الآن - "نيسان صني 2024" تكنولوجيا القيادة اليابانية على أرض مصرية    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    القنوات الناقلة لمباراة الهلال والاتحاد في نصف نهائي كأس الملك والمعلقين    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    تراجع أسعار النفط مع تكثيف جهود الوصول إلى هدنة في غزة    مجلس الدولة يلزم الأبنية التعليمية بسداد مقابل انتفاع بأراضي المدارس    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    فيديو| مقتل 3 أفراد شرطة في ولاية أمريكية خلال تنفيذ مذكرة توقيف مطلوب    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    ولي العهد السعودي وبلينكن يبحثان التطورات في قطاع غزة    قتلى وجرحى إثر غارات جوية روسية على أوديسا وخاركيف    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    مؤسس صفحة «أطفال مفقودة» يكشف تفاصيل العثور على توأم كفر الزيات بعد 32 عامًا (فيديو)    وجد جثمانها في مقلب قمامة.. قصة طفلة سودانية شغلت الرأى العام    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    أشرف زكى: "هناك نهضة فنية فى معظم الدول العربية لكن لا يزال الفن المصرى راسخًا فى وجدان الأجيال"    رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم يشهد الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    «جامعة القناة» تُطلق قافلة طبية لحي الجناين بمحافظة السويس    ندى ثابت: مركز البيانات والحوسبة يعزز جهود الدولة في التحول الرقمي    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. انهيارات جليدية وأرضية إثر أمطار غزيرة شمالي الهند.. عائلات الأسرى لنتنياهو: لقد سئمنا.. شهداء وجرحى فى غارات إسرائيلية على غزة والنصيرات بقطاع غزة    النيابة تنتدب المعمل الجنائي لبيان سبب حريق شب داخل مطعم مأكولات سوري شهير بالمعادي    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    كوافيرة لمدة 20 سنة حتى الوصول لمديرة إقليمية بأمازون.. شيرين بدر تكشف التفاصيل    «المقاطعة تنجح».. محمد غريب: سعر السمك انخفض 10% ببورسعيد (فيديو)    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    مصدران: محققون من المحكمة الجنائية الدولية حصلوا على شهادات من طواقم طبية بغزة    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ما رد وزارة الصحة على اعتراف أسترازينيكا بتسبب اللقاح في جلطات؟    تعيين إمام محمدين رئيسًا لقطاع الناشئين بنادي مودرن فيوتشر    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    درجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 30/4/2024 في مصر    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    بالرابط، خطوات الاستعلام عن موعد الاختبار الإلكتروني لوظائف مصلحة الخبراء بوزارة العدل    خالد الجندي: هذه أكبر نعمة يقابلها العبد من رحمة الله -(فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نبض شعب:
قناة السويس..الحلم والتاريخ والمشروع
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 08 - 2015

كان التيار الرئيسى main stream فى الرأى العام المصرى خلال الحقبة الناصرية يرى ضرورة أن تكون "قناة السويس لنا" – أى للمصريين فقط-، وهو ما ذهبت إليه إدارة التعبئة العامة التى انشأها الرئيس جمال عبدالناصر فى عام 1954 حينما طلب منها إعداد دراسة موثقة حول تاريخ قناة السويس وعملها وإدارتها والعاملين فيها.
لاسيما أن النسق العقيدى للرئيس خلال تلك المرحلة اتجه للربط بين استكمال استقلال البلاد واستعادة مصر للقناة، باعتبارهما هدفان لا ينفصلان، لأن مصر كدولة مستقلة لا يمكنها أن تتسامح مع وجود إدارة أجنبية تمارس سلطة مستقلة على أراضيها، وهو ما أكده الرئيس عبدالناصر أثناء لقائه الرئيس اليوجوسلافى تيتو فى 5 فبراير 1955. وبذلك، يكون تاريخ 23 يوليو 1956 واحدا من التواريخ التى لا تنسى بالنسبة للمصريين مثلها مثل بناء السد العالى وحرب 1973 واستعادة سيناء.
وهنا، كان قرار الرئيس عبدالناصر بتأميم القناة تجسيدا لحلم شعب ناهض وتاريخ أمة مقاومة ومشروع أجيال للتحرر، بعد عقود من احتلال الأرض واستنزاف الموارد وإزهاق الأرواح وإهدار الحقوق، حتى عادت الحقوق لأصحابها مرة أخرى. هذا ما انتهت إليه د.إيمان عامر أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة فى فصلها المعنون "قناة السويس: الحلم والتاريخ والمشروع" ضمن فصول كتاب "قناة السويس: التاريخ والمصير والوعد"، وهو إصدار تذكارى علمى تحليلى وثائقى تقدمه مؤسسة الأهرام لقارئها بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، وكتب التقديم له الأستاذ محمد حسنين هيكل وحرره الأستاذ أحمد السيد النجار الخبير الاقتصادى ورئيس مجلس إدارة الأهرام وشارك فى كتابة بقية فصوله د.عماد أبوغازى الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وأ.أحمد السماحى الكاتب الصحفى بالأهرام، وأ.سيد إبراهيم غبيش الذى قام بتجميع أكبر عدد من الوثائق الخاصة بالقناة.
وتنطلق د.إيمان عامر من تاريخ تطور العلاقات الدولية حينما سادت الرغبة الأوروبية فى التوسع خارج أراضيها فى إطار تنافس استعمارى للسيطرة على مقدرات شعوب والإتجار فى البشر بشكل قاس، وهو ما تجسد فى نظام السخرة بحيث بلغ أجر العامل فى اليوم 25 سنتيمًا، وهو مبلغ يقل عن القرش صاغ وكان هذا الأجر اليومى غذاءه وكساءه وأحيانًا كانت الشركة توزع على كل منهم رغيفًا واحدًا فى اليوم يخصم ثمنه من أجرته، فى الوقت الذى تكلف مشروع قناة السويس 287 مليون فرنك فرنسي، وهو ما أدى إلى تراكم الديون والخضوع للإمتيازات الأجنبية والوقوع تحت براثن الاحتلال، حتى جاءت ثورة 1952 وصححت الأوضاع المقلوبة بتأميم زعيمها لقناة السويس.
