يقول المرحوم كمال النجمى الناقد الموسيقى الكبير : «أم كلثوم تأخذ اللحن «فتُكلُثِمه»، أى تجعله لحنا كلثوميا خالص المذاق واللون والرائحة، وتصب فيه نبراتها، وتفرشه على قدر مايناسبه من مساحة صوتها، التى تتسع لكل الألحان وتهيئ له عمليات فنية دقيقة متأنية وذكية حتى تجلوه فى آخر الأمر على صورته الكلثومية، تلك التى يحار فى روعتها السامعون، وتلبس قلوبهم وعقولهم وأجسادهم كأنها مس من الوجد الصوفي، أو طائف من السحر العجيب ..!!..» ، فصوت أم كلثوم رصيد فنى لاينضب استند إليه كل من لحن لها، فيما عدا ذلك السنباطى الرهيب فى التزامه بقواعد الموسيقى الشرقية الصارمة (ويعرف ذلك كل من أنصت جيدا لأداء السنباطى لقصيدة الأطلال على عوده، ويعرف كيف التزمت أم كلثوم بكل دقة لإبداع عبقرى النغم المهضوم حقه فى تاريخ موسيقانا)، فهو الذى روض صوتها على تجنب الارتجال. والحق أن الروعة والجمال والسحر فى صوت أم كلثوم لايمكن تعريفها ولاتحديدها . وليس التحليل العلمى بقادر فى هذا المجال إلاعلى شرح ظواهر الصوت فحسب، أما الوجد الذى يأخذ بالقلوب من أثر الصوت فذلك ماسبيل إلى شرحه، فمن السهل فنيا وعلميا أن نعرف القسم الذى ينتمى إليه صوتها من بين أقسام الأصوات النسائية الثلاثة المعروفة عالميا: السوبرانو والميتسو سوبرانو والألتو، وهو ينتمى إلى القسمين الثانى والثالث (فى فترة نضوجها فى أواخر الأربعينيات)، ويستتبع ذلك أن صوتها قد استقر على ستة عشر مقاما (ويصل بسهولة إلى جواب الكردان «15 مقاما «. وكل من يسمع : «ومانيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا» يدرك مقدرتها الفائقة وليونة صوتها المذهل . (إلا أن جمال صوتها وروعته وجاذبيته لاينبعان فقط من ضخامته أو اتساع مساحته ، بل من قدرتها الفائقة على التنقل بين المقامات. وقد حددت طريقة أم كلثوم فى الأداء أصول الغناء العربى فى لهجته الجديدة وكان من الممكن أن تتوقف حركة الإحياء لولا أن قيضت الأقدار لها صوت أم كلثوم فلولا ذلك الصوت ماكانت ألحان القصبجى وزكريا والسنباطى المتفجرة، فقد شاركتهما إلهامهما وفكرهما الموسيقي، إلا أن السنباطى هو الذى أدرك تلك الإمكانيات الكامنة، وعرف كيف يلعب على ذبذبة ذلك الصوت ويستخرج مكنونات الرخامة والصلصلة والنعومة والجزالة والجهارة والخفوت فى آن واحد. والمرحلة الكلثومية، هى أعظم مراحل مسيرة السنباطي، ذلك الدمياطى الفرد (من مواليد فارسكور عام1906). وبدأت تلك المسيرة الفريدة (عين أستاذا للعود فى معهد الموسيقى العربية وهو لم يتخط العشرين)، بلحن من أكبر ألحانه: «رباعيات الخيام»، التى يعدها ثالث الاثنين (سلوا قلبى ومن نهج البردة) وتحفة عمره، مثلما يحق لكل من السنباطى وأم كلثوم أن يعدها تحفة عمره. وكان أول ما لحنه من الرباعيات، الرباعية البادئة بقوله: «أطفئ لظى القلب بكأس الشراب»، فأبدل من الكلمتين الأخيرتين عبارة: «بشهد الرضاب»، عملا بمسلك الوقار الذى اختطه لنفسه فى كل مناحى نشاطه. وفى السنة نفسها غنت له أم كلثوم قصيدة «النيل» التى قالت فيها إنها معجزة شوقي، وقال