ليس لأحد أن يعترض على ضرورة القابلية للتعلم كسمة أولى مطلوبة فى كل نائب، لأن الوقت ثمين والدنيا تلهث بالتقدم وعالمنا العربى غارق فى تخلفه الصاعق، وكانت ثورات مصر هى طوق نجاة لنا وسط تلك الخريطة المعرضة لكل هذا الكم من المؤامرات التى تتساقط عليها القنابل من طائرات بعضها عربى وكثير منها أوربى أو أمريكى أو روسي. ولعل ظروف التحضر التى يملكها عموم أهل المحروسة، كانت طوق نجاة لنا من براثن الاقتتال الأهلى بعد خروج مبارك من الحكم، ثم إزاحة كابوس التخلف باسم التأسلم الذى عشنا تحت سحبه السوداء لعام طويل وثقيل. وطبعا عانى عموم أهل المحروسة من شعارات تحدثت عن دخول الجنة عبر صناديق الاستفتاء الأول، وقبلها أكاذيب رجل ادعى أنه يتحدث لنا من ميدان التحرير دون ارتداء قميص واق ضد الرصاص، ثم يثبت أن قميصا مخصوصا تم تفصيله بالولايات المتحدة ليرتديه من حاول تسريب وثائق الأمن القومى إلى دويلة قطر. ووصلنا إلى إزاحة الكذب والتدليس بخروج الملايين الذين فوضوا عبد الفتاح السيسى لاجتثاث الإرهاب، ثم انتخابه رئيسا للجمهورية . ولكن هاهى انتخابات جديدة تأتى، ومن الملاحظ أن كثيراً من البشر العاديين لا ينظرون إلى البرلمان نظرة تقدير، خصوصا أن أغلب ما يحمله لنا التاريخ عن البرلمانات السابقة سواء ما قبل ثورة 1952 أو ما بعدها قد أرسى فى الوعى العام عجز أى برلمان عن حمل الهم الإجتماعى العام؛ بل كانت فى معظمها برلمانات هى ساحات لضجيج لفظى بلا قدرة علمية أو عملية على مواجهة مشكلاتنا بإيجاد حلول لها أو حتى رسم خريطة واقعية ننتقل بها إلى مستقبل يحمل بشائر تنمية تكفل للمجتمع ارتقاء بدلا من البقاء بين براثن التخلف . وفى أفضل الأحوال يبدو البرلمان القادم كطبق سلطة سياسية، يثير من التساؤلات بأكثر مما يحمل من إجابات عن المستقبل . وحين نبحث عن نوعية القوائم ونوعية الفردى المرشحة، لن نجد حدودا واضحة فى الخريطة السياسية لمجموع الأحزاب السياسية ولجميع المستقلين ، ولأغلب من أدمنوا دخول أى انتخابات بحثا عن حصانة تتيح تمايزا اجتماعيا فى الريف والصعيد ، وكلنا نعلم عديد القصص التى تحولت إلى أفلام ومسلسلات عن تجار السلاح والمخدرات، وعن نواب صارت فضائحهم تاريخا يلحق بالبرلمانات المصرية، فهل يمكن نسيان كيف تم ضبط أحد السلفيين «الشيخ على ونيس» فى مشهد لا يليق تحت شجرة فى طريق مظلم مع امرأة؟، ومن المضحك والمبكى أن المرأة أسدلت نقابها فور تقدم الشرطة منها، وسمعنا عن النائب الذى قرر السطو على المجلس النيابى بإدعاء إصابته فى حادث حاولت فيه عصابة وهمية سرقة عدة آلاف جنيهات متوهمة، ثم يثبت بعد ذلك أنه كان يعانى من كراهية لشكل أنفه، فأجرى عملية تجميل، مثل تلك العملية التى حضرت رفض عبدالحليم حافظ أن يجريها مثلها عندما كبر أنفه بسبب أمراضه الكثيرة، وعلى الرغم من أنه كان مطربا عظيما وممثلا مرغوبا فى رؤيته على الشاشة، وها نحن قد قرأنا أخيرا عن ذلك المرشح الذى غرر بزوجة صديقه ، لتهرب من بيت الزوجية لتحيا فى كنف المرشح الذى يدعى التدين «!!» . وطبعا يمكننا أن نرى بعضا من أقطاب برلمان 2010 المزور، وهم يحاولون بكل الطرق النفاذ إلى البرلمان الجديد، ولعل إصرار فيلسوف زواج السلطة بالثروة الميلياردير أحمد عز على القفز على كل الصعاب القانونية ليدخل المجلس، وهو القادر على النجاح بفضل الثروة وبمعرفة نقاط القوة والسطوة فى الدائرة التى رغب الترشح فيها، فالثروة بدت بالنسبة له كالكرسى الصغير الذى وضعه ليقف عليه فى أثناء إلقائه بيان الحزب الوطنى فى مؤتمره الأخير حيث أحاطته قيادات الحزب الوطنى من جمال مبارك وصفوت الشريف وزكريا عزمى وعلى الدين هلال. ثم سقط كل ذلك الهيلمان بثورة الخامس والعشرين من يناير ، وكان هو أول من ضحى به آل مبارك على مذبح الحلم بتهدئة الجماهير الهادرة. وأنقذنا القضاء أخيرا من تسلله إلى