----------------------------------------------------------------------------------
ملخص الحلقة السابقة
ركزت حلقة "كفاح أمة: قناة السويس.. تاريخ من المغامرة" على قرار تأميم شركة قناة السويس، الذى لم يكن نهاية المطاف فى قصة مصر مع القناة، بل كان بداية لمرحلة جديدة من الكفاح دفاعًا عن القناة عاشهتا أجيال كاملة وما زلنا نعيشها إلى اليوم، كما لم يكن بالطبع بداية القصة فتاريخنا مع القناة طويل ممتد، وكله تاريخ من المغامرة والمقامرة، كان الشعب المصرى دائمًا بطلها.
-----------------------------------------------------------------------------------


تعد قصة حفر قناة السويس، تاريخ مصر السياسى والاقتصادى والاجتماعى منذ طرحت كأفكار ومشروعات. فقد كان حلم الوصول إلى الشرق هو الذى دفع بالموجات الاستعمارية خارج القارة الأوروبية، وكان برزخ السويس موقعًا عبقريًا جعل من مصر مطمعًا استعماريًا. وبأقل قدر من الضمير الإنسانى مضى فرديناند ديليسبس ومساعدوه من مختلف الجنسيات الأوروبية فى تنفيذ هذا المشروع على وجه لا يمكن أن يتصور الإنسان أشنع ولا أوجع منه. ونجح فى استصدار امتياز لحفر القناة. وكان ما عُرِّف ب«لائحة استخدام العمال المصريين» أقصى البنود قسوة فى تاريخ الشعب المصري، حيث لجأت الشركة إلى ما يسمى بمقاول الأنفار لجلب العمال إضافةً إلى استخدام الشباب المجندين فى العمل.
وقد حُفِرَت القناة فى بداية العمل بالمعاول والقفف قبل استخدام آلات الحفر وكانت هناك أماكن لتجمع العمال حيث يربطون بالحبال فى أيديهم فى صورة تُعيد للذاكرة قوافل العبيد الأفارقة الذين قامت أوروبا «المتحضرة» بانتزاعهم من أوطانهم ونقلهم إلى شواطئ غرب إفريقيا تمهيدًا لنقلهم إلى العالم الجديد للاتجار فيهم واستخدامهم كعبيد فى مختلف الأعمال وعلى رأسها الزراعة والبناء.
جريمة العصر
ولا ننسى كم من الآلاف قد مات من العمال المصريين عطشًا فى ساحات الحفر خاصةً فى السنوات الأربع الأولى، حيث بدأ حفر القناة قبل حفر الترعة العذبة واعتمدت على وسيلة بدائية هى ماء الآبار التى تنقلها الجمال وكم أدرك الموت من العمال قبل أن يدركهم ماء الآبار. إضافةً إلى اضطرار مصر إلى بيع حصتها فى الأسهم لانجلترا ونجاح المؤامرة البريطانية مع الاستعمارى الصهيونى روتشيلد فى الحصول على الأسهم بأربعة ملايين من الإسترلينى وكتب دزرائيلى إلى الملكة البريطانية قائلًا «الآن أصبح كل ما كان للخديوى لجلالتك».
ومنذ ذلك التاريخ إلى أن أُمِمَت شركة القناة فى يوليو 1956 انساب أكثر من مائة مليون جنيه فى خزائن الحكومة البريطانية قيمة أرباح أسهم مصر. وقد سبقت مأساة بيع الأسهم لانجلترا عدة مآسٍ مالية جسيمة أخرى تحملتها مصر، وكان من بينها التعويض المالى الضخم الذى حكم به نابليون الثالث إمبراطور فرنسا فى يوليو 1864 إثر النزاع الذى قام بين الشركة واسماعيل. وقد انتهز ديليسبس فرصة تحكيم نابليون وطالب بتعويضات خيالية بلغت 107 ملايين فرنك أى أكثر من نصف رأسمال الشركة. هذا بالإضافة إلى نفقات أخرى باهظة توزعت على الرشاوى والحملات الصحفية والاستشارات القانونية المؤيدة لوجهة النظر المصرية.
ولا نستطيع أن ننسى نفقات الاحتفال بافتتاح القناة ودعوة ملوك وعظماء أوروبا، حيث اعتبر اسماعيل أن الانتهاء من شق القناة هو أجلّ عمل شهدته الإنسانية فى ماضى الأيام وحاضرها.
وكانت الضغوط الدولية ونجاحها فى سحب البنك الدولى عرض إقراض مصر 200 مليون دولار لتمويل مشروع السد نموذجًا لاستخدام سلاح اقتصادى لتحقيق ضغط سياسى على مصر.
وقد اتخذ الرد الاستعمارى على تأميم شركة قناة السويس عدة صور: فعلى الصعيد الاقتصادى تم تجميد الأموال المصرية فى الخارج، وعلى الصعيد الدبلوماسى اتخذ صورة مؤتمرات دولية لعزل مصر سياسيًا، وعلى الصعيد العسكرى اتخذ صورة العدوان الثلاثى على بورسعيد الذى كشف عن التحالف غير المقدس بين الاستعمار والصهيونية فى جميع أشكاله السافرة والمُقنعة.
المشروع الحلم
ليس هناك قناة ملاحية فى العالم امتزجت فيها المياه بالدماء كقناة السويس، وليس هناك قناة ملاحية ارتبطت بالتاريخ العسكرى للبلد أكثر مما ارتبطت قناة السويس بالتاريخ العسكرى لمصر، وعندما نتوقف أمام قناة السويس فإننا لا نستطيع أن نتجاهل تاريخ الصراع الذى ارتبطت بها منذ أن كانت فكرة فى رءوس ملوك مصر القديمة الذين اصطلح على تسميتهم بالفراعنة إلى أن تحولت إلى واقع. ومرة أخرى كان مقدَّرًا أن تعود للحياة تحت راية الحكم العربى لمصر فى صدر الإسلام. ومرة أخرى يسرى النبض لتأخذ شكلها الحالى فى عصرنا الحديث ذلك العصر الذى أصبحت فيه القناة هى مفتاح الشرق والمعبر الذى يربط العالم الغربى بالشرق العربى وآسيا.
