، بينما فى القرية لا يمكن فصل البيوت عن أهلها، الحس المدنى مبنى على مبدأ المواطنة، الذى يعارض كافة أشكال التمييز والتراتبية، المدينة لذلك هى مكان القانون، مكان نزع أى صفة استثنائية، هى مكان الحرية بمعناها الواسع، أنت حر ما دمت لا تخرق القانون، والحرية موضوع رئيسى للفكر وللسياسة، المدينة هى فى نهاية الأمر الوسيط الذكى بين البيت والعالم. البيت هو الأمان ولكنه أيضا جدران تعزلنا داخلها، والقول الشائع إن البيوت أسرار يعنى أن ما يدور بداخلها ليس متاحا للتداول، فعندما يخرج الشخص الى الشوارع يترك كل هذه التفاصيل خلفه ويصبح كائنا مدنيا ، فى حضرة المجال العام، يصبح شخصا، أو بعبارة أخرى يصبح شخصية، برسونا Persona والكلمة فى الأصل اللاتينى تعنى القناع، هكذا نشبه البيوت فى سلوكنا، لأننا نتخلى fvmnkh عن أعماقنا لمصلحة الواجهة، نصنع واجهات يتم التعامل معنا من خلالها، ولا نترك التقاطعات مفتوحة للارتجال. طريقتنا فى المصافحة والنظر والعتاب والود والغضب والابتعاد تتبع شفرات متفق عليها. فى العشوائيات ينضغط الحيز الفاصل ونظرا لهشاشة البناء، تصبح الخصوصية أمرا مستبعدا، تتلاصق الأجساد كما تتداخل الغرف والشوارع نفسها، ليعيش الواحد داخل تفاصيل الكل. فى تلك الأحياء حضور جماعى كثيف ومتداخل بالضرورة. وهكذا يصبح الحى امتدادا بلا شكل، وتكرارا لوحدات هشة، ينتهى فجأة بالتقاطع مع أحد الطرق الواسعة، ينتهى الحى العشوائى كمكان ،عندما تعلن المدينة عن حضورها، بهندستها الصارمة، التى تعتبر ما يقع خارجها هامشيا ومتطفلا، ولذا يجد التجمع العشوائى نفسه مجبرا على الزحف نحو الأطراف، ككيان مرتجل، كتل متشابهة يصعب أن تجسد هوية خاصة بها . هذا الانفصال عن جسد المدينة، يتأكد بشكل مستفز مع الأحياء والتجمعات المتميزة التى تطوقها، والتى تؤكد بأسوارها الفاصلة وبواباتها، أنها لم تعد جزءا عضويا من المدينة، ولذا تراقب من يدخل ومن يخرج، عند هذه البوابات ندرك أننا قد غادرنا مدينتنا. الكومباوند كلمة انجليزية مازالت غريبة عن أرواحنا، تماما ككلمة التجمع ، وغريبة عن الحى كما نعرفه وبعيدة عن الصلة بالحياة، فى هذا الكومباوند كما يسميه البسطاء، يحتفظ البيت بكامل كتلته وعزلته، ولا يدخل فى علاقة تجاور حتى بالبيت الأقرب له، انه الوجه الآخر للعشوائية. ففى زحام العشوائيات تتلاشى أى خصوصية سواء للأجساد أو لكتل البيوت المتلاصقة، أما الكومباوند، فإنه نقيض الاندماج والاصطفاف، هو موقع التميز الكامل، لأنه ليس مجرد سكن، إنه شكل آخر للحياة، يقفز فوق المتاح للآخرين كمواطنين فى المدينة.التجمعات الجديدة هى طوق من جزر انيقة ونظيفة يحيط بالمدينة ولكنه يحتفظ بمسافة عنها، فبينما تميل العشوائيات للزحف نحو المركز، يتباعد الكومباوند نحو الأطراف، هذه التجمعات الأشبه بالمنتجعات والتى تحمل أسماء أجنبيه تزرع واقعا مصطنعا حول مدننا، لتوسع الفجوات والشروخ، باستيراد صور باهتة للحياة منسوخة من الأصل الأمريكى ،وهى الأشد خطرا على روح المدينة ووظيفتها. فى مصر قمنا بمبادرات شجاعة لتحديث مدننا: الشباك بدلا من المشربية والميدان المفتوح والشوارع المستقيمة بدلا من الحارة المغلقة والعطفة والربع، الرقم المدنى والخدمات المشتركة للجميع. ولكننا بعد قرنين فوجئنا بأن ما بنيناه يتفكك بالفعل، فقد النسيج العمرانى تجانسه، انفرطت شوارعنا ومدننا وخدماتنا. والأكثر فداحة أننا تركنا مدننا لتنفصم ارواحها، وتفقد تماسكها، وتعجز عن دمج مكوناتها فى هوية تخصها، لابد من مواجهة قوية وجراحات قاسية كى نعيد لمدننا روحها، كى تصبح جسدا ديناميكيا ، تتعدد مستوياته ولكنه يظل محتفظا بتماسكه. البيت والعالم ، قطبان كبيران تجرى فيهما حياتنا، التى لا يمكن بعثرتها فى الشوارع والميادين، ولا يمكن بالمثل تحصينها داخل جدران باردة، إنها معادلة صعبة بالفعل، ونحن فى حاجة لتأمل ما فعلناه نحن بأنفسنا وبيوتنا وشوراعنا ومدننا، قبل أن نوزع كما اعتدنا الاتهامات والمؤامرات على التاريخ والجغرافيا وعلى العالم بأسره. لمزيد من مقالات عادل السيوى