برلمانية تزور مطرانية 6 أكتوبر وأوسيم لتقديم التهنئة بعيد القيامة| صور    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    العمل الحر    وزير الإسكان: 98 قراراً وزارياً لاعتماد التصميم العمراني لعدد من المشروعات بالمدن الجديدة    رئيس الصين يصل إلى فرنسا في جولته الأوروبية الأولى منذ 2019    باحث يكشف أبرز ملفات النقاش على طاولة مباحثات ماكرون والرئيس الصيني    جيش روسيا يعلن السيطرة على «أوشيريتين» الأوكرانية    الخارجية الفلسطينية تطالب بتفعيل نظام الحماية الدولية للشعب الفلسطيني    ليفربول يتقدم على توتنهام بهدفين في الشوط الأول    محافظ الغربية: استمرار الحملات المكبرة على الأسواق خلال شم النسيم    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    قرارات حاسمة ضد مدير مدرسة ومعلم بعد تسريب امتحان الصف الرابع ببني سويف    ليست نكتة.. رئيس الهيئة المصرية للكتاب يعلق على حديث يوسف زيدان (فيديو)    احتفل به المصريون منذ 2700 قبل الميلاد.. الحدائق والمتنزهات تستقبل احتفالات أعياد شم النسيم    كل سنه وانتم طيبين.. عمرو سعد يهنئ متابعيه بمناسبة شم النسيم    تامر عاشور يضع اللمسات الأخيرة على أحدث أغانيه، ويفضل "السينجل" لهذا السبب    بالفيديو.. أمينة الفتوى: الحب الصادق بين الزوجين عطاء بلا مقابل    أمينة الفتوى: لا مانع شرعي فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    بالفيديو.. 10 أعراض للتسمم من الفسيخ الرنجة في شم النسيم    أكل الجزر أفضل من شربه    تكثيف أمني لكشف ملابسات العثور على جثة شاب في ظروف غامضة بقنا    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    "صحة المنوفية" تتابع انتظام العمل وانتشار الفرق الطبية لتأمين الكنائس    الآن.. طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    الأهلي يبحث عن فوز غائب ضد الهلال في الدوري السعودي    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    وزارة العمل تنظم ندوة لنشر تقافة الصحة المهنية بين العاملين ب"إسكان المنيا الجديدة"    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    وزير الرياضة يشكل لجنة للتفتيش المالي والإداري على نادي الطيران    شريف عبدالمنعم عن سعادته بفوز الأهلي أمام الجونة: حسم المباريات وجمع النقاط الأهم    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    بين القبيلة والدولة الوطنية    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    تكريم المتميزين من فريق التمريض بصحة قنا    افتتاح مركز الإبداع الفني بمتحف نجيب محفوظ.. يونيو المقبل    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنيس منصور فى ذكرى رحيله «الصباح» تحاور أسرته ومدير مكتبه وتكشف أسرار الكاتب والفيلسوف

كل شىء فى الحياة تعب، إلا الموت فهو نهاية كل تعب، لكن الدنيا تبقى مثيرة جذابة، لا يهون علينا فراقها، رغم أنها نصف كذبة ونصف حقيقة.
إنها ثمرة شهية يا عزيزى.. نحبها، رغم أن نصفها مر، فى نهايتها فراق لا شك فيه، وعليك تقبل هذه الحقيقة، وأن تسعى للبحث عن السعادة، ما استطعت، على أنك فيما تبحث عليك أن تعرف أن السعادة أن تعيش بعض الوقت، وتضحك بعض الوقت، وتحب كل الوقت.
لا توجد مقدمة يستطيع صحفى الاطمئنان إلى متانتها ودقتها، عن الراحل الأديب والفيلسوف والمفكر، أنيس منصور، فى ذكراه الأولى، التى تصادف اليوم، خير مما كتبه قلمه الرشيق «اللمّاح» عن الحياة والموت، فعبارات الراحل الكبير تختزله، وتقدم بطاقة تعريفية، قد تكون جامعة مانعة عن رجل عاش مفعمًا بالبحث والتفكير والكتابة لمدة حوالى تسعة عقود.. رجل أحب الدنيا إلى الثمالة، وزهد فى مظاهرها، زهدًا أشبه بزهد المتصوفة، فلم يجمع مالًا، رغم أنه كسب الكثير، لأنه آمن بما كان يقوله: الجنيه الذى أنفقه هو الذى أملكه، ما أنفقته قبل قليل لم يعد ملكيّا، وما أنوى إنفاقه لاحقاً قد يكون للورثة.
أنيس منصور الذى وصفه العملاق عباس محمود العقاد، بالمصرى الوحيد القادر على قراءة كتابين فى الحمام، واستيعابهما بالكامل، وقال عنه عميد الأدب العربى، طه حسين: أكبر قارئ فى مصر، بل إلى جانب ذلك، هو أقدر كاتب على أن يجعل الصعب سهلًا، والسهل بديعًا.
أديب شغلته الفلسفة، أو فيلسوف أدركته حرفة الكتابة، فترك وراءه ميراثًا من الكتب، يصل إلى نحو 95 كتابًا متنوعًا، شملت كتابات رشيقة فى أدب الرحلات، الذى عشقه بقدر ما عشق الكون بأسره، وأخرى فى السياسة، وفى النقد الأدبى البسيط أو بالأحرى «المبسط» ناهيك عن القصص التى تحوّلت إلى أعمال درامية تليفزيونية وسينمائية.
