علي الرغم من أن وزارة الموارد المائية والري هي الجهة المسئولة بالدرجة الأولي عن ملف مياه النيل في مصر, بمشاركة بعض الجهات الأخري, المعنية بالجوانب السياسية والقانونية والأمنية والاقتصادية للملف فإنه قد صدر قرار مفاجئ في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بالغاء الجهاز المسئول عن قضايا مياه النيل الذي يتبع الوزارة, وهو الهيئة المصرية العامة لمياه النيل, وتم تقليصه واستبداله بقطاع صغير بسمي قطاع مياه النيل يتبع مصلحة الري, وتتبعه ثلاث إدارات فنية فقط, القرار كان صادما للجميع وغير متوقع وفي توقيت غير مناسب, فالعلاقات مع إثيوبيا كانت في أسوأ حالاتها, ودول حوض النيل الأخري كانت معترضة بشدة علي اتفاقيات الحقبة الاستعمارية, وكنا نستعد وقتها للبدء في تنفيذ مشروع قناة جونجلي مع السودان, والدخول في مفاوضات اتفاقية الأممالمتحدة الاطارية للأنهار المشتركة, وغير ذلك من الأحداث المهمة, إذن فالأمر كان يقتضي دعم الجهاز القائم وتقويته وليس تقليصه وتقويضه, وبرغم مرور نحو خمسة وثلاثين عاما علي صدور ذلك القرار الغريب, فإن السبب في صدوره مازال مجهولا حتي الآن. ولكن الحقيقة التي يجب أن تقال, هي أن العقود الثلاثة الأخيرة قد شهدت طفرة كبيرة في تحسن علاقات مصر مع دول حوض النيل, تمثلت في توقيع اتفاقيات مهمة, ودعم التعاون الاقليمي بانشاء تجمع التيكونيل(1992), تلاه مبادرة حوض النيل(199), والدخول في مفاوضات الاطار القانوني والمؤشسسي(2003) ودعم التعاون الثنائي بتقديم منح مصرية لمشروعات حفر الآبار ومقاومة الحشائش المائية وغيرها, إلا أن كل تلك الانجازات اعتمدت بالدرجة الأولي علي خبراء من خارج قطاع مياه النيل المتقلص من الباحثين واساتذة الجامعات وغيرهم, بتكليفات محددة ومؤقتة, لتعويض النقص الناتج عن عدم وجود كوادر كافية متفرغة للعمل بالقطاع, وفي تقديري أنه قد آن الأوان لإعادة انشاء هيئة مياه النيل الملغاة في السبعينيات, وإعادة هيكلتها وتقويتها ودعمها بالدرجات الدائمة لتشغلها الكوادر المطلوبة وتشعر بالاستقرار, خصوصا ونحن في حاجة ماسة إلي وضع رؤية مستقبلية شاملة, لكل ما يتعلق بقضايا مياه النيل في العقود المقبلة, ولتكن حتي عام2050 مثلا, وما تتطلبه من دراسات مهمة وضرورية, مع الأخذ في الاعتبار الحقائق التالية عند وضع تلك الرؤية: أولا: أن حصة مصر الحالية من مياه النيل والتي تبلغ5,55 مليار م3 سنويا لا يمكن أن تكفينا في المستقبل بأي حال من الأحوال, وعليه يجب التركيز علي تنفيذ مشروعات أعالي النيل التي ستزيد الحصة بمقدار9 مليارات م3 سنويا, وعلي مساعدة باقي دول الحوض في استغلال كميات الأمطار الهائلة التي تسقط علي الحوض وتزيد علي1600 مليار م3 سنويا, ومياه الأنهار الأخري مثل نهر الكونغو, الذي يضيع منه في المحيط الأطلنطي أكثر من1000 مليار م3 سنويا. ثانيا: أن التغيرات المناخية المستقبلية ستؤثر غالبا بالسلب علي ايرادات الأنهار في كافة أنحاء العالم ومن بينها نهر النيل, وقد نوقش هذا الأمر في العديد من المحافل الدولية ومن بينها مجلس الأمن, وظهرت علي الساحة أفكار غريبة تدعو إلي