فى ظل لهاث الأحداث السياسية والثقافية والفنية فى مصر تمر ذكرى عمالقة أشعر أننا ظلمناهم فى حياتهم خصوصا من كانوا بطبعهم ظليين لا تستهويهم حياة الأضواء، ومن هؤلاء الموسيقار الكبير رياض السنباطى الذى مرت قبل أيام فى هدوء ذكراه الثلاثون. مرة واحدة التقيت الموسيقار الكبير فى معهد الموسيقى العربية حيث كان يُجرى بروفة أغنية لياسمين الخيام، وكانت تربطنى صداقة بياسمين وقائد الفرقة الموسيقية التى تصاحبها فى التسجيل الموسيقار سامى نصير، استطاع الاثنان بمجهود مضنٍ إقناع السنباطى بلقاء صحفى لا يزال تحت التدريب، وأول ما طلبه منى السنباطى قبل أن يبدأ الحوار هو أن أضع فى أعلى الصفحة التى تنشر الحوار عددا من الأحذية وتحتها صورة لمحمد عبد الوهاب، ولاحظ بالطبع دهشتى وبدأ فى الضحك، فلا أنا ولا غيرى من الممكن أن نتصور أن الموسيقار الكبير يلقى بنكتة، والحقيقة أنها لم تكن كذلك، فلقد كان السنباطى لديه دائما إحساس لا يفارقه بأنه الأكثر موهبة، ولكن عبد الوهاب هو الذى يستحوذ على كل الاهتمام الرسمى والشعبى وأنه يتعرض لمكايد من عبد الوهاب الذى يستغل فيها علاقته الحميمية بأشهر الصحفيين! السنباطى بدأ عازف عود فى فرقة عبد الوهاب الموسيقية ولكنه صنع بعد ذلك مدرسة خاصة فى الغناء الشرقى. كانت أم كلثوم هى صوته، إنه واحد من ثلاثة منحوا سيدة الغناء فى بداية المشوار كل هذا الألق، الاثنان الآخران زكريا أحمد ومحمد القصبجى، رحل زكريا فى مطلع الستينيات بعد أن غنت له «هو صحيح الهوى غلاب؟» وكان قبلها قد توقف عن التلحين لأم كلثوم لمدة 15 عاما. القصبجى توقفت أم كلثوم عن الغناء من ألحانه منذ نهاية الأربعينيات بينما ظل السنباطى -وكان أصغرهم سنا- هو درة أم كلثوم التى لا تستغنى عنها. التقت أم كلثوم لأول مرة عبد الوهاب فى «إنت عمرى» عام 64 وقبله غنت لبليغ والموجى والطويل الذين كانوا يعدون وقتها عنوان الجيل الجديد المشاغب فنيا الذى يحاول منافسة الكبار. السنباطى كان يقدم ألحانا للجميع، كل الأصوات التى ظهرت بعد أم كلثوم كان لها نصيب من ألحانه ومنحها بصمة مختلفة، أسمهان، ليلى مراد، شادية، نجاة، صباح، وردة، عبد المطلب، شهرزاد، سعاد محمد، حتى عبد الحليم لحّن له، ولم يكن السنباطى متحمسا لصوته، كان يرى أن إسماعيل شبانة شقيق عبد الحليم الأكبر هو الأكثر موهبة وإبداعا، ورغم ذلك قدّم لعبد الحليم لحن دويتو «لحن الوفاء» الذى شاركته شادية غناءه وبعد ذلك لحّن له أغنية «فاتونى ألتقى وعدى». كان السنباطى يعيش حالة اكتفاء ذاتى بصوت أم كلثوم ولديه قصيدة «الأطلال» سيدة القصائد العربية التى حظيت بمكانة «قصيدة القرن العشرين». عندما قدم السنباطى الأطلال عام 66 كان بداخله إحساس أنه ينبغى أن يتفوق على أغانيها التى لحنها لها الآخرون الذين دخلوا على الخط مثل «إنت عمرى» عبد الوهاب و«سيرة الحب» بليغ وغيرهما، وكثيرا ما كان يسخر من الكلمات التى ترددها لغيره من الملحنين مثل «أسأل روحك» للموجى فيقول لها «هل تقصدين أعملها على روحك؟»! أراد السنباطى أن ينهى حياته الفنية هو وأم كلثوم ب«الأطلال» قائلا «وصلنا إلى القمة»، وطلب منها الاعتزال، ولم تتوقف أم كلثوم عن الغناء حتى رحيلها فى 3 فبراير 75، ولم يتوقف السنباطى عن التلحين حتى رحيله فى 7 سبتمبر 81! أهم لقاء فنى بعد أم كلثوم جاء مع جارة القمر فيروز، وقبل رحيله بعام واحد لحّن لها ثلاث قصائد: «بينى وبينك» و«أمشى إليك» و«آه لو تدرى بحالى»، ولكنها حتى الآن لم تر النور ولم يتبق منها إلا مقطع من بروفة على العود لأغنية «بينى وبينك» يجمع بينهما، وحتى هذه الدقائق لم ترض فيروز بتقديمها فى تسجيل يستمع إليه الملايين. جارة القمر جرحت -ولا تزال- روح رياض السنباطى!