ودّع العالم، العام المنصرم بالأمس، بأفراح وآمال، وودّعه العرب بأحزان وآلام. كان عاماً مجيداً على العالم، تحققت فيه إنجازات سياسية واقتصادية وفتوحات علمية ومعرفية وطبية، وكان على أمّة العرب عسيراً حسيراً مثقلا بصراعات دموية وإرهاب أعمى، توحش فعربد في ساحة العرب وأسقط آلاف الضحايا منهم. أبى أن يرحل قبل أن يخلف وراءه مآتم مأساوية في العديد من العواصم العربية، في صنعاء، إرهاب أسود استهدف الأطباء والممرضين والممرضات والزوار بمستشفى وخلف العشرات من القتلى والجرحى، وفي مصر، إرهاب أشد سواداً استهدف المجندين البسطاء بأمن المنصورة فأودى بحياة العشرات منهم غير المئات من الجرحى، وفي بيروت يسقط الإرهاب الوحشي الوزير اللبناني محمد شطح، المحسوب على الاعتدال السني، وفي الرباط، تعلن الداخلية عن تفكيك خليّة إرهابية، وفي البحرين ينظر القضاء البحريني 6 قضايا لخلايا إرهابية جندها الحرس الثوري الإيراني، وفي الرياض، تدين المحكمة الجزائية 25 شخصاً بتهمة اعتناق المنهج التكفيري، وفي الكويت، يصرح وكيل الخارجية الجار الله: لا نستطيع ضبط المتوجهين للقتال في سوريا، وفي تونس يصرح وزير الداخلية منعنا 4500 شخص من السفر للجهاد، وفي سوريا يقتل يومياً المئات من الأطفال والنساء والأبرياء بالبراميل المتفجرة التي تسقطها طائرات النظام، أما الضحايا الذين يتساقطون يومياً في العراق بفعل التفجيرات الإرهابية، فحدث ولا حرج، حيث كشف قائد الفرقة الخاصة لمكافحة الإرهاب في العراق اللواء فاضل برواري أن أكثر من 4000 انتحاري عربي، منتمي لتنظيم «القاعدة»، فجروا أنفسهم بالعراق وقتلوا نساءً وأطفالا ومدنيين أبرياء، حتى أن قوائم الإرهاب الأميركية تضم 875 ألفاً بين إرهابي وإرهابي محتمل، معظمهم عرب مسلمون، رضعوا ثقافة الكراهية ومعاداة الحياة والأحياء، «ثقافة الموت» التي هي الثمرة المسمومة لشجرة الكراهية التي زرعت في التربة العربية، وتولت رعايتها وتغذيتها وسقياها جماعات عقائدية متعصبة، ادعت تملّك الحقيقة المطلقة وأن الجنة لا تسع غيرها، وجماعات أيديولوجية وظفت الدين لتحقيق أهدافها السياسية، لا تتورع عن التضحية بالإنسان في سبيل تحقيق أغراضها، افتخر قطبهم الشهير ذات يوم من على المنبر الجامع قائلاً: «إذا كان الغرب يملك القنابل الذريّة، فنحن المسلمون نملك القنابل البشرية»! إنها ثقافة مدمرة للحياة، ومعادية للإنسانية، هي حصيلة خطابين: «التكفيري» و«التخويني». فإذا كان الإرهابي القاعدي يكفر فإن الإسلامي السياسي يخوِّن، الأول يخرجك من الملّة والآخر يخرجك من الوطنية ويتهمك بالعمالة والتبعية للغرب وأميركا؛ ويحرّضك على تفجير نفسك فيمن يسميهم أعداء، واصفاً هذا العمل بأنه «أسمى أنواع الجهاد»! هذان الخطابان هما المؤسسان المنتجان ل«ثقافة الموت» وازدهارها وترويجها بين الناشئة غير المحصَّنة فكرياً وثقافياً وتعليمياً وإعلامياً. لقد أصبح قطاع عريض من شبابنا الغض، ومن طلابنا في الجامعات، عندهم «القابلية النفسية» لاعتناق