الإدارة الدولية للموارد المائية في المستقبل وإعادة توزيعها بين الدول, لمواجهة الندرة المائية المرتقبة, وما يشكل ذلك من خطورة كبيرة علي دولة مثل مصر. ثالثا: أن هناك سلطات خاصة بالمياه أنشئت في بعض التجمعات شبه الاقليمية في افريقيا, مثل تجمع السادك الذي تقوده دولة جنوب افريقيا, وتجمع الساحل والصحراء الذي تقوده ليبيا, ويضم كلاهما بعض دول من حوض النيل, تخضع لمقررات تلك التجمعات, بالاضافة إلي قيام دول الهضبة الاستوائية بتوقيع بروتوكول أروشا في عام2003, والذي يلزمها باتخاذ مواقف موحدة إزاء القضايا الاقليمية, وعليه فإن الأمر يتطلب دراسة تأثير مايدور في تلك التجمعات بخصوص موضوعات المياه, علي مفاوضات مياه النيل التي تجري حاليا, وكيفية مواجهتها أو التكيف معها. رابعا: أن هناك اهتماما كبيرا من اسرائيل بموضوعات مياه النيل, والوجود المكثف في دول حوض النيل, وقد يكون هناك خطر كامن في مشروع الأخدود العظيم, الذي تحاول اسرائيل تمريره في لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو, ليتحصن بإطار قانوني دولي, والذي قد يمنع مصر في المستقبل من اقامة مشروعات مائية في مناطق أعالي النيل لزيادة الحصة, بزعم حماية مواقع التراث الطبيعي الموجودة هناك من الغرق. خامسا: أن هناك احتمالا كبيرا لانفصال جنوب السودان عن شماله بعد استفتاء العام المقبل, وما سوف يستتبع ذلك من إعادة الترتيبات الخاصة بالاتفاقات الموقعة مع مصر, ونصيب كل دولة من الدولتين الجديدتين من الحصص الحالية, وكذا من الحصص المستقبلية التي ستنتج عن مشروعات أعالي النيل وغيرها. سادسا: أن هناك موجات من الهجوم علي حقوق مصر التاريخية في مياه النيل, لا تقتصر علي الصحف ووسائل الاعلام في دول حوض النيل فقط, بل تتجاوزها إلي بعض الصحف في أوروبا وأمريكا أيضا, حتي أنها قد وصلت إلي ردهات الكونجرس الأمريكي نفسه, ويتطلب الأمر اعداد حملات اعلامية مضادة ومستمرة ومدعمة بالأسانيد الفنية والقانونية لتوضيح حقيقة الأمور. سابعا: أن الوقائع الكثيرة والمتتالية المتعلقة بقضايا مياه النيل, من اجتماعات ومؤتمرات وجولات تفاوضية ودراسات وأبحاث وغيرها, وما يثار في الصحف ووسائل الاعلام في الداخل والخارج, تحتاج إلي عمليات حصر وتجميع وتحليل وتلخيص وتوثيق واستخلاص للنتائج والدروس المستفادة, للأجيال المقبلة, ولمتخذي القرار في المستقبل. وأخيرا فإنني أري أنه مهما تكن نتيجة اجتماعات دول حوض النيل, المحدد لعقدها منتصف أبريل الحالي في شرم الشيخ, سواء بالتوقيع علي الاتفاقية الاطارية, أو بتأجيل التوقيع عليها لأي سبب من الأسباب, فإن ذلك لا يمنع من ضرورة اعادة انشاء هيئة مياه النيل الملغاة في السبعينيات, لتظهر في ثوب جديد, حتي تتمكن من القيام بمسئولياتها القومية, ومن وضع الرؤية المستقبلية, في ضوء المتغيرات الاقليمية والدولية المتلاحقة, وأن يقوم الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة باتخاذ ما يلزم في هذا الشأن, مع تذليل كل العقبات البيروقراطية التي قد تطفو علي السطح, وتحول دون خروج تلك الهيئة إلي النور مرة ثانية في أقرب فرصة ممكنة.