هذا الجسر الذى ربط الغرب بالشرق بكل الرموز والدلالات حلَّقت الأطماع حوله وانفجرت على شكل صراعات خارجية أخذت أشكالًا متعددة تبدأ بالمناورات وتنتهى بالحروب وتستمر المياه فى تدفقها بين البحرين الأحمر والمتوسط تحمل فى طياتها نبض شعب وكفاحه من أجل نيل حريته.
الجذور التاريخية لقناة السويس:
يسجل التاريخ أن مصر القديمة شقت أول قناة صناعية على وجه الأرض والتى ينسبها هيرودوت إلى «نيقوس» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين بينما يقول أرسطو واسترابون ومعهما بعض الإغريق بأن مُنشئ القناة هو سيزوستريس. والمقصود هنا هو الملك سونسرت الثالث من الدولة الوسطى التى قامت بأعظم مشروعات الرى والزراعة والبنية الأساسية. وذلك الملك هو ما ترجح المصادر التاريخية وغالبية علماء المصريات أنه من أنشأ تلك القناة لأول مرة. وتشير العديد من المصادر إلى تجديد القناة فى عهد الملك نخاو وابسماتيك فى العهد المتأخر للدولة المصرية القديمة.
وقد جرت القناة حينًا وتوقفت فى أحيان أخرى، وجددَّها عمرو بن العاص تنفيذًا لمشيئة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد فتح العرب لمصر عام 639. وظلت مصر وثيقة الصلة بغرب أوروبا لأنها تقع فى الطريق من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر فاحتكرت تجارة آسيا كلها حتى اليوم الذى قُدِّر فيه لفاسكو دى جاما أن يطوف حول رأس الرجاء الصالح فى سنة 1497 فتحولت تجارة أوروبا مع الهند إلى هذا الطريق.
وكانت الامتيازات التى حصلت عليها فرنسا فى سوريا ولبنان قد فرضت عليها الاهتمام بالتجارة عبر البحر الأحمر، وفى مذكرة رفعت إلى الكاردينال ريشيليو نصح كاتبها بأن تسعى فرنسا للحصول على حاصلات الشرق بطريق السويس وأضاف أنه بدلًا من نقل الحاصلات على ظهور الجمال من السويس إلى القاهرة فإنه يمكن شق قناة فى نفس المكان الذى كانت تجرى فيه القناة القديمة من السويس إلى القاهرة، ولكن هذا الاقتراح كان مجرد أمنية تداعب خيال فرنسا واضطر تجارها لاقتحام طريق الكاب نفسه منذ سنة 1664.
عندما تبنى تلك السياسة الوزير “كولبير” حتى أمر لويس الرابع عشر فى هذا العام بإنشاء شركة الهند الشرقية، ومن هنا وضع مشروع طريق السويس على مائدة البحث فكان من رأى كولبير أن تؤسس شركة أخرى تسمى “ليفان” لنقل البضائع بطريق البحر الأحمر.
وظلت فكرة القناة هى الشغل الشاغل للدبلوماسية الفرنسية طوال أيام لويس الرابع عشر، وفى نفس الوقت سعى تجار فرنسا المقيمون بمصر لايجاد رأى عام فرنسى يلح فى طلب شق قناة فى برزخ السويس حتى قام جاك سافاري، وهو أحد الاقتصاديين الفرنسيين، فى نهاية القرن السابع عشر بدراسة قارن فيها بين طريق السويس وطريق رأس الرجاء الصالح واقترح شق قناة تمتد من دمياط إلى السويس.
شريان الإمبراطورية
وصار مشروع القناة هو العمود الفقرى فى برنامج بونابرت الاستعمارى وكان هذا المشروع أنشودة رجال الثورة الفرنسية ومن قاموا بعدهم فى البرلمان الفرنسى يستحثون فرنسا ألا تدخر جهدًا لاحتلال مصر. وكان بونابرت قد استقدم إلى مصر فريقًا من العلماء والمهندسين الذين عهد إليهم القيام بدراسات فنية فى برزخ السويس للبحث عن أنجع الوسائل لايجاد ممر من هذا البرزخ يصله بالهند وكان يرأس هؤلاء المهندس ليبر الذى أوضح فى تقريرٍ له الأسباب التى حملت نابليون على التفكير الجدى فى شق قناة ببرزخ السويس. ولا شك أن بونابرت هو أول من لفت الانتباه إلى أهمية موقع مصر الاستراتيجى فى العالم أجمع حتى قيل من بعده "قل لى من يُسيطر على مصر، أقل لك من يُسيطر على العالم".
وقد طُردت فرنسا من مصر بعد مقاومة شعبية هائلة وثورتين شعبيتين على احتلالها خلال الأعوام الثلاثة التى جثمت فيها بصورة لصوصية على أنفاس مصر، وبعد معارك مع بريطانيا فى تنافسها الاستعمارى مع فرنسا. وبعد طرد فرنسا من مصر، حاولت بريطانيا غزو مصر بحملة إنجليزية (حملة فريزير) والتى شكلت حلقة من حلقات التنافس الاستعمارى الفرنسى الإنجليزي، الأمر الذى يظهر بوضوح خطورة ما انطوى عليه مشروع قناة السويس الذى أريد به استعمار الشرق الأقصى فكانت مصر هى الضحية لهذا الغرض بحكم موقعها الجغرافى الفذ والاستثنائي.
ثم جاءت محاولات عديدة لطرح فكرة حفر قناة فى عهد محمد عليَّ منها مشروع إيطالي، فقد تقدمت شركة إيطالية اسمها ليسيا. فقد كان اهتمام الإيطاليين بتجارة الشرق اهتمامًا منطقيًا نظرًا لاستحواذهم المبكر على تجارة الشرق قبل خروج الغرب فى موجات كشفية للوصول إلى تجارة الشرق، غير أن محمد عليَّ اشترط أن يتم حفر القناة على نفقته الخاصة لتصبح بأكملها له بعد ذلك.
