من كلماته التي كان ينصح بها القراء, كلمة مازالت غضة تحمل حرارة وهدوء صوته اقرأ ما يمتعك والمتعة التي قصدها أنيس منصور هي متعة العقل والروح, عندما يحلقان في عالم الإبداع, فأنيس منصور كاتب مؤثر في حياة الأجيال التي عاصرته, لاسيما الشباب, الذين أخذوا مواقف متطرفة من كتاباته سواء كتبه أو مقالاته, فمنهم من افتتن به ومنهم من حنق عليه, مع ذلك كان كلا الفريقين يقرأ له, فقد كانت كتبه في مكتبة كل شاب, فنادرا أن تجد مكتبة لشاب من شباب سبعينيات القرن العشرين وما بعدها, ليس فيها كتاب علي الأقل من كتب أنيس منصور!. فكأن ذلك الرجل لا يكف عن القراءة والكتابة وكأنه لا يفعل شيئا من لحظة استيقاظه إلي خلوده للنوم, سوي أنه يقرأ ويكتب, فقد كان الأستاذ أنيس كاتبا موسوعيا من الطراز الأول وكان لإلمامه بالعديد من اللغات, عاملا كبيرا علي هذه الثقافة الفريدة, ثم إنه ملأ فراغات كثيرة في وجدان القاريء ربما لم يستبقه إليها أحد, فقد كان له أسلوبه الخاص في عرض كثير من المدارس الفكرية والفلسفات والتيارات, فكان يركز علي الجوانب الإنسانية في حياة كل فيلسوف أو مفكر أو أديب, فتراه يلقي الضوء علي أمور شخصية في حياة هؤلاء, فلا تبدو مذاهبهم أو تياراتهم بذلك الجفاء الذي تظهرها به مصادرها التقليدية, كان يعيد الحياة للفيلسوف وهو يكتب عنه حتي لكأنه يجالسه ويتسامر معه ويكشف له ولنا عما لم تكشف عنه كتبه وأفكاره المشهورة عنه.. فتجده يحدثك عن قصة حب لأفلاطون والغذاء المفضل لجوته وعن دمامل ماركس وكيف يجلس سارتر وشكوي العقاد من مصرانه ومشية عبد الرحمن بدوي وقفشات منصور فهمي, شخصيات إنسانية تملؤها الحياة بعيدا عن حدة أفكارهم وجفاف أوراق كتبهم. وليس من السهل أن تقرأ لأنيس منصور ولا تتأثر بأسلوب كتابته وتعيش الحياة معه في مواقفه, وقد تجد نفسك صديقا حميما له أو خصما حادا.. فلا تملك أمام هذا الكم الهادر, إلا أن تفتن به أو تنفر منه, فلم يكن منصور من أكثر الكتاب إصدارا للكتب فقط, بل لعله أكثرهم تنوعا ما بين شتي المجالات, فربما كان هو من أول من أصدر كتبا لم يهتم بتصنيفها التقليدي أدب-فلسفة- تاريخ.. إلخ لأنك أحيانا تجده يجمع مقالاته في كتاب لا يجمع بينها غير أن الذي كتبها هو, فرغم اختلاف الموضوعات, إلا أن الأسلوب الفياض المميز قد يلفتك عن هذا. لكنه, بلا منازع, فارس أدب الرحلات الذي لا يشق له غبار, يجوب بك الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا, فتشعر بحميمية وألفة مع كل الغرائب التي يحكيها لك, فقد كان الأستاذ ملكا متوجا علي هذا المجال, فكان كتابه الأشهر صاحب العنوان البسيط المباشر حول العالم في200 يوم.. فهذا الكتاب هو كرة الصولجان تقرأه مرارا وتكرارا دون ملل أو رتابة. وبجانب كرة الصولجان, كان في صالون العقاد درة التاج وأيقونة قاعة العرش, ذلك الكتاب الذي أعاد تركيب صورة العقاد المفكر والأديب والشاعر وفوق كل ذلك الإنسان, فكان الكتاب الذي أعاد اكتشاف الكاتب والمكتوب عنه, فميزة الأستاذ أنيس, أنك عندما تقرأ له, كأنك تقرؤه هو شخصيا. وعناوين كتبه لاتزال فوق فرش بائع الجرائد, حية نابضة كأنه كتبها الآن, ذلك لأنه قرر أن يكون هو المثل الأول لنصيحة قالها لقاريء سأله عما يمكن أن يقرأه, فأجابه أنيس منصور بثلاث كلمات: اقرأ ما يمتعك.