فيها عبد الوهاب إنها من أجمل ما وضع السنباطى من ألحان. وغنت أيضا: «ياللى كان يشجيك أنيني»، ولحن فى السنة التالية أغنية: «سهران لوحدي» التى أخذت أم كلثوم شعرها من محمد عبد الوهاب سنة 1944. توالت الروائع الكلثومية الكبيرة: يا ظالمني، جددت حبك ليه، ذكريات، وفى سنة 1958 ظهرت مجموعة من الكلثوميات المشهودة التى أرست طابع الأغنية السنباطية المسرحية والتى جمعت بين الشجن والتعبير الدرامي: أروح لمين، أنا لن أعود إليك، شمس الأصيل ، عودت عيني، وغيرها من الأغاني. ولم تكن القصيدة العربية وحدها هى التى طبعت ملامح نتاج السنباطى الكلثومي، وهى ملامح أثرت حتى فى أغنياته الزجلية الكلثومية أيضا، بل اتخذت الأغنية الدينية والقصائد الوطنية مكانتها فى تشكيل هذا الصرح. وكانت لأمير الشعراء الحصة الكبرى فى أغنيات أم كلثوم الدينية: من سلوا قلبى إلى نهج البردة الخالدة المعارضة لبردة البوصيرى ولحن السنباطى الكثير من أغنيات أم كلثوم السياسية والوطنية، فبلغت ثلاثا وثلاثين، أشهرها نشيد الجامعة ونشيد بغداد ، وقصيدة «النيل» وغيرها. ويجمل المؤرخون مجموع ما غنت أم كلثوم من أنغام السنباطي، فى ست وتسعين أغنية: إحدى وعشرون قصيدة وأربعة عشر مونولوجا، وثلاث عشرة طقطوقة، وثلاث وثلاثون أغنية وطنية، وخمس عشرة أغنية سينمائية، وقد اختط لنفسه سبيلا خاصا به، بدا واضحا على الخصوص فى كلثومياته. فإيقاع لحنه اتخذ إيقاع البحور الشعرية العريضة التى استساغتها أم كلثوم، وإيقاع الكلمة العربية الفصحى ذات البيان والوقار. وكذا اتسمت بالوقار طرقه المقامية التى تجنبت مغامرات التلوين غير المألوفة، وصاغت القفلات المسرحية التعبيرية صياغة متأنية تتصاعد تصاعدا مدروسا ينتزع الآه من القلوب، ولعل تمرس السنباطى فى أغنيات أم كلثوم المسرحية طوال عقود، جعله سيدا لا يجارى فى هذا اللون. والخبراء يعلمون ما للغناء المسرحى من متطلبات دقيقة، فهى الحد الفاصل بين الفشل والنجاح. أما المضمون النغمي، فيرى نقاد عديدون أن السنباطى اتخذ اللون الصوفي، فنسج منه قماشة ألحانه السنباطية الخالصة، وفصل منه عشرات الأغنيات التى تسمعها، فلا تخطئ فيمن لحنها. ولا شك فى أن أجواء القصائد التى اختار السنباطى أن يلحنها، كانت تغلفها دوما مسحة صوفية اكتسبها منذ صباه عندما كان منشدا دينيا. قصيدة الأطلال هى درة تاج الموسيقى المصرية العربية المعاصرة بلا شك، ففيها ابتعد السنباطى عن تلحين الشعر الغنائى بأسلوب الكوبليه، أى لكل فقرة أو مقطع شعرى تلحينه وإيقاعه الخاص به، واتجه نحو التلحين الاستطرادى ، تأثرا بما استحدثه الغرب منذ القرن الثامن عشر فيما عرف باسم الأغنية الفنية، والتى توجها شوبرت ملك الأغانى الفنية فى الغرب بلا منازع ( كتب أكثر من600 أغنية من ذلك النوع)، وفيها تسرى الألحان متدفقة لتربط بين الأبيات الشعرية، ولتفسر ماغمض من الكلم، محاولة هى الأخرى إجراء حوار درامى فيما بينها، فيحدث تطوير للمادة اللحنية على غرار الأعمال السيمفونية ، ومن ثم تشكل ذلك السياق الدرامي. والأطلال منذ استهلالها الآلى المهيب (آلات التشيللو والباص فى ترعيدات دوامية تعيدنا إلى الزمن الماضى للقصيدة الاسترجاعية) لتتصاعد على الفور كلمات المرثية. ...