هذا هو أنيس منصور، الكاتب الذى نجح فى تحقيق معادلة الكاتب النجم، فبلغت مبيعات بعض أعماله نحو مليون نسخة، صاحب المواقف السياسية الصادمة، وربما التصادمية، صديق السادات، مؤيد كامب ديفيد، الذى نحتفى بذكراه، لا عبر التحدث عن نتاجه الأدبى والإبداعى، ولا مواقفه السياسية، على أهميتها، بقدر ما نتحدث عنه من حيث كونه إنسانًا، فأهم كتاب يتركه الإنسان خلفه، هو سيرته الذاتية، بما يحتوى عليه من إخفاقات ونجاحات، على حد عبارة أنيس منصور أيضًا.
أنيس منصور.. عاشق الأولتراس
«لم يُعرف عن كاتب عظيم مثل أنيس منصور حبًا لكرة القدم، ولا عشقًا للاعبيها، حتى أنه لا يعرف اسم لاعب واحد فى أى فريق».
قد تكون تلك العبارة نصف الحقيقة، لكنها ليست الحقيقية، ومن يقول غير ذلك فمن المؤكد أنه لا يتابع كتابات «أنيس منصور» متابعة تليق بها وبحجم وقيمة كاتبها، فالكرة بجنونها وسحرها وقوانينها وفنونها وشعبيتها الجارفة وأموالها المتدفقة تسكن كلماته، تفرض نفسها عليه فيخضع لها طائعًا، بل إنه أحيانًا يلجأ إليها، ليصف أعقد حالات الفوضى السياسية.
وقبل أن يتم عميم مصطلح «أولتراس» على جماهير الكرة، كان صاحب «200 يوم حول العالم» مذهولًا بجنون مشجعى الساحرة المستديرة، واعتبرهم حالة فلسفية رائعة تدعو للتأمل، فالتاريخ الذى صنعه أنيس منصور لنفسه باعتباره أهم كاتب عمود يومى على الإطلاق، لم يمنعه من البحث لنفسه عن رياضة يمارسها، وقد لعب الكرة فى الصغر، وتركها دون ندم، وعندما كبر بحث لنفسه عن رياضة يمارسها فاختار «الشطرنج»، وحاول أن يتقدم فيها ولم يستطع: «وكنت إذا لعبت مع أطفال الأسرة يغلبوننى‏، واشتريت كتبًا ودرست وبرعت فى فتح اللعب بالحصان والطابية‏،‏ ولا أكاد أصل إلى منتصف رقعة الشطرنج حتى يسهل حصارى وكش الملك»‏!
وفى مرحلة متأخرة اكتشف أنيس منصور أن المتعة الحقيقية هى الجلوس بين الجماهير «الأولتراس» وتشجيع اللعبة الحلوة وكتب مقالا رائعا: «العب العب ليطول عمرك».. وقال الكاتب الكبير المعجون بالفكاهة والحنكة والدهاء والموهبة والذى وثق فيه السادات وجعله بمثابة وزير خارجيته الخاص وحامل رسائله إلى العالم: «مسكين كل إنسان لا يحب كرة القدم.. هذا اقتناعى أخيرا.. إننى أندم اليوم على كل السنوات التى مضت من دون أن أضيعها فى الجلوس فى الملاعب أو فى المدرجات أصرخ وأصفق وأهتف للكرة تنطلق يمينا وشمالا.. تهز الشبكة أو تهز الثلاث خشبات.. عندما تكون هناك مباراة، يسبقها الكلام والاستعداد النفسى والانتقال إلى الملاعب فى السيارات والاتوبيسات.. ثم الانتظار ساعات فى الملاعب.. حيث الهواء منعش والشمس مشرقة.. والضحك لسبب ولغير سبب وحيث يسحب كل واحد احتياطيه من القوة والحماس ويضعه فى عينيه وأذنيه ويديه.. وفى نفس الوقت يشرب ويأكل ويضحك ويرتفع صدره ويمتلئ بالصحة والعافية.. لقد تحوّل كل إنسان إلى كائن حى شاب منتعش.. وتمضى الساعات وهو يصرخ ويصفق.. ويغضب ويقف ليجلس ويتحول من دون قصد، أو بقصد إلى طفل صغير. كم ساعة مضت من كل يوم ساعات وأيام وشهور وسنوات وهو فى غاية الحيوية والنشاط.. جسمه قد نفض كل متاعبه، وعقله قد طرد كل الهموم وسقط عنه كل شىء كأنه تراب أو هباب وأصبح مغسولا نظيفا نقيا، ثم إن كل مناقشاته ومنازعاته وخلافاته تمثيل فى تمثيل.. لأن الرياضة لا تعرف الكراهية والحقد، وأرجوك بعد ذلك أن تنظر إلى وجوه السياسيين والكتاب: أنت لا ترى عليها إلا الهم والغم الذى يطيل ألسنتهم وأقلامهم ويقصف أعمارهم، فأقصر الناس عمرًاً اكثر الناس همًا، وأطولهم عمرًا أكثرهم لعبا أو تفرجا على اللاعبين، ثم إنها، أى هذه الدنيا، لا تساوى شيئا.. اسمعها منى وعلقها فى أذنيك.. وسوف تنساها ولكن عندما تتمدد أمام الطبيب سوف تحسد مجانين كرة القدم».
وعلى هذا النحو سارت علاقة الفيلسوف والكاتب الوجودى الأكثر حبا وعشقا للحياة مع كرة القدم، يغازلها ويحبها أحيانا، ويسبها ويلعنها أحيانا أخرى، ويهرب منها فى أحيان كثيرة، وقد هرب بالفعل من مشاهدة مباراة مصر مع انجلترا فى نهائيات كاس العالم 1990وذهب لمشاهدة عرض للأزياء!