الفكر العدمي، بسبب ضعف عوامل التحصين المجتمعي من ناحية، واختراق أفكار التطرف وكراهية الآخر مؤسساتنا التعليمية والإعلامية والتوجيهية من ناحية أخرى. لقد أصبحت «ثقافة الموت والتدمير» تحاصر مجتمعاتنا، وصارت مشاهد القتل والتفجير والتدمير والخطف، مشاهد عادية، بل هي الزاد اليومي الذي يقدمه إعلامنا للجماهير. سمير عطا الله كتب في يومياته عن القتل الذي أصبح عادة عربية مألوفة، الموت والحياة سيان. حازم صاغية كتب يقول: فلنهنئ أنفسنا لإحباط عظيم: عسف الأنظمة العسكرية وصعود الإسلام السياسي، نجحنا في استيلاد أسوأ ما في تراكيبنا الأهلية والثقافية وفي تعميمها. ثورات «الربيع العربي» حررت التناقضات الأهلية: الطائفية والدينية والإثنية من قبضة الأنظمة، فانطلقت تحيي المواريث التعصبية المختزنة والمكبوتة في النفسية الجمعية العربية. الكاتبة السعودية أمل عبد العزيز الهزاني كتبت مقالة جميلة عن «تحصين التعليم»، قالت فيها: لا أبالغ إن قلت بأن المدارس والجامعات أشد خطراً من مواقع تشغيل المفاعلات النووية، وتشير إلى ما هو حاصل في ساحات الجامعات بمصر وتقول: إن الجامعات ليست فقط ساحة تجمع شبابية بل أيضاً حاضنة وراعية وداعمة والظهر الصلب للأفكار المتطرفة. ونتعجب من أن الخائضين في هذا العنف ليسوا فقط طلاباً بل أساتذة وإداريون يحرضون أو يسمحون بالتجاوزات! وتطلق الكاتبة صيحة تحذير: التعليم العربي موبوء بالأيديولوجيا، وعلاجه من هذا الداء يتطلّب موقفاً رسمياً ودعماً شعبياً، والتعليم الجيد لا يتحقق بإنشاء الأبنية ولا بتغيير المناهج ولا حتى بتدريب المدرسين وتأهيلهم، لأن التحدي الكبير: كيف نعرف أن هذه المضامين المطورة، هي ما سيوصله المدرس للطالب؟! التعليم الجيد، وأنا أسميه «الآمن»، إنما يتحقق حينما يكون «القائمون عليه من إداريين ومدرسين، متعافين من الأيديولوجيا، لا يحملون معهم أجندات فكرية خاصة، وليست لهم أهداف تتجاوز مهامهم التي تنص عليها الأنظمة». إننا اليوم في مواجهة معركة فكرية كبرى، هي الأعظم، معركة كسب عقول وقلوب شبابنا من أحضان التطرف والكراهية، شباب العالم يبني وينتج ويصنع التقدم ويكتشف كل يوم جديداً يخفف آلام الإنسان ومعاناته، وشبابنا، أو قطاع كبير منه، منشغل بصناعة تركيب المتفجرات لقتل أكبر عدد من الضحايا وبث أكبر قدر من الترويع. شباب العالم منشغل ببهجة الاحتفالات بالميلاد ورأس السنة، وشبابنا منشغل بخلافاتنا المذهبية والطائفية والفقهية، وهل تجوز مشاركة العالم أفراحه؟ وهل تجوز تحيّة المسيحيين في أعيادهم؟ وما حكم التشبه بهم؟! إن ديننا، دين الإنسان، قبل أي شيء، وكتابنا، كتاب لهداية الإنسان، قبل كل شيء، ورسولنا عليه الصلاة والسلام، الرحمة المهداة للبشرية، وصفه المولى تعالى بأعظم صفة للإنسان «الخلق العظيم»، فلماذا لا تتضافر جهود مؤسساتنا ومنابرنا ومنظماتنا المدنية والدينية والثقافية، لإنقاذ الإنسانية المستضعفة في مجتمعاتنا... لحماية شبابنا ومستقبلنا. نقلا عن صحيفة الاتحاد