جماعة السان سيمون
جذبت مصر أنظار جماعة السان سيمون الذين اتخذوا كلمة نابليون المأثورة شعارًا لهم وهى “عن طريق مصر وحدها يمكن أن تتلقى شعوب وسط إفريقيا النور والرفاهية”، وهكذا اعتبر السان سيمون شق قناة السويس أمرًا واجب التنفيذ وهو إشارة ودليل على السلام وهمزة الوصل بين البشر. ولذلك عقد الأب “انفتان” العزم على المجئ إلى مصر. وكتب عن شق القناة “نشق أحد الطرق الأوروبية الجديدة بين مصر العريقة ومملكة يهوذا صوب الهند والصين ولنضعن قدمًا على النيل وأخرى فى أورشليم، ولنمد يدنا اليمنى صوب مكة حتى تغطى ذراعنا اليسرى ردمًا، بينما ما زلنا نتكئ على باريس، السويس هى بؤرة حياتنا وكفاحنا هناك حيث يتم العمل الذى يترقبه العالم والذى نثبته من خلال قوتنا وشدة بأسنا".
وصل انفتان إلى مصر مع أتباعه فاستقبلهم القنصل الفرنسى ميمو ثم اتجه مع شارل لامبير وفورنيل لمقابلة محمد عليَّ فأعجبوا به خاصة وأنهم أدركوا أنه يقبض على زمام السلطة فى البلاد وأنه يستطيع توجيه مئات الآلاف من العمال لإتمام مشروع القناة التى يحلمون بها كما فعل من قبل عندما شق ترعة المحمودية والذى قدم انفتان خدماته لمحمد عليَّ وأبدى استعداده للمشاركة فى جميع المشروعات العمرانية فى البلاد. ثم قدم فورنيل ولامبير مذكرة فى 17 يناير 1834 يطالبان من محمد على الموافقة على مشروع القناة غير أنه رفض، كما أنه كان غير مبالٍ بإقامتهم فى مصر بعد أن طُردوا من فرنسا لغرابة مبادئهم خاصة وأن الدولة العثمانية أبعدتهم.
ورغم الإخفاق الذى مُنيَّت به بعثة سان سيمون فى مصر، إلا أن ذلك لم يقعدها عن المُضى فى محاولاتها ولكنها فى معظمها كانت محاولات لا تخرج عن نطاق الكتابة والتحرير مثل كتاب ميشيل شيتاليب فى مجلة العالمين فى يناير 1844، وقد وقع فى نفس الخطأ الذى وقع فيه ليبر من حيث اختلاف مستوى الماء فى البحرين.
ثم أسس انفتان جمعية الدراسات الخاصة بقناة السويس وذلك فى نوفمبر 1846 وانضم إليها أعضاء من مختلف الجنسيات منهم المهندس الإنجليزى سيتفنسون. وفى تلك الفترة كانت فكرة القناة تشق طريقها بقوة فى أوروبا مع تزايد الحاجة إليها لظروف الانقلاب الصناعى وتطور التجارة العالمية والحاجة إلى استيراد المواد الخام وتصدير المصنوعات وتسويقها. وكان مترنيخ مستشار النمسا من أكثر أنصار الفكرة بحكم إشرافه على السياسة النمساوية والإيطالية وكان يعتقد بأن تجارة الهند والصين يمكن جلبها عن طريق البحر الأحمر إلى البحر المتوسط بدلًا من الدوران حول رأس الرجاء الصالح.
مشروع القناة والصراع الاستعمارى العالمي
كانت القناة موضوعا للقوى الاستعمارية الأوروبية. ففى ليبزج بألمانيا تألفت عام 1845 جمعية عرفت باسم جمعية ليبزج لدراسة إمكانية حفر قناة فى مصر تسمح بمرور السفن من جميع الأحجام والمزايا التى سوف تترتب على ذلك. بل إن جمعية سان سيمون عهدت إلى أحد أعضائها واسمه المهندس بوردالو بالاشتراك مع لينان دى بلفون بمساحة برزخ السويس مرة أخرى وقبلت الحكومة المصرية ذلك بعد أن ضمت إليها بعض المهندسين المصريين وأثبتت الدراسة أن الفارق بين منسوبى المياه فى البحرين المتوسط والأحمر طفيف لا يكاد يذكر مما لا يدع مجالًا للشك فى وقوع المهندس لبير وزملائه فى خطأ جسيم عند قيامهم بعملية مسح البرزخ.
وعندما عرض قنصل فرنسا فى مصر بارو أوضح لمحمد على أنه إذا قُدِّر لمصر أن تصبح طريقًا عظيمًا بين أوروبا والهند فينبغى أن تخترق هذا الطريق قناة تمر منها دول أوروبا كلها وتديرها هذه الدول بطبيعة اشتراكها فيها وربما يكون ذلك خيرًا لها من بناء سكة حديدية تجعل المرور فى مصر احتكارًا لإنجلترا. ووجد محمد على فى ذلك سببًا أقوى لرفض المشروع عندما قال «لا أريد بسفورًا جديدًا فى مصر». ولا شك أن رفض محمد على للمشروع الذى رفضه قبله نخاو بأكثر من 2500 سنة جاء نتيجة لفكرة روجها الاستعمار آنذاك ومنها مقولة رينان عن مصر «أن بلادًا لها مثل هذه الأهمية لباقى العالم لا يمكن أن تكون مستقلة تمامًا من الوجهة السياسية».
ولا شك أن عرض مسيو بارو كان يسفر عن حقيقة أن الدول الأوروبية لا تريد أن تنفرد إنجلترا بمصر، بينما يُفهم من مساعى بالمرستون رئيس وزراء إنجلترا لإقناع محمد على بضخامة تكاليف القناة واستحالة شقها، أن الأخيرة كانت تعطل المشروع لحسابها. ويذكر «بارو» أن محمد عليَّ كان من الذكاء بحيث يعتمد على إنجلترا فى رفض مشروع القناة وفى المقابل يعتمد على فرنسا فى رفض مشروع السكك الحديدية.
تأثيرات عكسية
كما أن محمد عليَّ استطاع أن يستفيد إلى أقصى درجة من جماعة سان سيمون، فرغم أن جهود انفتان قد فشلت فى إقناع محمد على بمشروع قناة السويس مما اضطره إلى العودة إلى فرنسا. إلا أن كثيرًا من مقترحات انفتان أخذ بها محمد على خاصةً فى شئون التعليم. وبذلك يكون محمد على قد نجح فى توظيف المشروع المقترح لخدمة تجربة التحديث فى البلاد على الرغم من رفضه للمشروع برمته.