ويرى صاحب 200 يوم حول العالم، والذى طاف مدن وقرى وعواصم العالم أن كرة القدم أصبحت قوة اقتصادية، فالبرازيل صنعت من أولاد الشوارع ثروة قومية، ومطلوب منا جميعا البحث عن مواهبنا وتشجيع لعب الكرة: «شوارع أمريكا اللاتينية مخصصة لكرة القدم‏،‏ ففى البرازيل وحدها عشرة ملايين طفل يلعبون فى الشوارع‏،‏ وإذا أراد أحد الأندية أن يبحث عن جوهرة سوداء ارتاد الشوارع‏، وقد‏ توقف «بيليه» الجوهرة السوداء فى أحد الشوارع يتفرج على طفل يلعب‏،‏ هذا الطفل يذكره بشبابه‏،‏ فحمله فى السيارة هو وأبواه إلى أحد الملاعب الكبرى‏،‏ وتعاقد الأب مع النادى‏،‏ وانضم الطفل الموهوب إلى أطفال آخرين فى النادى يحتضنهم ويربيهم ويطعمهم ويسقيهم ويتعاقد من أجلهم مع أندية أوروبية تشترى هذه المواهب بعد سنوات‏.‏ فكل نجوم كرة القدم اللاتينية أولاد شوارع ويشرفهم ذلك».‏
من كتاب «المثقفون وكرة القدم»
مدير مكتبه يروى:
فيلسوف عشق الترحال و«حياة الغجر»
ماذا فعل حين سمع الإمام يدعو: اللهم أخرب بيت أنيس منصور؟
مواقف من حياة أنيس منصور، ليست من عموده اليومى الذى حمل اسم «مواقف»، يرويها سكرتيره الخاص لسنوات طويلة، الزميل نبيل عتمان، الصحفى بالأهرام.
مواقف كان عتمان شاهداً عليها، وأخرى رواها له الكاتب الأديب الفيلسوف، الذى كان كثيراً ما يحب «الدردشة» ويعتبرها وسيلة لالتقاط الأنفاس إذا أنهكته أعباء العمل.
يقول عتمان: اشتهر أنيس منصور بمعاداته للمرأة وهذه ليست الحقيقة، ولكن كانت الطريقة التى يجذب بها العديد منهن لمناوشته.. كان يحب «إغاظتهن» على سبيل المداعبة ربما.
أنيس منصور له المئات بل الآلاف من الصديقات من داخل وخارج مصر وكانت بعضهن يراسلنه من الخارج، ويكتب عنهن فى مواقفه اليومية بأسماء مستعارة.
عشق أنيس للمرأة ملمح أساسى من ملامح تكوينه النفسى، فهو عاش عاشقاً للجمال، وكان يرى المرأة كائناً جميلاً، إلى درجة أنه كان يحب حضور عروض الأزياء النسائية، للاستمتاع بجمال الأنوثة.
ويضيف أن حب أنيس منصور للجمال هو الدافع الأكثر تأثيراً فى تمتعه بالقدرة على تذوق كل ما هو جميل، فقد أحب الموسيقى، وكتب فيها مثلما يكتب النقاد المتمكنون، وكتب فى السينما والمسرح والفنون التشكيلية، وفى كتاباته عن رحلاته، التى أسست أدب الرحلات العربى، وصف الطبيعة وصفاً شاعرياً جميلاً.
يقول: كان أنيس يعشق أمه ويقدسها، وهذا العشق فيما يبدو كان الطاقة التى تشحنه باستمرار، وتجعله أرق قلباً تجاه كل الأمهات، وقد روى لى ذات مرة، أنه كان جالساً مع صديقيه مصطفى وعلى أمين فى «أخبار اليوم» فجاء صحفى وحكى لهم أنه نهر أمه، فغضب منصور، وطلب فصله فورا، وكان يزور والدته عند قبرها كل شهر ويقرأ لها القرآن ويظل يبكى عليها.
أما علاقته بأبيه فقد كان فيها قدر كبير من الاحترام المتبادل، فلم يضربه بعد أن حفظ القرآن فى نحو العاشرة، قال له أبوه: لن أضربك بعد اليوم، واصطحبه إلى الكتّاب، ليطلب إلى الشيخ هناك إعفاءه من مهمة جمع بيض الدجاج من أعشاشها، قائلاً: هذا عمل لا يليق بمن حفظ كتاب الله، فاستجاب الشيخ على الفور.
ويرى عتمان أن حب منصور للسفر، يرجع إلى أنه كان على قلق دائم، وإلى رغبته فى أن يعرف أكثر، وقد كان والده دائم الترحال والتنقل، عمل ناظر زراعة لعدلى باشا يكن، وهذا جعل الأسرة على سفر دائم، مشيراً إلى أن منصور روى له أنه فى طفولته رأى إحدى الغجريات تمر بالشارع وفوق رأسها "قُفة" فأخذته معها أسبوعاً، ومن عادات الغجر أنه عندما يفد إليهم غريب، يشرب قطرات من دمهم ويشربوا من دمه، حتى يصير منهم، وهو ما حدث بالفعل مع أنيس، ومن هنا نشأ حبه للغجر والغجريات، الذين كان يرى فيهم الأنسب لحياته، لأنه يحب الحرية والتنقل من مكان لآخر مثلهم.
وعندما توفيت كبيرة الغجر فى إيطاليا سافر خصيصاً ليعزى فيها ويعرفهم بنفسه أنه واحد منهم وألّف كتاباً سماه «كلنا غجر».
ومن ذكريات أنيس منصور، أنه حينما جاء القاهرة قادماً من المنصورة، سكن منزلاً متواضعاً فى بولاق أبوالعلا، ولما كان يصلى الجمعة، وقف الإمام يدعو: اللهم أخرب بيت أنيس منصور، فسأل المصلين: هل تعرفون من أنيس منصور؟ فأجابوه بالنفى، فر: إذن اللهم أخرب بيته.