المجلس القادم . وهكذا نرى أنفسنا مدعويين إلى انتخاب برلمان ستحاول جموع أعضائه التزاحم حول تأييد الرئيس السيسى الذى بدت شعبيته فوق المناقشة عبر شهور حكمه، لكن هذا وحده لا يكفى ، بل لابد من أن يكون لهذا البرلمان قدرة على حشد الجموع فى بر مصر لمواجهة مشكلاتنا العديدة . وإذا كانت شعبية الرئيس قد وضحت فى مجالات متعددة ، مثل مشروع حفر قناة السويس الجديدة ، فلا أقل من أن يعمل المجلس القادم على الدعوة لدق أبواب المستقبل بنشر قيمة العمل بين الناخبين ، عمل تتساوى فيه أذرعتنا اليمنى مع أذرعتنا اليسرى ، فالثابت والواضح أن العديد منا يمد إحدى اليدين طالبا المزيد من العلاوات والأموال ، بينما تقصر اليد الأخرى عن أداء المطلوب منها من عمل . وهذا جوهر مهم فى أسباب زيادة التضخم لأن من يرغبون فى مزيد من الدخل بلا مقابل من عمل عليهم ألا يفاجأوا حين يقصر الدخل الحالى عن إشباع الحاجات الأساسية . لابد من أن نفتح عيون المجتمع عبر البرلمان على ضرورة نشر الانضباط المجتمعى ليقترب ولو لمسافة بسيطة من مثل الانضباط الذى نلمسه فى الأداء العسكرى وهو الواضح بشكل جلى دفاعا عن الأمن فى سيناء أو الصحراء الغربية ، أو ضبط الحدود مع السودان ، أو بتنظيف الداخل المصرى فى الدلتا من عصابات التأسلم القاتل. وهكذا يمكننا أن نرى البرلمان القادم وهو محمل بأولى المهام ، ألا وهى تبصير النواب بما تعنيه كلمة «وطن» جغرافيا وسياسيا ، فأغلب الظن أن أغلبهم يحتاج إلى دورة تدريبية عاجلة فى كلية الحرب العليا وأخرى فى المعهد الدبلوماسى ، ليتهيأ لكل نائب وعيا يمارس به عضويته فى برلمان مطلوب منه أن يراقب ويشرف على خطة تنمية أولية تقودنا إلى استصلاح مليون ونصف المليون فدان ، ويمكنه أن يشرف على تطوير برامج التعليم الفنى فى محافظات مصر السبع وعشرين لنرفع من مستوى العامل . وأن نرى بعيون الواقع كيف يمكن أن يشارك هذا المجلس بجميع أعضائه فى جذب التمويل المحلى اللازم لتغيير أسلوب الرى فى الوادى والصعيد ، كى نوفر ضعف كمية المياه المستهلكة لأن الرى يتم حاليا بالغمر كما كان الحال منذ آلاف السنين بينما لنا خصم يمثل وجوده خنجرا يتحدانا به الغرب وأعنى به إسرائيل، وصار تقدمها العلمى والزراعى يفوق الخيال . ولسائل أن يتساءل «أليس مهمة المجالس النيابية هى التشريع؟» وأجيب » إن التشريع يحتاج إلى خبراء يدرسون الواقع أولا ويشرحون ضروراته للأعضاء ، ويجيدون صياغة القوانين ، ثم يتم عرضها على المجلس بالشرح أولا وبطلب النقد والتوجيه ثانيا ، ثم بإقرار القوانين ثالثا . ولهذا فأنا احلم أن يكون لكل مجموعة نواب فى كل محافظة مجلس مستشارين مصغر يقدمون لهم الرؤى وجودة الفهم للمسافة بين الواقع المعاش وبين المستقبل المأمول من أى تشريع. وفى كل الأحوال أقول أنى سأنزل للانتخاب وأنا لا أعرف أى عضو من الأعضاء ، فقط سأحرص على ألا يكون سلفيا من هؤلاء الذين يريدون تثبيت عيوننا وأفواهنا عكس وضعها الطبيعى المخلوق لنا ، فهم يريدون أن يحيا المجتمع بوقائع علاها تراب التخلف وعدم إعمال العقل ، ويجرون المجتمع إلى مناقشة زواج الطفلة الصغيرة من الشيخ الكهل ، ويديرون الحياة بمنطق نزل دين الله لينهيه فلم يبعث الحق رسله من أجل نشر التخلف عن التقدم العلمى والفنى والحضارى، بل كانوا رسل بناء حضارة أساسها العلم والحب والفهم . سأنتخب راجيا الرئيس ومراكز الدراسات التى تؤهل من يقدمون حياتهم فداء لهذا الوطن، وهى مدارس الإستراتيجية الأكاديمية بان يجرى تبصير وتعليم أعضاء المجلس القادم بما تعنى الحياة فى مصر المحاطة من كل جوانبها بزالزل وبراكين سياسية لأن قادة البلدان المحيطة أقل قدرة على فهم حقائق الواقع بتجرد واحترام لما تحلم به شعوبها. باختصار : نحتاج مجلسا نيابيا يؤازر ويرسم الطريق من الواقع إلى الحلم على جميع المستويات. لمزيد من مقالات منير عامر