عقد امتياز حفر قناة السويس
انحدر فرديناند ديليسبس من أسرة جندت لخدمة الاستعمار الفرنسى فوالده ماثيو ديليسبس فى مقدمة من وضعوا نواة الاستعمار الفرنسى فى بلاد إفريقيا الشمالية. وقد عينه بونابرت قومسيرًا عامًا لفرنسا فى مصر قبل جلاء الحملة الفرنسية عنها. وبقى بعد جلاء الجند الفرنسيين يشغل وظيفة القنصل الفرنسى ووقف إلى جانب محمد عليّ إبان الحرب.
وبلغ من ثقته به أن أسند إليه رئاسة مجلس الصحة العامة الذى أنشئ عام 1834 لمقاومة وباء الطاعون والكوليرا اللذين ابتليت مصر بهما فى تلك الفترة. ولما كان فرديناند يشغل وظيفة نائب قنصل فرنسا للإسكندرية فقد أُتيح له أن يطلع على التقرير الخاص بحفر القناة والذى أعدته البعثة العلمية التى رافقت بونابرت إلى مصر، كما اطلع على أوراق لوبير الخاصة ببرزخ السويس، كما كان على مقربة من نشاط جماعة السان سيمون فاشتغل فكره بمشروع القناة منذ عام 1833 حتى 1852.
وطوال عهد عباس كان ديليسبس يكثف لقاءاته ودراساته فى أوروبا حول هذا المشروع ولكن ظل الأمل ضعيفًا فى تنفيذه لأن عباس استطاع أن يوصد باب التدخل الأجنبى حينما كانت الرأسمالية الأوروبية تزحف على مصر وبإنقضاء عهده انقلب الأمر رأسًا على عقب.
فقد نجح ديليسبس فى التأثير على محمد سعيد والى مصر فاستصدر منه امتياز لحفر القناة. وهنا يرى البعض أن سعيد منح امتياز القناة لينال تأييد أوروبا فيما كان يرجوه من حصر وراثة العرش فى أبنائه، ذلك أن فرمان 1841 كان يجعل الوراثة فى أكبر أفراد أسرة محمد عليّ، وكانت الأسرة مفككة متناحرة، كل منهم يطمع فى العرش ويجتهد فى أن تؤيده تركيا أو الدول الأوروبية.
اسطول الملوك المدعوون لحفل الافتتاح
وهكذا بدأ الخيال يتحول إلى حقيقة ويبرز إلى حيز الوجود المشروع الذى فشل أمامه ملوك أوروبا ودهاتها وساساتها. وفى مواجهة قناصل الدول تمت الموافقة على عقد يُخوِّل لفرديناند ديليسبس فى 30 نوفمبر 1854 تأسيس الشركة العالمية لقناة السويس للملاحة البحرية لتتولى على نفقتها توصيل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط وإدارة لمدة 99 سنة تبدأ من تاريخ افتتاح القناة، على أن تحصل الحكومة المصرية على حصة قدرها 15% من صافى إيراد القناة ويوزع الباقى على حملة الأسهم وحصص التأسيس.
وكانت شروط الامتياز الثانى تُلزِّم مصر بتقديم عشرين ألف عامل تحشدهم مصر للشركة بالتجنيد الإجباري، كما أنها تسمح للشركة بمد قناة عذبة تخرج من النيل عند القاهرة ويكون للشركة وحدها الحق فى استعمال القناة. وتمتلك الشركة بلا مقابل أرضًا عرضها كيلو متر على جانبى القناتين فى طولهما ولا تدفع للحكومة المصرية أموالًا إلا بعد مضى عشرة أعوام على إعدادها (سمى تفتيش الوادى). إضافة إلى أن الامتياز لم يمنح الحكومة المصرية حق بناء حصون على ضفتى القناة.
لصوصية استعمارية
ولا شك أن هذا الامتياز اشتمل على جميع العناصر اللازمة لايجاد مستعمرة فرنسية فى برزخ السويس، فللشركة حق نزع ملكية الأفراد لصالح المشروع وحق حفر وصيانة الترعة العذبة إضافة إلى حقها فى تقاضى رسوم من الفلاحين نظير حصولهم على الماء اللازم لرى أراضيهم وغير ذلك من الامتيازات المجحفة لحق مصر.
باختصار كان العقد نموذجًا للصوصية الاستعمارية الأوروبية، وتجسيدًا لنتائج الجهل والسذاجة اللتين كان عليهما سعيد الذى منح ما ليس حقًا له من عمال مصر وأرضها، إلى لص لا يستحقهما لاعتبارات الصداقة الشخصية بينهما!! وهذا الامتياز هو نموذج لتسفيه قيم الحكم لدى سعيد الذى يبدو قزمًا بائسًا بالمقارنة مع الأب المؤسس للأسرة العلوية ولمصر الحديثة محمد على باشا الكبير.
وأجمعت الآراء على أن الامتياز الأول قد تضمن الكثير من المنح السخية لشركة القناة فقد علق دى روشتى قنصل توسكانا فى مصر على الاميتاز فى تقرير إلى وزير خارجية فلورنسا بأن الامتياز منحة لديليسبس ولم يحدث مطلقًا أن ظفر أى شخص بمثل هذه المميزات العظيمة وبمثل هذا السخاء من أية حكومة كانت. ولا شك أن امتياز حفر القناة بهذه الصورة يعادل فى تأثيره الاستعمارى بالنسبة للمسألة المصرية غزو بونابرت قبل ذلك بأكثر من نصف قرن من الزمان.
وهكذا فتح سعيد للأجانب أبواب مصر فأخذت كل من إنجلترا وفرنسا منذ ذلك الوقت تستبق كلتاهما إلى الإكثار من مصالحها الاقتصادية والسياسية فى مصر، وكانت القناة رأس هذه المصالح تمهيدًا للتدخل فى شئونها والاستيلاء عليها. فالامتياز قد جعل من شركة قناة السوس شركة استعمارية من الطراز الأول، فهى لا تكتفى بممارسة وظيفتها وهى استغلال قناة السويس البحرية لمدة تسع وتسعين سنة، بل تمارس نشاطًا استعماريًا واسعًا على بقاع فسيحة فى الوجه البحرى ومنطقة برزخ السويس كلها.
