الحياة نعمة عظيمة وهي عطية الخالق ، ولذلك فالإنسان يولد محباً للحياة ، ومقبلاً عليها ، لكن عوامل مجتمعية داخلية وخارجية تجعل من هذا المخلوق كائناً عدوانياً يفضل الموت على الحياة ، هلا تساءلنا : ما الذي جعل هؤلاء الشباب الذين تربوا بين أحضان وطنهم ورضعوا من ثقافته وتعلموا في رحاب المدارس والمنابر الدينية ، ما الذي جعلهم ينقلبون على مجتمعهم وحوشاً ضارية وأدوات للقتل وقنابل مدمرة ؟!. لم تكن مجتمعاتنا بهذا العنف، لقد عاش الآباء والأجداد في مصالحة مع الذات ومع الآخر، وتعاملوا مع جميع شعوب الأرض من دون عقد ووساوس مرضية ، فما الذي حصل لمجتمعاتنا ؟ ولماذا أصبح بعض شبابنا عدوانياً ناقماً على الحياة والأحياء ؟. منذ بزوغ الألفية الثالثة، قبل 15 عاماً، يعيش العالم بأسره ظروفاً استثنائية صعبة للغاية، ولم يكن عالمنا العربي بمنأى عن تداعيات وتأثيرات مظاهر الاستقطاب والتجاذب التي افرزتها الصراعات والتحولات والتغيرات الكبرى التي بدأت تُعيد إنتاج وتشكيل قوانين ونظم وتحالفات واصطفافات لصياغة عالم جديد. فمنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، ثم غزو العراق الذي بدأ في 20 مارس 2003، وصولاً لبانوراما الربيع العربي الذي دشنته ثورة الياسمين التونسية في 17 ديسمبر 2010، والمنطقة العربية تموج بالاحتجاجات والثورات والصراعات والانقسامات، مما تسبب في ضياع بوصلة التنمية والأمن والاستقرار في هذا العالم العربي المضطرب والمحتقن، ولكن الخطر الأكبر الذي يتصدر قائمة المعضلة العربية الآن، هو ميل الشباب العربي وبشكل كثيف وسريع للعنف والتشدد والتطرف، بل والتوحش. الارهاب فكر، لكنه عدواني ، وهو مرض ، لكنه يصيب النفس ، ويميت القلب ، وبيئة حاضنة ، لكن تسودها الكآبة والبؤس والإحباط ، وصحيح أن هذا الفكر العدواني المنحرف، أساسه التنشئة الأولى وخبرات الطفولة القاسية ثم التعليم الأحادي التلقيني الذي لا ينمي العقلية الناقدة إلا أن الخطاب الديني التحريضي وفتاوى التكفير والأشرطة والكتيبات المتعصبة وأخيراً المنبر الالكتروني المتطرف والذي أصبح بوابة التنظيمات الارهابية ، لها الأثر الأعظم في ترويج الفكر الإرهابي. ان التحريض الذي ساعد على انتشاره التقدم التقني في مجال الإعلام هو (الوقود) الذي ضمن استمرار ونمو الارهاب. العمل الإرهابي، له بناء فكري معروف ، ومفاهيم دينية واضحة وإن كانت مغلوطة ، والإرهابيون أبناء بررة لخطاب ثقافي مشحون بكراهية عميقة للحضارة الغربية وقيمها ونظمها ومفاهيمها . والإرهابيون هم نتاج هذا الخطاب ، وليسوا حمقى أو مرضى أو جهلة أو مغرر بهم ، الإرهابيون هم نتاج خطاب استعلائي ، تعصبي يحتكر الصواب المطلق، أسهم في إنتاجه منابر تربوية وتعليمية ودينية وإعلامية عبر سنين طويلة، كان الهدف الرئيسي لهذا الخطاب المشحون، الحطّ من حضارة الغرب ، والترويج لعدوانيتها وماديتها وإباحيتها ، بهدف تنفير شبابنا منها وتحصينهم ثقافياً ودينياً ضدها, في مقابل تصوير ماضي المسلمين مجيداً زاهراً قوياً عبر التركيز على اللحظات المضيئة في تاريخنا، وتجاهل ألف سنة من الظلام والحروب والدماء والفتن والجهالة والتخلف ، ظناً أن ازدراء الآخرين في مقابل استعلاء الذات ، فيه الحصانة لشبابنا ، وثبت أن كل ذلك وهم كبير ندفع ثمنه الآن. وحتى لا يستمر النزف من طاقاتنا وثرواتنا الشبابية، آن الوقت لترشيد حالة الاستقطابات الفكرية الطائفية البغيضة التي تُمارسها المناهج والمنابر والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق إيقاظ حالة الحس والانتماء الوطني وزيادة درجات الوعي والتسامح. لا بد من تحريك الآلة الإعلامية، خصوصاً الإعلام الرسمي للدول، لمواجهة هذا الغزو الفكري عن طريق برامج توعية وإرشادية تجابه الحملة الإعلامية القوية التي تقودها هذه الجماعات، وأخيراً تفعيل وإعادة مراجعة الخطاب الديني ، واستخدامه في إرشاد الشباب للدين الصحيح، وتعزيز قيم الوسطية والتسامح، بالإضافة إلى التصدي لسيل الفتاوى التي تغرق مجتمعاتنا العربية من كل حدب وصوب من شيوخ غير مؤهلين يسببون الفتن ويحرفون الدين ويطوعونه لخدمة أغراضهم. على الرغم من ذلك، علينا أن ندرك سلفاً بأننا في عصر يصعب فيه السيطرة على الأفكار والقناعات، أو إعادة توجيهها، ففي ظلال الثورة الرقمية باتت للجميع قدرته على التأثير والتأثير المضاد. وأضحت العبرة بأن يكون العمل أكثر منهجية واستدامة، وأكثر قدرة على تحديد الأولويات، وأكثر مرونة وشفافية، وقرباً للنفوس والقلوب. ان الخطر الذي تمثله داعش وأخواتها الإرهابيات على دين الإسلام وبلاد المسلمين أخطر وأشد تأثيراً من الخطر الذي يأتي من أعداء الأمة المعلنين بعداوتهم، ، ذلك أن خطرهم لا يقتصر على القتل والتدمير، بل يمتد إلى الدين والعقيدة، وتشويه صورة الإسلام النقية الصافية. والواجب أمام هذه المحنة، وهذا البلاء أن يقف الجميع من النخب وغيرهم، علماء وطلبة علم، وقفة صادقة مخلصة، تضع الأمور في مواضعها، وتسمي الأشياء بمسمياتها ، وإذا تساهلنا في هذا الأخطبوط الذي يوظف العواطف ويغذي فكر ثروات الامة المتمثلة بشبابها فنحن أول من يدفع الثمن .. والله المستعان. كاتبة من الإمارات لمزيد من مقالات مهره سعيد المهيرى