كان الأديب الراحل وقتها قد طرح كتابا عن فلسفة الوجودية، أثار به وحوله جدلاً كبيراً.
ويقول صلاح عتمان: إن هذا الموقف دفع أنيس منصور لأن يرفض طوال عمره المشى فى القطيع، كان يؤمن بأن المثقف عليه أن يقول كلمته ويمضى، مشيراً إلى أن هذا الأمر تسبب فى أن اصطنع لنفسه أعداء كثيرين، وأصدقاء كثيرين، لكنه فى النهاية، لم يكن يبالى بالأمر كثيراً، وكان دائماً ما يردد: يهمنى أن أشبه شخصاً اسمه أنيس منصور.
وكان المكتب الخاص للأديب الفيلسوف، يحتوى على نحو ثلاثين زجاجة كولونيا محلية الصنع، وهذا بسبب عقدته منها، حيث طلب منه مدرس التربية الفنية فى الابتدائى رسم زجاجة كولونيا، فرسم الأطفال زجاجات الكولونيا، أما هو فأخذ يبكى، فسأله المدرس لماذا تبكى ولا ترسم؟ فقال: «لأنى لا أعرف يعنى إيه كولونيا فأنا لم أر إلا زجاجات الدواء بجوار سرير والدتى المريضة»، فقال له المدرس ارسمها واكتب عليها كولونيا.
ويتابع: من مميزات أنيس منصور أنه كان لا يكف عن القراءة، وكان لا يفقد لياقته الذهنية مهما قرأ، وهذا فيما يبدو يرجع إلى أنه تدرب على القراءة منذ طفولته المبكرة.
كان الأول على الثانوية العامة فى مصر، وكان مولعاً بالقراءة منذ الصغر، ويقرأ فى كل شىء، وعندما وصل إلى الثانوية كان قرأ كل محتويات مكتبة المنصورة العامة المطلة على النيل، والتى تضم ألف كتاب فى شتى نواحى الحياة، وقام أمين المكتبة بتكريمه ومنحه شهادة تقدير مكتوبا فيها «ولدنا أنيس منصور قرأ الألف كتاب بمكتبة المنصورة»، لذلك قرر منح نصف مكتبته لهذه المكتبة وتحوى مكتبته نحو 100 ألف كتاب، بين مجلدات وموسوعات فى كل العلوم الحياتية.
ويقول: رغم أن أنيس منصور رفض الإنجاب، إلا أنه حين طعن فى السن، شعر بخسارة فادحة، وندم على أنه ليس له ولد، هذا على الرغم من أنه كان يشعر بأن أبناء زوجته وأحفادهم هم أبناؤه.
ولم يكن الفيلسوف يخشى الموت ولكنه كان يخشى المرض كثيرا لأن والدته كانت دائما مريضة وكان يتألم لأجلها كثيراً، وكان لديه وسواس من الإنفلونزا نقله له الموسيقار عبدالوهاب.
شهادة الحفيدة
تقول رنا جوهر، حفيدة حرم أنيس منصور: لم أشعر يوماً بأنه رجل غريب، وحتى دخلت المدرسة كنت أحسبه أبى، لكن لما وجدتهم ينادوننى باسم أبى الحقيقى فهمت.
كان عطوفاً رحيماً، وأجمل صفاته أنه يحسن الإصغاء مثلما يحسن الكلام، فإذا مررت بمشكلة أو وجدت نفسى فى موقف اختيار بين قرارين، ألوذ به ولا أحد سواه.
فى مثل هذه الظروف، كان يسمعنى من دون مقاطعة، ثم نبدأ معا بحث الخيارات المتاحة، وبعدها نناقش ما سيترتب على كل قرار من تبعات محتملة ومؤكدة، ثم يتركنى أقرر بنفسى بعد أن يكون قد هدانى بشكل غير مباشر إلى الطريق الصحيح.
كان يكره وصاية الكبار على الصغار، ويؤمن بأن الإنسان يجب أن يقع حتى يتعلم الوقوف.. لم يوجهنى للصحافة بشكل مباشر، لكنه أخذ بيدى إلى عالم القراءة، وكان يهدينى الكتب من حين لآخر، وهكذا أخذنى إلى بلاط صاحبة الجلالة.
منى رجب: علاقة منصور بأمى.. أجمل قصص الغرام
لم يكن عدو المرأة ومقالاته عنها تعمدت مناوشتها وإغاظتها
خلافاته مع «هيكل» لم تخرج عن حدود اللياقة والأدب
يعشق المقالب ولا يميل إلى الطعام ولديه وساوس من الإصابة بالمرض
لا أحد يستطيع أن يصف إنسانًا، ويتحدث عنه، مثل أهله وذويه، فالإنسان ما إن يدخل بيته، حتى يخلع عن وجهه كل الأقنعة، ويمسح الماكياج السلوكى الذى كثيرًا ما يختفى خلفه، لمقتضيات التعايش فى مجتمع، يحدد لأفراده ضوابطه ومسموحاته وممنوعاته
كيف كان أنيس منصور من دون هذا الماكياج؟
هل كانت شخصيته فى الواقع هى نفس شخصيته فى الشارع والمكتب؟
هل هناك فروق واضحة، كبيرة أو صغيرة، عميقة جذرية أو طفيفة هامشية، بين أنيس منصور الكاتب.. وأنيس منصور الإنسان؟
ثمة كتاب كثيرون، ترسمهم لنا كتاباتهم، كما لو كانوا ملائكة نورانيين، ولما نقابلهم وجهًا لوجه، نتمنى لو كنا لم نعرفهم، كى لا نخسر الصورة المثالية الجميلة التى رسمناها لهم؟
هذه الأسئلة وغيرها، حول الإنسان أنيس منصور، هى ما تجيب عنه الصحفية منى رجب، ابنته التى لم ينجبها.. الفتاة الصغيرة ذات العشرة أعوام، التى شاء القدر أن تعيش إلى جوار الراحل الكبير عقودًا، بعد أن تزوج من أمها، «رجاء حجاج»، المرأة التى أحبها الأديب الفيلسوف.