أراضى منطقة الامتياز
لم يحدد عقد الامتياز مساحة الأراضى التى تتنازل الحكومة المصرية عنها لشركة القناة سواء الأراضى اللازمة لإنشاء القناة أو لترعة الماء العذب التى تخرج من النيل، أو للاستغلال الزراعي، وقد ترك أمر هذا التحديد غامضًا. واستخدمت فى العقد عبارة مرنة وردت فى الفقرة الأولى من المادة الثامنة جاء فيها «تلافيًا لكل صعوبة تتصل بالأراضى التى ستتنازل عنها الحكومة للشركة صاحبة الامتياز يضع المسيو لينان بك المهندس المنتدب من قبلنا لدى الشركة رسمًا يُبيِّن الأراضى الممنوحة سواء لإنشاء القناة البحرية وقناة التغذية المتفرعة من النيل أو للاستغلال الزراعى وفقًا لأحكام المادة السابعة». وكان لينان دى بلفون مهندسًا فى خدمة الحكومة المصرية ولكنه كان فرنسيًا قبل كل شىء، وضع نفسه فى خدمة مشروع القناة منذ حكم محمد عليّ وعاون الفرنسيين الذين قاموا بدراسات ميدانية عن برزخ السويس.
وهناك البند الحادى عشر والذى يُبيِّن الأراضى التى ستحصل عليها الشركة من خلال خريطة وهى بالطبع من تصميم ديليسبس وجماعته الذين صمموا على نهب التربة المصرية بغير حساب. كما أهدر هذا البند حقوق المصريين وحابى الشركة على حسابهم بصورة عجيبة.
أما البند الثانى عشر فهو أدهى وأمر فى إهدار حقوق الأفراد، أصحاب الأملاك الذين تنتزع من أيديهم ظلمًا وعدوانًا، وفى تركهم فى الغالب لرحمة الشركة فى تقدير التعويض، وكأن سكان تلك المنطقة من مصر قد فرض عليهم أن يتحملوا مصائب الاستعمار على يد فرديناند ديليسبس وبعدئذ الإنجليز أكثر مما فرض على باقى سكان مصر، ولله الأمر من قبل ومن بعد. فبمقتضى هذا البند «تسلم الحكومة المصرية للشركة الأراضى المملوكة للأفراد، والتى تكون هناك ضرروة لحيازتها من أجل تنفيذ الأعمال واستغلال الامتياز على أن تلتزم الشركة بأن تدفع لأصحاب هذه الأراضى التعويضات العادلة». وهكذا تقرر لشركة القناة مساحات شاسعة جدًا من الأراضى وأصبحت مالكة لأراضٍ مترامية الأطراف فى مديريتى القليوبية والشرقية ومنطقة القناة من شمالها إلى جنوبها.
كما أن البند الثالث عشر من الفرمان كان أمرًا عجيبًا، فقد جاء فيه «تعطى الحكومة المصرية للشركة صاحبة الامتياز ولطول مدة هذا الامتياز الحق فى استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال البناء والمحافظة على المبانى والمنشآت التابعة للمشروع من المناجم والمحاجر المملوكة للدولة وذلك بدون أن تدفع أية ضريبة أو رسم أو تعويض. وفضلًا عن ذلك فهى تعفى الشركة من جميع رسوم الجمارك ورسوم الدخول وغير ذلك مما يلزم لمصالحها».
ولا شك أن امتلاك الأراضى كان يمثل مسألة خطيرة بشكل كبير إذ يمكن للشركة من خلالها أن تستخدم جاليات فرنسية، وتتمتع الشركة بفضل نظام الامتيازات الأجنبية الذى كان قائمًا فى مصر آنذاك باستقلال فى التشريع والقضاء والإدارة وغير ذلك مما يتيح لها فى سهولة ويسر وبتأييد من باريس أن تبسط سلطاتها على هذه المساحات الشاسعة وهو أمر يؤدى حتمًا إلى قيام حكومة داخل الحكومة المصرية. وهو أمر غير مستبعد إذا ما نظرنا إلى الإمبراطورية البريطانية فى الهند والتى قامت على أكتاف التجار الذين اكتسبوا امتيازات تجارية وامتلكوا الأراضى حتى غدوا حكامًا للبلاد.
وأصبح من المنطقى أن تكون مسألة الأراضى التى حصلت عليها الشركة على رأس القائمة فى النزاع الذى نشب بين اسماعيل والشركة فى 1863 فقد طالب اسماعيل فى مذكرة بعثها مع وزيره نوبار إلى الباب العالى بضرورة إعادة الأطيان التى منحها سعيد للشركة إلى الحكومة المصرية وتحريم إقامة حصون واستحكامات حربية على شاطئ القناة حتى لا تخرج الشركة عن صفتها التجارية.
وهكذا كان تصميم اسماعيل على أن ينتزع من يد الشركة بأى ثمن الأراضى التى أخذتها نهبًا وكذلك الترعة العذبة حتى لا يترك شبهة قيام «دولة داخل الدولة» التى يحكمها. فقد صاح فى وجه ديليسبس «ليس ثمة من يؤمن بالقناة أكثر منى ولكنى أريد القناة لمصر ولا أريد أن تكون مصر للقناة».
"فرنسة مصر"
ولكن الحقيقة التاريخية التى لا يمكن مراجعتها هى أن سنوات حكم اسماعيل هى الفترة التى أخذ فيها النفوذ الأجنبى يتغلغل فى البلاد حتى انقلب هذا النفوذ إلى سيطرة مالية وسياسية كبيرة. كما أن فرنسا كان لها نفوذ أدبى ومعنوى بشكل كبير على اسماعيل ويرجع ذلك إلى نشأته الفرنسية وميله إلى تقليد الفرنسيين، إضافة إلى الصداقة التى نشأت بينه وبين الإمبراطور نابليون الثالث وإعجابه الشديد به ومحاكاته فى مظاهر الترف والأبهة التى أحاط نفسه بها ويقف دليلًا على ذلك قبوله تحكيم الإمبراطور نابليون الثالث فى النزاع بينه وبين شركة القناة.
وتمخضت جهود اسماعيل ووزيره نوبار عن الوصول إلى اتفاقية 30 يناير 1866 التى منحت الحكومة المصرية الحق فى استرداد ترعة المياه العذبة كما دفع اسماعيل تعويضًا جسيمًا ليلغى لبند الذى يجيز للشركة بيع الماء اللازم لرى أراضى الفلاحين المصريين.
أما الأراضى التى منحها سعيد للشركة والتى تمثل (تفتيش الوادي) وتبلغ عشرة آلاف هكتار أى حوالى أربع وعشرين ألفًا من الأفدنة، فقد حصلت عليها مصر طبقًا لنص الاتفاقية فى البند السادس «تبيع الشركة للحكومة المصرية تفتيش الوادى بالحالة التى هو عليها الآن وما يتبعه من مبانٍ وملحقات نظير ثمن قدره عشرة ملايين من الفرنكات». وهذه الصفقة تبين بجلاء أى مستوى من اللصوصية الاستعمارية كانت تواجهه مصر آنذاك.
التكاليف التى تحملتها مصر لحفر القناة ولصوصية بريطانيا وفرنسا
أنفقت مصر الكثير من الأموال على تنفيذ المشروع وتدعيم مركز الشركة المالى المتداعى آنذاك، فقد عجز ديليسبس عن بيع جميع أسهم الشركة حين طرحها للاكتتاب العام وبقى لديه أكثر من ربع مجموع عدد الأسهم على الرغم من أنه خصص لمصر بادئ ذى بدء 64 ألف سهم ثمنها 32 مليون فرنك. ولكنه عول على إخفاء الفشل الذى حصده وأعلن كذبًا أن رأس مال الشركة قد غطى بأكمله وأن الشركة تبعًا لذلك قد استكملت عناصر وجودها وألفت الشركة نهائيًا فى 15 ديسمبر 1858.
وكان هذا انتهاكًا لقانون الشركة إذ نصت المادة الرابعة على أن تأليف الشركة لا يتم إلا بعد تغطية رأس المال بأكمله، وملأت الشائعات أوربا بأنه بقى فى حوزة الشركة عدد كبير من الأسهم دون بيع بسبب امتناع إنجلترا والنمسا بوجهٍ خاص عن الاكتتاب فى أسهم الشركة. واضطر ديليسبس إلى تبرير ذلك بأسباب عسكرية وحربية حيث أدى اندلاع الحرب فى أوربا فى مستهل عام 1859 إلى نشوء حالة اضطراب فى العلاقات المالية مع كثير من أصحاب المصارف الذين توقفوا عن الدفع.
وعرض على سعيد ابتياع الأسهم المتبقية لدى الشركة فوافق وأصبح بذلك مجموع الأسهم التى فُرِضَّت على مصر 177642 سهمًا قيمتها الإسمية وقت الاكتتاب 88.821.000 فرنك أى ما يقرب من 3552840 جنيهًا. وكان عدد الأسهم يوازى 44% من قيمة رأس مال الشركة وأصبحت مصر ثانى بلد فى العالم بعد فرنسا من حيث ملكيتها لعدد الأسهم. واستمر ضغط ديليسبس على سعيد حتى استطاع أن يستصدر منه اتفاقًا بهذه الصفقة فى 6 أغسطس 1860 وكان هذا الاتفاق هو بدء التزامات مصر المالية نحو شركة القناة.
ويبدو أن أطماع المقاولين الفرنسيين كانت من أسباب الحاجة الشديدة إلى الأموال حتى أن “بوريل ولافاليه” رفعا قضية على الشركة فى باريس للمطالبة بستة ملايين فرنك. كما أن مطالبات العمال الأوروبيين وتوقفهم عن العمل ليكرهوا الشركة على دفع أجور مضاعفة كان من أهم أسباب متاعبها المالية. كل هذا فى الوقت الذى اقتطع فيه ديليسبس لنفسه كرئيس مؤسس مبلغ يقدر ب1000000 فرنك يخصم من ميزانية الشركة.
ولم تنعم مصر بالأسهم التى اشترتها فقد احتدم الصراع بين الدولتين إنجلترا وفرنسا لأيهما تكون الغلبة؟ ففرنسا تعتبر نفسها المنفذة للمشروع وصاحبة الحول والطول، وإنجلترا تبحث عن وسيلة للسيطرة على هذا المرفأ الحيوى وجاءتها الفرصة سانحة عندما غرق الخديو اسماعيل فى ديونه واضطر إلى بيع أسهم القناة فتلقفت إنجلترا هذه الفرصة السانحة، واشترت نصيب مصر فى أسهم قناة السويس والتى تقدر ب 177.942 سهمًا قيمتها أربعة ملايين من الجنيهات. وقام رئيس وزراء إنجلترا دزرائيلى بدفع المبلغ عن طريق بنك روتشيلد بقرض للحكومة بفائدة قدرها 3% وقدمته بريطانيا لمصر بفائدة 5% وبذلك أصبحت بريطانيا المساهم الأول وأصبحت الحكومة البريطانية تمتلك نصف رأسمال الشركة تقريبًا.
صفقة سياسية
ولا شك أن المؤامرة البريطانية تبدو واضحة بالتعاون مع آل روتشيلد ففى مقال فى “التايمز” تلقى الضوء على تبرير عمل دزرائيلى “من المستحيل أن نفكر فى شراء أسهم قناة السويس منفصلًا عن علاقة انجلترا المستقبلية بها”. هذا هو جانب من الحق الصراح! شراء الأسهم مرتبط بالعلاقة القائمة والمستقبلية بين البلدين.
ووضع مجلس العموم البريطانى أمام الأمر الواقع وكان لهذه الصفقة طابعها السياسى بجانب طابعها المالي؛ واتضح بعد إبرام الصفقة أن مصر لم تكن تمتلك كل الأسهم التى اكتتب بها فى أول الأمر وأنها تصرفت فى 1040 سهمًا فخصم ثمنها من الصفقة وهبط المبلغ إلى 3.976.582 جنيهًا.
ومع ذلك، فإن الحكومة الإنجليزية قد استردت من الحكومة المصرية الجزء الأكبر من هذا المبلغ بطريقة ماكرة، إذ كان اسماعيل قد تنازل لشركة القناة طبقًا لاتفاقية 23 إبريل 1869 عن فوائد أسهم مصر لمدة خمسة وعشرين عامًا تنتهى فى 1894 فلما باعت مصر أسهمها لإنجلترا طلبت الأخيرة أن تدفع لها مصر فوائد بنسبة 5% من قيمة الثمن مقابل حرمان الحكومة الإنجليزية من أرباح الأسهم طوال هذه المدة.
