تتجاوز أهمية مصر بالنسبة للصين مجرد المصالح الثنائية المشتركة، الاقتصادية والتجارية، لتتعلق بدرجة أهم بالمصالح الصينية في إقليم الشرق الأوسط، وهو ما يفسر تواتر تركيز الدبلوماسية الصينية على الدور المهم لمصر باعتبارها ركيزة أساسية لاستقرار وأمن الإقليم. وقد تزايدت هذه الأهمية مع تزايد الاهتمام والحضور الصيني في الإقليم، والذي بات يأخذ أشكالا وأنماطا أكثر وضوحا وتعددا. وفي ظل لحظات التحول والانتقال المهمة، التي تمر بها كل من مصر والصين، أو التي يمر بها إقليم الشرق الأوسط والنظام العالمي الراهن، تتعاظم الأهمية النسبية للأدوار الإقليمية، وتتوسع فرص الشراكات الإستراتيجية. ومن ثم، فقد يكون من الضروري هنا التركيز على المصالح الصينية لدى مصر خارج المصالح الثنائية المباشرة بين البلدين، والتي ترتبط بالاتجاهات العامة للتحولات الرئيسة والمتوقعة في إقليم الشرق الأوسط، في ظل حالة السيولة النسبية التي يمر بها النظام العالمي. ومن ثم، فإن ما يطرحه المقال هنا لا يتعلق بمصالح صينية محددة لدى القاهرة كما تعكسها وثائق الدبلوماسية الصينية، بقدر ما يعبر عن رؤية مصرية لما تحتاجه بكين من القاهرة، أو ما يمكن أن تقدمه القاهرةلبكين في إطار شراكة إستراتيجية بعيدة المدى بين البلدين. استقرار إقليم الشرق الأوسط لقد أصبح استقرار الشرق الأوسط أكثر أهمية بالنسبة للصين من أى وقت مضى، لأكثر من سبب. فمن ناحية، فإن هذا الاستقرار بات يمثل شرطا ضروريا للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادى المستدامة فى الصين. فرغم أن الطلب الداخلى لايزال يمثل أحد أهم مصادر نمو الاقتصاد الصيني، إلا أن الطلب الخارجي، ممثلا فى الواردات الخارجية من الصين، لايزال يمثل المصدر الأهم لهذا النمو واستدامته، كما لايزال الشرق الأوسط يمثل أحد المصادر الأساسية لهذا الطلب. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاستقرار يمثل شرطا ضروريا آخر لاستقرار تدفق النفط ومصادر الطاقة إلى الصين، ليس لضمان النمو الاقتصادى فى حد ذاته، ولكن لتأمين الشروط اللازمة لاستمرار مشروع الصعود الاقتصادى والعسكرى الصيني. وتدرك الصين بشكل جيد محورية الدور المصرى فى ضمان استقرار إقليم الشرق الأوسط. لكن هذا الإدراك لابد أن يستتبعه تفاهم صيني- مصرى مشترك؛ حول شروط هذا الاستقرار، بدءا من العلاقة بين الإقليم والنظام العالمي، وحدود وأشكال التدخل الدولى فى الإقليم وأزماته المتتالية. ويمكن التأكيد هنا على ملاحظتين مهمتين. الأولى أن هناك حاجة إلى دور صينى أكثر قوة ووضوحا فى الإقليم. والثانية هى استناد هذا الدور لتفاهم مصري - صينى واضح. فرغم أن الدور الصينى فى الأزمات الإقليمية الراهنة بات أكثر وضوحا بالمقارنة بأزمات سابقة، إلا أنه لايزال يحتاج إلى مزيد من القوة والوضوح، ورغم الدور الصينى المهم فى تحجيم التدخل الدولي، خاصة العسكري، فى الأزمة السورية الراهنة، على سبيل المثال، إلا أن هذه السياسة الصينية كان يجب أن تكون جزءا من تفاهمات صينية - مصرية (وعربية). فقد كشفت الأزمة إما عن غياب هذا التنسيق، أو تناقض المواقف الصينية مع مواقف دول عربية عدة كانت تسعى إلى تسريع عملية التدخل العسكرى الدولي، مما عرض السياسة الصينية إلى الكثير من النقد. أضف إلى ذلك أهمية التفاهم المصري - الصينى حول حجم التعاون العسكرى الصينى مع إسرائيل وتأثير ذلك على استقرار الإقليم. تدشين انتقال النظام العالمي هناك جدل مهم داخل الأدبيات المعنية بمستقبل الصعود الصينى وتأثيره على النظام العالمى خلال العقد القادم. ودون التقليل من أهمية التيار الذى لايزال يرى أن الصعود الصينى لن يقود إلى تغيرات جذرية فى هيكل النظام العالمي، وأنه لن يشكل تحديا للهيمنة الأمريكية على هذا النظام، لكن لا يمكن إغفال أن الصين تمر بعملية انتقال وتحول عميقة، على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والعسكرية، ولا يمكن إغفال التأثيرات المتوقعة لهذه التحولات على موازين القوى العالمية والتى تمثل المدخل الأهم لإعادة هيكلة النظام العالمي، وهى تحولات تتزامن بدورها مع إعادة هيكلة جارية بالفعل للشبكات والمؤسسات المسئولة عن إدارة التفاعلات الرئيسة داخل هذا النظام. ومن ثم، فإن الأمر لا يتعلق باحتمالات حدوث هذا التحول من عدمه، بقدر ما يتعلق بتوقيت حدوث هذا الانتقال، وطبيعة وشكل أو ملامح النظام العالمى الجديد، وطبيعة سياساته وأجندة قضاياه الرئيسة، وأنماط واتجاهات التفاعلات الدولية داخل هذا النظام. وانطلاقا من هذا الافتراض، فإن توقيت حدوث هذا الانتقال سيعطى أهمية خاصة لأقاليم بعينها فى لحظات الانتقال وبعض الدول الفاعلة داخل هذه الأقاليم. وبالعودة إلى خبرات الانتقال فى النظام العالمي، يلاحظ أن إقليم الشرق الأوسط حظى بالدور الأكبر فى تدشين عمليات الانتقال تلك خلال القرن الأخير. فقد كانت أزمة السويس سنة 1956 كاشفة عن أفول القوى الأوروبيّة وتطوّر نظام القطبية الثنائية الذى سيطرت عليه الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتي. كما كانت الأزمة العراقية- الكويتية وما تبعها فى سنة 1991 كاشفة عن عمق التغيّر الذى حدث فى هيكل النظام العالمى وتوزيع القدرات النسبيّة خاصّةً بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، ومقرّرة لتحوّل النظام العالمى من نظام الثنائيّة القطبية إلى نظام أحادى القطبية. وقد ذهبت تحليلات عديدة إلى اعتبار الأزمة السورية الراهنة هى حلقة مهمة فى سلسلة الأزمات الإقليمية التى ستشكف فى النهاية عن الانتقال المتوقع فى هيكل النظام العالمى الراهن ( بجانب أزمة الحرب الروسيّة- الجورجيّة فى أغسطس 2008، ثم الأزمة الأوكرانية سنة 2014) فى اتجاه تطور نظام متعدد الأقطاب بقيادة الولايات المتّحدة، وروسيا، والصين، بالأساس، إلى جانب الاتحاد الأوروبي. غير أنّ عملية التحوّل تلك لا تزال بطيئة نسبيا. ويعنى ذلك، أن الصين ستظل فى حاجة إلى الدولة الرئيسة فى الإقليم (مصر) لتدشين عملية الانتقال المتوقعة، من خلال الانحياز لصالح هذا الانتقال. فكما كان الدور المصرى المنحاز للتدخل الدولى ضد العراق فى بداية التسعينيات عاملا مهما فى تدشين هذا الانتقال، فإن هذا الدور سيكون مهما بالتأكيد أثناء الانتقال المتوقع. ويمكن تلمس هذا الانحياز المصرى فى المرحلة الراهنة من خلال الرفض المصرى الواضح للتدخل العسكرى الدولى فى سوريا - كما هو الموقف الصيني- بصرف النظر عن الموقف الأخلاقى من سياسات نظام بشار الأسد؛ إذ كان من شأن هذا التدخل- حال حدوثه - تكريس هيمنة الولاياتالمتحدة. محاربة الإرهاب والعنف الديني كان لبدء موجة الربيع العربي، والتى ارتبطت تداعياتها الأولى بصعود القوى الإسلامية فى المنطقة تأثيره على الأقلية المسلمة فى الصين فى اتجاهين. الأول هو تعزيز مفهوم «الأمة الإسلامية» الذى شكل أحد الركائز أو المنطلقات الفكرية لحركات الإسلام السياسي، وتطور إدراك بأن وصول الإسلاميّين إلى السلطة فى الدول العربيّة على انقاض أنظمة سياسية «علمانيّة» (أو «كافرة» وفق بعض حركات الإسلام السياسي) هو مؤشّر لصحوة إسلاميّة فى العالم ومقدمة لدولة «الخلافة»؛ ما دفع الأقلية المسلمة فى الصين وحركة «تركستان الشرقية» بشينجيانغ، إلى سرعة التحرك باعتبارهم جزءا من هذا الاتجاه الصعودى للقوى الإسلامية. الثاني، هو ما شكله هذا الصعود من حافز لإسلاميى شينجيانغ لتشكيل «دولتهم»، أو على الأقل تأكيد هويتهم الإسلامية، وهو ما يفسر تصاعد أنشطة «حركة تركستان الشرقية»، وتورطها فى عدد من العمليات الإرهابية داخل الصين. وقد تعزز هذا التوجه فى ظل ما ارتبط بتلك المرحلة من تحول متوقّع فى موازين القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط، فى اتجاه صعود الدور التركي، وما استتبعه من نموّ المشاعر القوميّة التركية وامتدادها إلى إقليم «تركستان الشرقية»، خاصة فى ظل الدعم التركى لهذه الحركة، وتقديم الدعم اللوجيستى لها (غض طرف الحكومة التركية عن أنشطة الحركة داخل الأراضى التركية، وهو ما دفع الحركة إلى تنظيم العديد من مؤتمراتها السنوية فى تركيا، كان أبرزها «المؤتمر الوطنى لنوّاب تركستان الشرقية» فى ديسمبر 1992، والذى جرى فيه إقرارُ اسمِ دولة كردستان الشرقية وعلمِها ونشيدها الوطنيّين). وهكذا، يمكن الحديث هنا عن مصلحة صينية مهمة لدى مصر يمكن تحديدها فى ثلاثة اتجاهات رئيسة. الأول هو توسيع الدور المصري، عبر الأزهر الشريف، فى مجال مواجهة الأفكار الدينية المتشددة. وهو دور يمكن تعزيزه من خلال التوسع فى بعثات الأزهر الشريف داخل الأقلية المسلمة هناك، ليس فقط لترويج الفكر الإسلامى المعتدل والمستنير وحصار الأفكار المتشددة، ولكن أيضا لتحديد السقف الشرعى لمسئولية الأقلية المسلمة داخل دولتهم الوطنية غير المسلمة. وبمعنى أدق، توضيح ما إذا كان وضعهم كأقلية يفرض عليهم الخروج عن هذه الدولة بواقعها السياسى والثقافى والاجتماعى القائم، أم الاندماج فى مجتمعاتهم، وحدود هذا الاندماج، ونمط علاقاتهم بالقوميات وأتباع الديانات الأخرى أو اللادينيين. الاتجاه الثاني، يتمثل فى استمرار التمييز الواضح لدى الدولة المصرية وصانع السياسة الخارجية، بين العلاقة مع الصين كدولة، من ناحية، والاعتبارات الأخلاقية والدينية فى الاهتمام بأوضاع الأقلية المسلمة. هذا التمييز الذى درجت عليه الدولة المصرية سيكون هناك مصلحة قوية لدى الصين فى الحفاظ عليه واستمراره باعتباره واحدا من تقاليد العلاقات المصرية- الصينية، من ناحية، وأحد ثوابت السياسة الخارجية الصينية تجاه قضاياها الداخلية، من ناحية أخرى. الاتجاه الثالث، والذى يحتاج إلى اهتمام من جانب الحكومة الصينية الصديقة، هو ضرورة إيمان الصين بوجود علاقة ارتباط قوية بين مصالحها الوطنية، بما فى ذلك القضاء على الإرهاب والفكر الدينى العنيف، وبناء دولة قوية فى مصر، تستند إلى مفهوم الدولة الوطنية. إذ تشير خبرة صعود التيارات الإسلامية فى مصر وفى المنطقة بعد الثورات العربية، إلى وجود علاقة قوية بين صعود هذه القوى من ناحية، وانتشار العنف الديني، من ناحية أخرى. والواقع أن الصين لم تكن بمعزل عن هذ التأثير، بل إنها لم تكن بمعزل عن عمليات التصنيف التى أجراها بعض قيادات هذا التيار والمحسوبين على الإخوان المسلمين، والذى وصف الصين بأنها «عدو الأمة الإسلامية» وطالب الحجاج بالدعاء عليهم، وذلك على خلفية موقف الصين من الأزمة السورية، وهو ما يؤكد مرة أخرى، وبشكل مباشر، أن صعود القوى الإسلامية فى المنطقة، وفى مصر بشكل خاص، لا يخدم المصالح الوطنية العليا للصين، ويظل وجود دولة وطنية تميز بين الدين والسياسة هو النموذج الأكثر توافقا مع المصالح الصينية، الداخلية أو الخارجية. السياسات الناعمة مازالت الصين لا تعطى الاهتمام الذى تعطيه الولاياتالمتحدة والغرب للسياسات والأدوات الناعمة. لكن ليس من المتوقع استمرار هذا الوضع طويلا، خاصة مع استمرار الصعود الصيني. ويمكن الإشارة هنا إلى عدد من الأدوار المصرية المهمة فى هذا المجال، بدءا من التكريس والترويج للمفهوم الصينى فى التحول والإصلاح، الذى يقوم على أولوية الإصلاح التدريجى على الإصلاح المفاجئ أو الإصلاح بالصدمة، وأولوية التحول والانتقال الاقتصادى على التحول والانتقال السياسي، أو بمعنى آخر الأخذ بنظرية الانتقال القائمة على إدارة الانتقال السياسى والاقتصادى بمعدلين متفاوتين، مع أولوية الثانى على الأول. وحقيقة الأمر، لا يوجد فى هذا المجال تفاوت كبير بين القاهرةوبكين، فقد أثبتت تجربة ثورتى يناير 2011، ويونيو 2013 أهمية انجاز عملية التنمية قبل اكتمال عملية التحول الديمقراطي، أو على الأقل خطورة اختزال عملية الانتقال- عبر الثورة - فى الانتقال السياسى فقط. ويرتبط بهذه النقطة وجود مصلحة صينية أيضا فى الترويج للنموذج الصينى فى التنمية المرتكز بالأساس على دور الدولة فى إدارة ليس فقط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولكن فى إدارة عملية الانتقال السياسى والديمقراطى انطلاقا من أجندة داخلية وطنية، ووفقا للظروف الداخلية. وهنا يمكن التأكيد مرة ثانية أن هناك توافقا كبيرا بين الجانبين على تلك الأسس، وهو ما أكدته أيضا تجربة ثورة يونيو، التى مثلت فى جوهرها نزوعا مجتمعيا للحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وإعادة الاعتبار لدورها فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى دونما تهميش أو إقصاء للقطاع الخاص.