تقول منى رجب: ليس سهلًا الحديث ببساطة عن رجل مثل أنيس منصور، فنحن إزاء رجل عاش الحياة ببساطة ممتنعة، مثلما كان يكتب السهل الممتنع.
تزوج من والدتى، عن حب، وآمن بها إيمانًا كبيرًا.. هذا النوع من الإيمان الذى يستند إلى أن المرأة كيان إنسان يحظى بالاستقلالية، ولابد من أن يكون حرًا، على إطلاق معانى الحرية، وبهذا الإيمان غمر كل تفاصيل حياتها بالاهتمام.
كانت حين تتحدث عن عملها، رئيسةً لجمعية هدى شعراوى، يصغى إليها بتركيز، وحين تستشيره وتسأله الرأى، لم يكن يحب أن يقدم رأيّا واحدًا، بقدر ما كان يعطيها بدائل وخيارات، ثم يقول: أنت فى النهاية ترين ما لا أرى، والقرار لك.
* يبدو كلامك غريبًا إلى حد ما، وأنت تصفين كاتبًا مصنفًا على أنه من ألد أعداء المرأة؟
- لم يكن أنيس منصور عدوّا للمرأة، لكنه كان يحب مشاكستها أو ربما مداعبتها، خصوصًا فى عمود يوم الجمعة مواقف.
علاقته بوالدتى كانت علاقة عاشق متيم يهيم بمحبوبته، يحرص على أن يدهشها كل يوم بالجديد.
فى أعماقه، عاش ذاك الطفل شديد التعلق بأمه، فلما تزوج جعل من زوجته أمًا، ولم يكن يحلو له طعم العيش بعيدًا عنها.
حين مرضت مرضًا شديدًا، قبل خمسة عشر عامًا، كان يبكى كالأطفال، بكاءً مريرًا، ولم يكتفِ الأديب الكبير بالبكاء دمعًا، إذ أخذ قلمه يذرف الدمع، على أوراقه، فإذا بمقالاته اليومية فى «الأهرام»، تتحوّل إلى رسائل حب، من عاشق إلى معشوقته.. رسائل أبكت الشعب المصرى بأسره.
وحين تماثلت أمى للشفاء، سألته: ألم ترَ حين كنت تكتب هذه الرسائل بأنك تشغل القارئ بالشأن الشخصى، وهو ما ليس بالضرورة يعنيه؟.. فأجاب: «لطه حسين عبارة أحب أن أستعيرها، وهى أن الكاتب لا يعرف الفارق بين الشخصى والعام، فإذا سيطرت عليه فكرة، أو اعترته شاردة، يحب أن يشرك الناس فيها، ليس له «أنا» مستقلة، وليس واحدًا عاديّا من الجموع.. فهو كاتب».
هذه العبارة البديعة، كانت من أهم الدروس التى تلقيتها فى العمل الصحفى.. الكاتب ليس له «أنا»، وليس كالبشر العاديين، فهو الحادى الذى يقود القافلة، أو الدليل الذى يأخذ بيد مجتمعه نحو بر الأمان.
* عبارة قد تكون مبهمة بعض الشىء، فهل شرحت مغزاها؟
- كان الراحل الكبير يرى أن الكاتب هو واحد من الناس، بدرجة ما، يجب أن يستشعر همومهم وأحلامهم وطموحاتهم، ويعبر عنها تعبيرًا صادقًا، لكن فى الوقت ذاته، لا يجب أن يتبنى كل ما يقولونه، ولا بأس من أن يصطدم بهم ومعهم، ولا عيب فى أن يشعل حوله الحرائق، طالما أنه يؤمن بما يكتب، ويعتقد أنه الصائب والحق والجميل.
* معروف أن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قد توسط لدى أسرة والدتك لتقبل بأنيس منصور زوجًا لها.. فما تفاصيل هذه القصة؟
- المعروف عن أنيس منصور، أنه كان مضربا عن الزواج، فلما رأى أمى، وكانت ومازالت بارعة الجمال، أصابت سهام «كيوبيد» قلبه، ولم يستطع على بعدها صبرًا، وقرر العدول عن قرار الإضراب.
وقبل أن أمضى فى سرد بقية التفاصيل، يجب أن أوضح أن إضراب أنيس منصور عن الزواج، لم يكن لكراهيته المرأة، بقدر ما كان يخشى من أن تأخذه مسئوليات الزواج من الكتابة التى جعل نفسه شمعةً فى محرابها.
أما بالنسبة لوساطة هيكل، فقد كانت لأن والدتى من أسرة عريقة، خالها زكريا عبدالفتاح، من الضباط الأحرار، ولم يكن سهلًا أن توافق الأسرة على هذه الزيجة، من دون أن تتأكد من حسن أخلاق هذا العريس.. فكان الأستاذ وسيطًا، ساهم فى تذليل الصعوبات.
* لكن.. ماذا عن الخلاف بين الأستاذ وأنيس منصور؟
- لم يكن الخلاف بينهما شخصيّا إنسانيّا، لكنهما اختلفا على المستوى السياسى، وكان الراحل يصف هيكل بمؤسسة صحفية تمشى على قدمين، ويجيب ردًا على أى سؤال حول خلافهما: إن الناس فى مصر، تحتاج لأن تتعلم أبجديات الخلاف، فخلافى مع هيكل، رغم حدته، خلاف فى الرؤى ووجهات النظر، لا يعدو أن يكون خلافًا سياسيّا، فى جزئية بعينها، على أن هذا الخلاف، لا يمنعنى من أن أكن له الاحترام الإنسانى، ولا يمنعنى أيضًا من الاتفاق معه حول قضايا أخرى.
كان أنيس منصور يرفض فكرة التشابه بين الناس، ويردد: «إن الموتى فقط يتشابهون»، ويعتنق الحرية منهجًا فى الكتابة والحياة معًا، وكان حريصًا على أن يكون رأيه مستقلًا، يعبر عما يؤمن به، بغض النظر عما قد يؤدى إليه هذا الرأى من خلافات.
وبعد وفاة أنيس منصور، أرسل الأستاذ رسالة نعى، وهكذا يختلف الكبار.
* عشت مع أنيس منصور وقتًا طويلًا، والمعروف أن له طقوسًا يومية، قلما يخالفها، فما برنامجه اليومى؟
- لم يكن رجلًا صارمًا على العموم، فالبرنامج اليومى ليس ذا حدود صارمة، باستثناء الاستيقاظ مبكرًا، فالمعروف عنه أنه لم يكن ينام لأكثر من ثلاث ساعات، ويصحو من نومه فى نحو الرابعة فجرًا.
مكتبه ومكتبته صومعته، يدخلها للقراءة بعد أن يستيقظ بنحو نصف الساعة، فيقرأ يوميّا حتى العاشرة، والقراءة عنده ليست بتلك القراءة الاستمتاعية، فقد كان يقرأ وإلى جواره ورقة وقلم، ويدوّن ملاحظاته، وكان ذا عين خبيرة بالمواهب، فإذا اطلع على نتاج أديب أو صحفى ناشئ، سرعان ما يكتشف موهبته، ولم يكن يتردد عن تشجيعه والوقوف إلى جواره.
بعد أن يفرغ من جرعة القراءة اليومية المقدسة يتوجه إلى مكتبه، فى «الأخبار» أو «الأهرام» فيبدأ الكتابة، ولا يسمح لأحد أن يقتحم عليه مكتبه فيما هو يكتب.
لم يكن يأكل كثيرًا، ولا يحب الطعام الدسم، ويميل إلى البقوليات والخضراوات. ومن صفاته أيضًا أنه كان يعانى من «فوبيا« تجاه نزلات البرد والإنفلونزا، ويتجنب مصافحة المصابين بهما، وفى الشتاء يتغطى بثلاث بطاطين، ويكثر من الليمون والبرتقال.
مرح للغاية، وإذا أراد أن يشرح فكرة ما، يعززها بالقفشات وببعض العبارات الساخرة، هذا رغم أنه كان فى أعماقه حزينًا، وهذا الحزن الفطرى فيما أعتقد، قد ترسخ فى وجدانه، لأنه كان ذا شعور مرهف.. البشر المرهفون أكثر ميلًا إلى الحزن، وكان حزنه مصدر إبداع وإلهام، وليس مصدرًا للإحباط.
يبدو أن صداقته بالشاعر الراحل كامل الشناوى، قد أكسبته هذه القدرة، على استخراج الكتابة المدهشة، من رحم الأحزان.. ويبدو أن هذه الصداقة أيضًا، قد أسهمت فى جعله من أهم الساخرين فى عصره.
أما أبرز ما اتسم به، فهو حبه الكبير لأمه، إلى درجة أنه كان يبكيها كلما تذكرها، حتى بعد أن تجاوز السبعين.
* بين العقاد وطه حسين.. تردد كثيرًا، وحضر فى شبابه صالونيهما الأدبى، فإلى أيهما كان يميل قلبه؟
- إلى العقاد بلا شك، فالعقاد كان فيلسوفًا راسخًا، وأنيس درس الفلسفة.
* تأثر أنيس منصور بالعملاقين، وكان هاجسه الأول والأخير، كيف يجعل من كتابته رغيفًا طازجًا يستسغيه البسطاء.. كل البسطاء؟
- كان يكتب المقال، ثم يطلب إلى ساعى مكتبه، أن يقرأه، فإذا فهمه، أرسل به إلى المطبعة، وإذا لم يفهمه، أخذ يبسطه ويسهّل عباراته، وهو يروى أنه أعاد كتابة مقال خمس وعشرين مرة، حتى استوعبه الساعى.
كانت لأنيس منصور لغة رشيقة، أحسب أنه ابتدعها، وكان أقدر كاتب مصرى، يخاطب الناس بسهولة ممتنعة، فإذا كتب مقالًا عن سارتر أو نيتشه أو هيمنجواى، أعجب المتخصصون، وفهمه العامة، وهنا تكمن عبقريته.
كثيرًا ما كان يردد: العقاد لا يُشق له غبار، لكن لغته وتراكيب عباراته، جعلته كاتبًا للنخبة المثقفة، أما طه حسين فلغته تترقرق بعذوبة نبع صافٍ.. هكذا كان ينظر إلى الأدب، يريد أن يكتب للجميع، وقد حقق هذه المعادلة، الأمر الذى دفع الأديب العالمى نجيب محفوظ إلى أن يصفه بجملة جامعة مانعة: «أنيس منصور صاحب أسلوب».
* دعينا نعود إلى أنيس الإنسان.. زوج الأم، كيف كانت علاقته بأبناء زوجته؟
- كانت علاقته بى وبالدكتورة علا والدكتور جعفر، علاقة أبوية رائعة، وكانت علاقته بأولادنا علاقة جد بحفيد، إلى درجة أنه كان يتصل غاضبًا معاتبًا، فى حال لم أحضر ابنتى كى تلعب معه.
حبه لأمى قد كان شاملًا، ومن ثم أحبنا بالتبعية، ومن صفاته أنه كان يحب المقالب، إذ يختبئ فى أروقة البيت، ويخرج فجأةً ضاحكًا فنصاب ب«الخضّة»، وكان حين يداعب أطفالنا، نشعر بأن طفلًا يلهو مع أطفال.
كان يملأ الدنيا حولنا حبًا ونشاطًا وفكرًا وعملًا وأيضًا طفولة، ولأنه كان إلى هذا الحد استثنائيّا، لم نشعر ذات يوم بأنه زوج أم، بقدر ما كنا نحس بأنه أب.
حبه لأمى أكسبه المزيد من المساحات فى قلوبنا، وكنا نراه يتشبث بيديها كطفل يتشبث بيدى أمه، إذا مرضت، ولم ينس يومًا هدية عيد ميلادها، وعيد زواجهما، لذلك فهى تبكيه كل يوم.. لا تبكى زوجًا وإنما تبكى حبيبًا ظل حتى الرمق الأخير قادرا على أن يحب كالمراهقين، حبًا طفوليّا مجنونًا.
* رفض أنيس منصور الإنجاب، فما السر وراء هذا الموقف الغريب، إذا كانت علاقته بالأطفال كما تصفين؟
- لم يكن يتحمل بكاء طفل، كان حساسًا أكثر مما ينبغى، كما كان يشعر بالاكتفاء بنا، ويقول: حصلت على ثلاثة أبناء وأحفاد، وهم يملأون حياتى.
هذا الموقف لم يغضب أمى، ولم تجادله فيه طويلًا، إذ كانت تعلم بأنه متمسك بما يقتنع به، وكانت تشعر بأن له رسالة مهمة، وهى الكتابة، ومن ثم وفرّت له الجو النفسى المناسب، فأصبح إنتاجه بعد الزواج، أغزر منه قبله.. وكانت تعلم أنه شخص استثنائى للغاية، فهو من جهة، فيلسوف حقيقى، ومن جهة أخرى، صحفى له نجومية وعلاقات متسعة.. ولهذا كانت حقيبة سفره مجهزة دائمًا، وكانت تحضرها له بنفسها، فليس هناك ضمانات، ألا يتصل من مكتبه فى أى ساعة، كى يقول إنه مسافر مع الرئيس الراحل السادات.
* كانت علاقته بالسادات أعمق من علاقة صحفى برئيس.. أليس كذلك؟
- كان يؤمن بأن السادات يسبق بفكره السياسى عصره، وكان يجرى معه حديثًا صحفيا أسبوعيًا فى فترة مزدحمة بالأحداث، قبل كامب ديفيد وبعدها، وكان يرى أن السادات خدع مناحيم بيجن حين طلب زيارة القدس، فعرض القضية الفلسطينية فى الكنيست، وهذا الاتفاق ساهم فى تقوية العلاقة بينهما، وتحولها إلى ما يشبه الصداقة.
موقفه من السادات، دفع البعض إلى اتهامه بأنه كان ضد عبدالناصر على طول الخط، وهذا ليس صحيحًا، فقد تمثلت مشكلته الأولى والأخيرة مع عبدالناصر فى التضييق على حرية الرأى فى عهده، وقد تألم كثيرًا حينما صدر قرار بمنعه عن الكتابة لمدة تسعة أشهر، لأنه كتب مقالًا تناول فيه قضية التضييق على الحريات، بشكل فيه مواربة، إذ صاغ المقال فى قالب قصصى رشيق، ولم ينتقد الواقع بشكل مباشر، غير أن الرسالة وصلت.. وكان قرار منعه عن الكتابة، بمثابة طعنة لقلبه، فأنيس منصور لم يترك القلم حتى النفس الأخير.
* ما الذى كان يغضب أنيس منصور؟
- لم يكن أنيس منصور حادًا فى غضبه، لكنه كان يكره التكاسل للغاية، كانت نصيحته للشباب دائمًا، لا تقل لى إنك تريد أن تكون الأول، وإنما قل لى إنك ستتحدى ذاتك بمنتهى القوة، حتى تتفوق على نفسك.
لا تتبع خطوات الآخرين، فتكون إمعة، وإنما ارسم طريقك وخطط لحياتك كما تطمح لأن تعيشها، واعلم أنك لن تحصد إلا زرع يديك، وكان يكره الذين يتساقطون فى منتصف الطريق، ويؤكد أن المساحة بين الحلم والواقع، لا يستطيع قطعها إلا المثابرون أولو العزم.
إلى جوار كراهيته التكاسل والتخاذل، كان يكره الكذب، ولا يحب النفاق، لكنه كان مجاملًا رقيقًا، وهذه الثنائية فى شخصيته، كانت تدفعه فى بعض المواقف إلى الصمت، حينما يسأل عن رأيه فى شخص لا يروق له.
وحيد حامد
لم يحدث أن التقيت بأنيس منصور، ولم تجمع بيننا صداقة، وقد اختلفت معه سياسيّا فى كثير من المواقف، وهناك خلاف جذرى بيننا، فأنا ناصرى حتى النخاع، وهو ساداتى حتى النخاع، لكنى كنت أقرأ له، وكثيرًا ما استمتعت بمقالاته بعيدًا عن السياسة.
يوسف القعيد
أنيس منصور كان مقربًا من مبارك، ولكن ليس بمقدار قربه من السادات، وأنيس بدأ حياته شابًا فقيرًا، وكان لابد أن يسنده أحد من الكبار، وبالفعل نال حظوة ومكانة كبيرتين فى عهدى السادات ومبارك، وكا ذلك بسبب لياقة أنيس منصور.
د. جابر عصفور
«أستاذ إبليس مسطول» إن البرية حارت فى أمرك، تكتب فى رمضان عن عمر بن الخطاب، وتكتب بعد رمضان عن صوفيا لورين ومارلين مونرو.
فاروق جويدة
علمنا أدب الاختلاف الذى لا يفسد للود قضية.. كنا نختلف بكل الود والحب، وهذا النموذج نكاد نفتقده فى عالم الصحافة والسياسة التى كان يطلق عليها (فن السفالة الأنيقة)، وقد رحمه الله من السفالات التى نشهدها.. وسنشهدها!


وصية أنيس منصور
أوصى أنيس منصور قبل موته بأن تدير زوجته وحبيبته رجاء حداد وأبناؤها الثلاثة تركته الأدبية عبر مجلس أمناء برئاستها.
كما أوصى بأن تهدى مكتبته الخاصة التى كانت تضم آلاف الكتب الأدبية والفلسفية ودواوين الشعر وكتب الفلك وأدب الرحلات، بلغات مختلفة، مناصفةً إلى مكتبة المنصورة مسقط رأسه التى طالما كان يفخر بالانتماء إليها، وإلى مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وتقول منى رجب: هذا القرار يكشف إلى أى حد كان أنيس منصور يحب العلم ويحتفى بالقراءة، ويؤكد أنه لا انفصال بين الفيلسوف والكاتب والأديب من جهة، وبين الإنسان من جهة أخرى، فقد كان نموذجاً للتصالح مع الذات.
ولم يترك أنيس منصور وراءه تركة مادية يعتد بها، فقد عاش مبذرا يحب السفر ويرتدى أفخر الثياب، ولا يفكر فى كنز المال.
كلمات منصور الأخيرة: أيها الموت.. لحظة من فضلك
سأقول لربى: أنت الله لا شريك لك.. وأعترف بأنى ظلمت عبدالناصر
سأقول لربى حين ألقى وجهه: أنت الله لا شريك لك، فما أعظمك
هكذا تحدث أنيس منصور، ردا على سؤال وجهه له، فيما كان على فراش الموت، الزميل مجدى العفيفى، رئيس تحرير «أخبار الأدب» الذى رافق الأديب والفيلسوف الراحل، على مدى مائتى يوم، قبل سفره الأخير.
يقول العفيفى ل«الصباح»: إن هذه الإجابة أسدلت الستار على اللغط الذى طالما أثير حول تدين منصور، وكشفت أنه كان ينظر للقضية الدينية بالمعنى الإنسانى والكونى وليس المعنى الضيق للدين.
كان منصور يمتلك حدس زرقاء اليمامة، فى رؤيته للواقع، وما وراء الواقع، وهذا من شأن المفكرين العظماء عبر التاريخ، فكانت لديه تنبؤات معظمها حدث بالفعل، مثل الفوضى التى ستعم، وصعود التيارات الإسلامية، وحدوث شقاق فيما بينها، وهو بدأ بالفعل بعد شهر العسل بين الإخوان والسلفيين.
وتوقع منصور أن تستمر الفوضى قرابة سبع سنوات، وكان يعتقد أن بداخله هالة ما من النور، لم يكن يحسها، ولكنه تحدث عنها مع الشيخ محمد الشعراوى فى محاولة لتفسيرها.
وروى منصور للعفيفى أنه كان يسير على كورنيش النيل فرأى أمامه هالة من النور فخاف وعاد إلى البيت مسرعا، وهو ما جعله يكتب كتابه «طلع البدر علينا» بمصداقية الهالة النورانية، على حد تعبير عفيفى.
وكان منصور مهتما بعلم الفلك والنجوم، يبحث عن المهتمين بهذا العلم أينما يذهب، وكانت الكتب المتناثرة على فراشه بالمستشفى كتبا ومجلات ودوريات علمية وفلكية.. كان يقول: أعظم الطرق فى الوصول إلى الله هو العلم وهو وسيلة للإيمان، خاصة فى هذا العصر والعصور المقبلة.
وكانت العبارة التى يخطها منصور فى أوراقه «إن الله أكبرمن أن يعرفه الإنسان» وبهذا استقر اليقين لديه فى قراره المكين بالوصول إلى الله، وكانت هذه هى مراجعته الدينية.
ويتابع: المراجعة الثانية لمنصور كانت عن عبدالناصر حيث قال لى «صحيح أنه أبعدنى عن الصحافة لمدة عام، وأن كتابى «عبدالناصر المفترى عليه والمفترى علينا» كان بسبب هذا «الظلم»، إلا أننى «زودتها حبتين» وكنت قاسيا عليه، وقد تأكدت من أنى بالغت حين تأملت طويلا السياسة المصرية خلال العشرين عاما الماضية، فعبدالناصر لم يكن يستحق كل هذا الغضب والقسوة، كان زعيما بالفعل وإن كنت أتحفظ على كثير من مواقفه».
وعن علاقته بالكاتب والصحفى محمد حسنين هيكل قال لى أنيس «من الآخر من فترة كنا فى غداء على سطح البحر بدعوة من صلاح دياب صاحب المصرى اليوم، وكل ما حدث بينى وبين هيكل أنه قال لى: إزيك يا أنيس، قلت: إزيك يا هيكل».
وفى حياته الخاصة عندما سأله العفيفى عن عدم إنجابه قال منصور «أردت أن أكون النقطة الأخيرة فى السطر».. وهذا السطر هو عائلته، ثم قال «لم أرد أن أنجب أطفالا يتعذبون فى هذه الحياة.
وكان أنيس منصور فى آخر أيامه فى حالة بكاء مستمر، وعندما سألته لماذا؟ قال «عندى الكثير مما أقوله لكن العمر قصير والموت قريب»، وكان دائما يقول جملته: أيها الموت لحظة من فضلك فالبقية فى حياتى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.