يافؤادى لا تسل أين الهوي.. كان صرحا من خيال فهوى ...اسقنى واشرب على أطلاله وارو عنى طالما الدمع روي... تنذر بسرد درامى متصل. والواقع أن المقارنة بينها وبين إنت عمري، التى يدعون أنها أروع ماغنت أم أكلثوم(1964)، لن تجدى فتيلا وهو من خطل القول تماما ، فمقدمة إنت عمرى مجرد محاولات تلميذ يتعلم الجيتارالكهربى فى ظل ركاكة إيقاعية ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالكلمات، وقد صرح عبد الوهاب نفسه فى أحد اللقاءات التليفزيونية (بعد وفاة الست) بأنه لم يوجه اهتمامه نحو إقامة نوع من التماسك بين الفقرات اللحنية فى تلك الأغنية ، لأنه كان منصرفا إلى الزخرفة اللحنية والإيقاع الراقص، وإذا كان ناقدو السنباطى يعيبون عليه الصياغة الخطابية لبعض ألحانه الكلثومية، فإنهم بذلك كانوا يقفون حجر عثرة فى سبيل التطوير الدرامى للغناء المصرى بصفة عامة، وهو ما برع فيه السنباطى بلاشك وفتح به آفاقا تعبيرية أمام الأجيال اللاحقة... رجعونى عينيك لأيامى اللى راحوا، وقد صرح عبد الوهاب نفسه فى برنامج تليفزيونى فى أواخر الثمانينيات قائلا: بأنه تأخر كثيرا فى اللحاق بصوت أم كلثوم بعد أن تهاوت قدراتها الصوتية، فاضطر إلى اللجوء إلى الحليات والزخارف والبهرجة الإيقاعية لكى ينقذ ماتبقى من التراث الصوتى للست...!!، ، وقد ثار على الصياغة الدرامية الخطابية - مكمن قوة أم كلثوم مع السنباطي-، واكتفى فى إنت عمرى بالتصرف فى قفلات الجمل هبوطا وصعودا، مع إطالة الجملة بضع مازورات، أو تقصيرها ، لمجرد أن يرسم خطا فاصلا _ ولو رفيعا جدا بين طريقته وطريقة السنباطى ( مستخدما الميزان الثنائى فى سياقاته اللحنية، متجاهلا الموازين الأخرى الحافلة بالإمكانيات الفنية)، وقد استسلم عبد الوهاب لعملية فصل فيها الإيقاع بين معنى الكلام ومعنى اللحن..وبلغ فى ذلك مرحلة لم تخطر على بال أحد، فكان أول من جعل الطبلة تدق منفردة دقا راقصا متواصلا «على واحدة ونصف»، وهو أسلوب فى التلحين لم لم يكن له داعى فى تلك المرحلة (كمال النجمى –الغناء المصري- دار الهلال 1966)، فاتسعت الثغرة بين الفنانين العملاقين. ..انظرإلى الأطلال والسنباطى يعيد الحياة والتألق لذلك الصوت السماوى فى مزيج فريد بين الكلمة والنغمة ...فتطرب الأذن لحلاوة الكلام، ويزيدها الصوت شجنا أكثر وأكثر، حلاوة الكلام تكمن فى ملامسته لشعور المستمع وحاله، وحلاوة اللحن فى حسن حمله لمعانى الكلام. فإذا ما انصهرت الكلمة مع الصوت الجميل فى بوتقة واحدة مع سريان الموسيقي، حدثت تلك الخفة والهزة التى تثير النفس، ثم تغمرها ارتياحا وهو مانطلق عليه طربا، والطرب يشير إلى نشوة حسية فى المقام الأول، إلا أن السنباطى يتخطى هنا مجرد النشوة الحسية ، ويصعد مدارج نشوة فكرية عندما نتأمل معانى الكلمات. وإذا النور نذير طالع.. وإذا الفجر مطل كالحريق... ولابد لنا هنا من أن نحيى لناجى العظيم تأثره الجارف شكسبي