يشير أيلول أو سبتمبر الأسود إلى أهم وأولى حلقات التطور الدامى فى المنطقة العربية، وهو قيام قوات الجيش الأردنى بالتصدى لقوات المقاومة الفلسطينية فى الأردن وللاشتباك معها فى حرب ضارية، ثم أخيرا تدخل الجامعة العربية بناء على ضغوط مصرية لعقد مؤتمر قمة عربية استثنائية لوقف هدير الدماء. وبالرغم من مرضه ونصيحة أطبائه المصريين والروس لعبدالناصر بعدم بذل جهد جهيد ومتواصل وأن يراعى شرايين قلبه، فإن عبدالناصر كان دائم حضور الاجتماعات الرسمية شبه ليل نهار، ثم اجتماعات جانبية لتهيئة الجو حتى لا تفشل الاجتماعات الرسمية وتغرق سفينة القضية الفلسطينية والعرب معها. ومذكرات الراحل محمود رياض السكرتير العام للجامعة العربية تقول الكثير فى هذا الصدد، وكذلك كتابات كل من حسنين هيكل وسامى شرف تؤكد عدم التزام عبدالناصر بتعليمات أطبائه فى هذه الأيام. وفى النهاية جاءت النتيجة المحتومة وتوفى عبدالناصر بعد توديع آخر زواره لحضور القمة، أمير الكويت، كان هذا فى 28 سبتمبر ولم يزد عمره عن ال52 عاما. نفس اليوم، لكن قبلها بتسعة أعوام، أى 28 سبتمبر 1961 واجه عبدالناصر أزمة شديدة أخرى أضرت كثيرا بصحته وكانت تودى بحياته وهو فى بدايات الأربعينيات من عمره، انفصال الاقليم السورى عن الجمهورية العربية المتحدة، أى عن مصر. كما هو معروف، كان عبدالناصر قوميا عربيا وعمل بكل جهده لتحقيق الوحدة العربية. ولذلك رغم بعض تحفظاته وحتى تردده، فانه لم يستطع أن يقاوم إغراء هذا الحلم بالوحدة العربية عندما وفد على القاهرة على غير انتظار أو حتى إعداد مجموعة من ضباط الجيش السورى دون استئذان حكومتهم فى دمشق واقناع عبدالناصر بإعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا فورا رضخ عبدالناصر وأعلنت الوحدة فى فبراير 1958. بالنسبة لعبدالناصر والكثير من الشعوب العربية، كان حلم الوحدة العربية هذا قد طال انتظاره وبدأ يتحقق ولكن بالرغم من قوة الحلم، فان حقيقة هذه الوحدة كانت محاطة بالمشاكل من البداية، خارجيا وداخليا. فقد كانت عملية الوحدة اندماجية منذ البداية، فى حين أن الشعبين لم يعرفا بعضهما، حيث قامت الوحدة فجأة ودون تجهيز أو إعداد. وفى النهاية كان مصيرها كأية عملية ارتجالية الفشل ولكن هذا الفشل كان مصدر حزن عميق لعبدالناصر، فقد رأى أهم أحلامه يتهاوى وبطريقة مهينة، حيث تم طرد نائبه وأقرب أصدقائه شر طردة من دمشق، ويبدو أن بداية مرض عبدالناصر الذى أودى بحياته بعد ذلك بتسع سنوات كان مع فشل هذا الحلم فى الوحدة والطريقة المؤلمة التى تم وضع حد لها بها. قصة أكتوبر 1973 تحكى لنا عن وضع جديد ومختلف، ويأتى الاختلاف أساسا من أهمية الدراسة والتخطيط قبل اتخاذ القرار، ثم التنسيق على معظم الجبهات، سياسية واقتصادية، بجانب العمل العسكري، حيث تبين دراسات زملائى أن قرار الحرب مع إسرائيل كان تماما على العكس من فوضى القرار فى 1967، عندما كانت هناك مثلا حرب مشتعلة بين الدول العربية، ومعظم القوات المصرية مغروسة فى المستنقع اليمني، على العكس، قام قرار حرب أكتوبر على التنسيق بين الجيشين المصرى والسورى لشن هجمة عسكرية محكمة فى وقت واحد، السبت 6 أكتوبر فى الساعة الثانية ظهرا، وكسب أكبر قدر ممكن من وقع المفاجأة، لأن الجيش الإسرائيلى فى مواجهته مع العرب اعتاد على أخذ زمام المبادرة فى هجمات سريعة ومؤثرة، مثل العمليات الجراحية. ولذلك كان الهجوم العسكرى المصرى السورى مفاجأة ليست فقط عسكرية، لكن سيكلوجية أيضا. واتضح بعد ذلك أن العديد من أفراد الجيش الإسرائيلى أصيبوا فعلا بصدمات نفسية واضطروا لاستشارة أطباء نفسيين، كما وجهت لجنة التحقيق الإسرائيلية إلى شخصيات تاريخية مثل جولدا مائير وموشى ديان اللوم الشديد. ولكن التنسيق لم يقف عند الجبهة العسكرية فقط. فعلى على العكس تماما من الوضع فى 1967 حيث الحرب المصرية السعودية بالوكالة فى جبال اليمن ومع قبائلها، فان التنسيق مع الملك الراحل فيصل كان كاملا. وهو الشخص الوحيد خارج القيادتين المصرية والسورية الذى كان على علم بمجريات الأمور وتوقيت الهجوم المصرى السوري. وهكذا امتد هذا التنسيق إلى الجبهة السياسية الاقتصادية على المستوى العالمي، وذلك عن طريق قرار الحظر البترولى على الدول المساندة تماما لإسرائيل ولاحتلال الأراضى العربية، وفى مقدمتها بالطبع الولاياتالمتحدة، ولكن دول أخرى مثل هولندا، المعروفة بتبنى المواقف الإسرائيلية على طول الخط تقريبا، وبقية القصة بجوانبها السلبية والايجابية، معروفة. ما الخلاصة الرئيسية من هذه المقارنة بين أيلول الأسود فى سنواته المختلفة من 1961 1970 وبين أكتوبر 1973؟ أهم شيء تخطيط القرار على أساس عقلاني، بدلا من الاندفاع والارتجال. ويبدأ هذا التخطيط بتجميع المعلومات الدقيقة، كل المعلومات، وتحليلها حسب المناهج المعترف بها، والالتزام بنتائجها، مهما كانت توجهاتنا الشخصية، باختصار دراسة الجدوى المحكمة ثم التخطيط طبقا لسيناريوهات من الأفضل إلى الأسوأ والاستعداد لكل منها هو ما جعل أكتوبر 1973 مختلفا عن أيلول الأسود. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني