مثلت الجولة الآسيوية المنتهية توا للرئيس السيسى تدشينا لتفعيل ما يمكن وصفه بالتوجه المصرى شرقا، وهو توجه طال المطالبة به منذ عقود، واستند إلى قراءات استشرافية لتحولات النظام العالمى والتغيرات المتسارعة فى هيكل توزيع القدرات الإستراتيجية والاقتصادية العالمية. لكنه بات يستند اليوم إلى واقع فعلى من التحولات يسير فى اتجاه تركز ثقل النظام العالمى فى منطقة آسيا المحيط الهادئ بشكل عام، وشرقى آسيا بشكل خاص، ما يجعل التوجه شرقا ضرورة سياسية لمصر. وبالإضافة إلى الموقع الجغرافى الذى يعطى لمصر مطلا مهما على القارة الآسوية ومسطحاتها المائية، تمتلك مصر عددا من المقومات المهمة التى توفر أسسا لبناء هذا سياسة حقيقية للتوجه شرقا. رصيد قوي أول تلك المقومات ما تمتلكه مصر من رصيد قوى لدى القوى الآسيوية، خاصة الدور الذى لعبته مصر فى دعم حركات التحرر الوطنى لعدد من دول جنوب وجنوب شرقى آسيا، وهو الدعم الذى طور اتجاهات وإدراكات إيجابية مازالت قائمة لدى دول وشعوب آسيا حتى الآن رغم مرور عقود عدة ومنها (الهند، وإندونيسيا، وسنغافورة كنماذج مهمة). أضف إلى ذلك ما تمتلكه مصر أيضا من قائمة كبيرة من الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية المهمة مع القوى الآسيوية، بالإضافة إلى عدد من الأطر الثنائية المهمة تشمل مجالس رجال الأعمال، وجمعيات الصداقة الثنائية، واللجان المشتركة للتشاور السياسى… إلخ. علاوة على التحاق مصر بعدد من التجمعات الآسيوية الجديدة (عضوية مصر كمراقب فى كل من منتدى الآبك ورابطة الآسيان، والبنك الآسيوى للتنمية، وعضويتها ببنك الصين لتنمية البنية الأساسية، فضلا عن وجود اتجاه قوى لضم مصر إلى مجموعة العشرين ذات الثقل الآسيوي). وتأتى أهمية التوجه المصرى للالتحاق بهذه التجمعات الآسيوية، أنها تجعل مصر جزءا من شبكة الترتيبات الإقليمية وعبر الإقليمية لإدارة جزء مهم من حركة التفاعلات الدولية على المستوى الاقتصادى والتجارة الدولية، فضلا عما يوفره هذا الالتحاق من أساس لمتابعة مصر لما يمكن وصفه بتحولات البنية التحتية للنظام العالمي، إذلا يمكن فهم التحول الجارى فى هيكل النظام العالمى بدون فهم الدور الذى باتت تلعبه هذه الترتيبات وما يجرى بداخلها، وما تعكسه مع إعادة توزيع القدرات الدولية لصالح القوى الآسيوية. سياسة تعويضية وهكذا، فإن السعى المصرى الحثيث للالتحاق بهذه المجموعات الآسيوية يجعل مصر جزءا من مسرح التحولات العالمية الراهنة فى هيكل وبنية النظام العالمي. أضف إلى ذلك ما تمثله تلك السياسة من تعويض للتراجع الشديد فى دور حركة عدم الانحياز التى تأسست فى منتصف الخمسينيات، التى مثلت أحد أهم الأطر التى أديرت من خلالها علاقات مصر مع دول آسيا الرئيسية خلال تلك المرحلة، خاصة الهند. وقد ظلت الحركة إطارا مناسبا للتك العلاقات بالنظر إلى هيمنة قضايا التحرر الوطنى والاستقلال، ثم قضية العلاقة مع النظام الدولى وهيمنة توجه «عدم الانحياز» على سياسات كتلة مهمة داخل دول العالم الثالث. لكن مع تحول النظام العالمى من القطبية الثنائية إلى القطب الواحد عقب انهيار الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة فقدت الحركة أهميتها وبوصلتها السياسية، رغم محاولات إعادة تعريفها. المقوم الثانى هو الرابط الدينى الذى يربط مصر بعدد من دول وشعوب المنطقة، ليس فقط إندونيسا وماليزيا كدول تقدم نفسها باعتبارها دولا إسلامية فى المنطقة، ولكن مجموعات ضخمة من الأقليات المسلمة فى مختلف الأقاليم الآسيوية. ومن المفارقات الديموغرافية المهمة هنا أنه رغم كون المنطقة العربية والشرق الأوسط هى مركز ثقل العالم الإسلامي، وارتباط الإسلام فى الإدراك الغربى والعالمى بالشرق الأوسط بشكل عام، والعالم العربى بشكل خاص، فإن الثقل الديموغرافى يظل فى آسيا بأقاليمها المختلفة، إذ يشكل مسلمو الشرق الأوسط وشمال افريقيا معا أقل من ثلث مسلمى العالم، بينما يعيش حوالى