وأذعنت الحكومة المصرية لهذا الطلب وأخذت تدفع لإنجلترا الفوائد المطلوبة سنويًا وقدر البعض أن مجموع الفوائد التى تسلمتها إنجلترا من مصر منذ أن تم عقد الصفقة حتى 1894 قد بلغ 3.833.484 جنيهًا فكأن مصر قد باعت أسهمها لإنجلترا بملبلغ 143.098 جنيهًا !!
ومنذ ذلك التاريخ إلى أن أُمِّمَت شركة القناة فى 26 يونيه 1956 انساب أكثر من مائة مليون جنيه فى خزائن الحكومة الإنجليزية قيمة أرباح أسهم مصر.
الصراع الدولى حول القناة
زاد الاهتمام الأوروبى بقناة السويس بصفة عامة، وبريطانيا بصفة خاصة، ويرجع ذلك إلى عدة أمور أهمها: ظهور نظام الصناعة الحديث فى أوربا والذى عرف بالانقلاب الصناعى ونتيجة لهذا بدأ احتياج دول غرب أوربا إلى المواد الخام اللازمة لهذه الصناعة والمتوافرة فى مستعمرات الشرق، كذلك رغبة دول غرب أوروبا فى إيجاد أسواق لتصريف منتجاتها الصناعية، فضلًا عن استثمار رءوس الأموال فيها بجانب الرغبة فى الهجرة نتيجة لمشكلات البطالة. وتمخض عن هذا اشتداد روح المنافسة بين دول غرب أوروبا، واتسم هذا التنافس فى بادئ الأمر بالطابع الاقتصادى وسرعان ما غلبت عليه النزعة الاستعمارية نتيجة للتيارات السياسية التى كانت تموج بها القارة الأوربية فى ذلك الوقت.
الرئيس عبدالناصر اثناء القاء خطاب التأميم

ولأن مصر تمتاز بموقع استراتيجى مهم، إذ هى ملتقى للقارات الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا، لذا تطلعت الدول الأوروبية إلى إحياء طريق التجارة القديم الذى كان يمر بالبحر الأحمر. وهكذا ارتبطت القناة بالتيارات العالمية فلم يقف الأمر عند مرور التجارة من الشمال إلى الجنوب ولكن يصاحب هذا ويسيره قوى اقتصادية عميقة، تتفاعل بها قوى سياسية تجرى فى أثر الاتجاهات الاقتصادية المختلفة. أى أن القناة تدل بوضوح عن تيارات اقتصادية وسياسية دولية.
وترسخت فكرة أن قناة السويس كانت هى السبب الرئيسى لاحتلال إنجلترا مصر عام 1882 وهى أيضا التى جعلتها ترسخ احتلالها للبلاد زهاء ثلاثة أرباع القرن، وإذا كانت قناة السويس هى أول منطقة ترسو فيها قوات الاحتلال الإنجليزي، فقد كانت هى آخر منطقة تجلو عنها القوات اللإنجليزية أيضًا: فقناة السويس هى المصلحة الحيوية لإنجلترا فى مصر منذ كانت تمثل الطريق إلى مستعمراتها فى الشرق وحتى أصبح اهتمامها الأول بالشرق الأوسط.
وجاء احتلال بريطانيا لمصر واستئثارها بالتحكم فى هذا الممر المائى الدولى الخطير مفزعًا للدول الأوروبية المنافسة لبريطانيا والتى لها مستعمراتها فى الشرق، والتى حاولت أن تجرب أنواعًا من الضغط على بريطانيا أملًا فى أن تجلو عن مصر، وحاولت الدبلوماسية البريطانية أن تراوغ فى البداية بإدعاء أن الاحتلال مؤقت وأن الجلاء واقع لا محالة.
وهكذا نجد أن مشروع القناة قد جلب الضرر على البلاد فقد فتح أبوابها على مصراعيها للأوروبيين وعرفت مصر الأزمات المالية والتدخل الأوروبى، كما أن إنشاء القناة على يد شركة أجنبية فتح ثغرة للتدخل الأجنبى إضافة إلى أن سعيد أسرف فى منح الشركة امتيازات وحقوقًا جعلتها شريكة مصر فى سيادتها وجعلت منها حكومة، ولم تستفد مصر من اقتصاديات القناة بل على العكس أضرتها اقتصاديًا فى تلك الفترة لأن طريق التجارة بين أوروبا والشرق تحول من داخل مصر إلى القناة المائية التى أصبحت ملكًا لشركة أوروبية، فخسرت مصر الأرباح التى تعود عليها من مرور التجارة فى وسط الدلتا بطريق النيل وانتقلت الأرباح إلى شركة القناة.
شوكة الاستقلال
ورغم مساوئ المشروع فإن مصر أنفقت عليه الكثير من الأموال بذلت فى أسهم اكتتبت فيها وأملاك تنازلت عنها وأعمال قامت بها وتعويضات أدتها للشركة. وقد خسرت فى وقت كان أحوج ما تكون إليها، ولإنقاذ مشروع ظل لسنوات شؤمًا عليها من كل الوجوه. وظلت القناة شوكة فى استقلال مصر حتى عاد الحق لأصحابه بتأميمها فى يوليو 1956، وهو حدث هائل فى تاريخ قناة السويس والعلاقات الدولية.


كتاب : قناة السويس..التاريخ والمصير والوعد
تقديم : الاستاذ محمد حسنين هيكل
المحرر : أحمد السيد النجار
الناشر : مؤسسة الأهرام
تاريخ النشر: أغسطس 2015


الحلقة المقبلة
«مباراة كاملة: التأميم.. استعادة الحقوق وتمويل السد»
بلغ ما دفعته مصر فى إنشاء القناة طبقًا للبيان الرسمى الذى قدمته الحكومة المصرية لمجلس شورى النواب عام 1876 (16.075.119) جنيهًا عدا الآلاف الذين ماتوا نتيجة الجوع والعطش والإعياء فى عمليات الحفر ثم كان ما هو أفدح خسارة من ملايين الجنيهات التى أنفقت وآلاف الأرواح التى أزهقت، ألا وهو الاحتلال البريطانى حيث كانت القناة من أهم الأسباب التى دفعت الاحتلال إلى مصر وظل جاثمًا على أنفاسها طيلة 73 عامًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.