الثلثين فى آسيا بأقاليمها المختلفة. وفى آسيا توجد أكبر دولة إسلامية فى العالم هى إندونيسيا. وفى آسيا أيضا توجد أكبر أقلية إسلامية فى العالم (الأقلية الإسلامية فى دولة الهند). وسطية الأزهر وتوفر هذه الحقيقة الديموغرافية مقوما مهما لسياسة التوجه شرقا، ليس فقط بالنظر إلى موقع مصر فى العالم الإسلامي، ولكن بالنظر إلى ما تمتلكه من أوراق أخرى مهمة، أولها مؤسسة الأزهر الشريف، التى تمثل المدرسة الإسلامية الوسطية الأبرز فى العالم الإسلامي، والمكانة المهمة التى تتمتع بها بين الدول والأقليات الإسلامية فى آسيا والتى تمثل الوجهة الأولى للطلاب المسلمين فى هذه الدول. وتزداد أهمية الأزهر فى هذا المجال على خلفية تلقى عدد من قيادات الإسلام السياسى فى هذه الدول تعليمها الجامعى فى مؤسسات دينية أخرى فى العالم العربى والشرق الأوسط، الأمر الذى يعظم مكانة الأزهر لدى الحكومات والمجتمعات الآسيوية كوجهة لتوسيع نطاق الفكر الوسطي. ثانيها، ما تمتلكه مصر من تجربة مهمة فى محاربة الإرهاب والتطرف الديني، وهى خبرة مهمة تحتاج إليها الكثير من الدول الآسيوية - الإسلامية وغير الإسلامية - بالنظر إلى ما تواجهه بعض الدول الآسيوية من خطر ظهور تنظيمات متشددة، خاصة دول جنوب شرقى آسيا بالإضافة إلى الصين. ولاشك أن الرابط الديني - وما يتضمنه من أوراق مهمة يمكن توظيفها فى هذا المجال - يمثل مقوما مهما لبناء سياسة مصرية للتوجه شرقا، لكن يجدر الإشارة هنا إلى أنه يجب استخدام هذه الورقة بحذر. فمن ناحية، فإن القوى الآسيوية الأكبر (الصين، والهند، واليابان) هى قوى غير إسلامية. ومن ناحية أخرى، فإن دول المنطقة لديها حساسية شديدة فيما يتعلق بمسألة التدخل فى الشئون الداخلية، الأمر الذى يستوجب وضع ضوابط شديدة فيما يتعلق بالعلاقة مع الأقليات الإسلامية، سواء من خلال الأزهر أو فيما يتعلق بتطوير مواقف سياسية محددة إزاء ببعض الممارسات التى تتعرض لها الأقليات المسلمة من وقت لآخر فى بعض الدول. ويعنى ذلك أن أى سياسية مصرية تستند إلى الدين يجب أن تمر من خلال الحكومات الرسمية وفى إطار تنسيق كامل معها. المقوم المهم التالى هو التوافق السياسى المصرى مع مواقف القوى الآسيوية الصاعدة، وعلى رأسها الصين، فيما يتعلق بأهمية الحفاظ على المبادئ التقليدية الأساسية التى قام عليها النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها المفهوم التقليدى للسيادة، ورفض الأسس والأشكال الحديثة التى طورتها الولاياتالمتحدة والدول الغربية للتدخل العسكرى الداخلي، سواء لدوافع إنسانية أو بهدف نشر الديمقراطية. وتأخذ الصين مدى أبعد فى هذا الإطار، إذ ترى أن الانتهاكات الداخلية لحقوق الإنسان، بما فى ذلك حالات الإبادة الجماعية، لا تؤسس لحق المجتمع الدولى لانتهاك مفهوم السيادة أو التدخل فى الشئون الداخلية. وينطبق التكييف ذاته على فكرة الدفاع عن النفس، فبينما باتت الولاياتالمتحدة تتبنى مفهوما موسعا ل «المصلحة الوطنية»، أدى بدوره إلى توسيع مفهوم حق الدفاع عن النفس، لمازالت الصين تؤكد ضرورة تضييق الحق فى استخدام القوة المسلحة على حالات انتهاك السيادة أو وجود اعتداء مباشر ومحدد على أراضى الدولة، وهو ما يعنى رفض الصين فكرة استخدام القوة خارج الحدود الإقليمية للدولة. أكثر من ذلك فقد سعت الصين منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى إلى إدخال بعض التعديلات على مفهوم السيادة بمعناه التقليدى الوارد فى ميثاق الأممالمتحدة؛ فبدلا من مفهوم «عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى» « non-interference in other's internal affairs»، روجت الصين لمفهوم «عدم التدخل المتبادل فى الشئون الداخلى «non- interference in each other's internal affairs»، وذلك بهدف التأكيد على انسحاب مبدأ عدم التدخل على العلاقات الثنائية بين الدول، وليس فقط تدخل الأممالمتحدة فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء على نحو ما يشير إليه نص المادة (2) فقرة(7) من ميثاق الأممالمتحدة. وتأتى أهمية الحفاظ على مبدأ السيادة بهذا المعنى التقليدى وعدم التدخل فى الشئون الداخلية أنه يوفر أساسا لتضييق حرية حركة القوى المهيمنة - سياسيا وعسكريا - على النظام الدولى الراهن، وتحديدا الولاياتالمتحدة والناتو. كما يوفر، من ناحية ثانية، أساسا لرفض محاولات القوى الغربية التوظيف الداخلى للفاعلين المحليين لخدمة المصالح الغربية وإعاقة المشروعات الوطنية للتحول وعمليات الصعود الجارية فى العديد من الدول النامية، ومنها الصين ومصر. الإصلاح الممنهج ويرتبط بهذه المسألة أيضا «النظرية الصينية» فى الانفتاح السياسى والاقتصادي، التى قامت على الإصلاح التدريجى الممنهج، مع أولوية الانفتاح الاقتصادى على نظيره السياسي، وهى النظرية التى تطورت على خلفية خبرة انهيار الاتحاد السوفيتى الناتجة عن تجربة الإصلاح بالصدمة. وانطلاقا من هذه النظرية يمكن تفسير السياسة الصينية إزاء خبرة الثورات العربية بشكل عام، والثورة السورية بشكل خاص. فقد قام الموقف الصينى على أن سقوط الأسد سيقود إلى حرب أهلية، وربما تقسيم سوريا، كما سيقود إلى انتشار الإسلاميين الجهاديين، وهو ما يفسر أيضا التمسك الصينى برفض أى مشروع قرار داخل المجلس الأمن يسمح باستخدام القوة المسلحة ضد النظام السوري، وهو موقف لا يقوم على رفض حق الشعب السورى فى الحرية والانفتاح بقدر ما يقوم على قناعة صينية بأهمية الحفاظ على الدولة السورية، وأنه عندما تتعارض تداعيات التوسع فى الحريات السياسية مع بقاء الدولة تكون الأولوية للحفاظ على الدولة. وهكذا، فإن هذا الموقف الصيني، سواء فيما يتعلق بأهمية الحفاظ على المبادى والمفاهيم التقليدية التى قام عليها النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، أو فيما يتعلق بأولويات التحول السياسى والاقتصادي، أو أولوية الحفاظ على الدولة، يمكن أن تمثل أساسا مهما لتفاهم مصري- صينى حول النظام العالمى وقضايا الشرق الأوسط. أضف إلى الموقف الصينى من قضية الصراع العربي- الإسرائيلى والقضية الفلسطينية. وقد تعمق هذا التوافق بعد ثورة يونيو 2013. خطاب مصرى جديد لكن تجد الإشارة هنا أن بناء تفاهم مصري- صيني، أو مصري- آسيوى بشكل عام، يتطلب على الجانب الآخر تطوير خطاب مصرى واضح تجاه القضايا والتفاعلات والتوازنات الدولية الجديدة، والتى أضحت القوى الآسيوية أطرافا وفاعلين رئيسيين فيها. لقد ساد اعتقاد خلال العقد الأخير بغلبة الاقتصاد والتجارة على التفاعلات الإقليمية البينية، والخارجية، للدول الآسيوية، وهو اعتقاد كان صحيحا استنادا إلى طبيعة التجارب التنموية لاقتصادات هذه الدول، ما خلق فرصا لتفاعل دول العالم الخارجى (بما فى ذلك مصر) مع الدول الآسيوية فى مجالات التجارة والاستثمار ومحاولة الاستفادة من إمكاناتها الاقتصادية دون أن يفرض ذلك الحاجة إلى تطوير خطاب محدد إزاء القضايا السياسية والأمنية الآسيوية. لكن هذا التوجه قد يصعب استمراره مستقبلا فى ضوء تغير نمط العلاقة بين القوى الآسيوية الصاعدة والنظام الدولي، واتجاه الولاياتالمتحدة إلى تكثيف حضورها السياسى والأمنى فى آسيا - المحيط الهادي، وتطوير خطاب أمريكى جديد بشأن الصراعات القائمة فى المنطقة، ودخولها فى حالة قريبة من سباق التسلح.ضف إلى ذلك انتقال حالة الاستقطاب الأمريكي- الصيني/ الروسى إلى منطقة الشرق الأوسط، وبشأن قضايا عربية (سوريا). ومن ثم، قد يصبح على باقى دول العالم خارج المحيط الآسيوى حسم خياراتها قريبا، وما لم يتم تطوير خطاب مصري - عربى محدد ومتسق إزاء القضايا والصراعات الأمنية فى آسيا سيكون من الصعب تطوير سياسة حقيقية للتوجه شرقا. فضلا عن ذلك، فإن الحديث عن شراكة أو شراكات حقيقية بالمعنى الإستراتيجى لمصر مع القوى الآسيوية لا يمكن أن تستند إلى المكون الاقتصادى والتجارى بمفرده وإغفال المكونات والأسس الأخرى خارج هذا المكون.