تلاحقنى تترات لعشرات المسلسلات، أثار البعض منها بمشاهده وبمقاطع من حوار شخصياتها جدلا حادا، ليس فقط حول مضمونها وإذا ما كان يتناسب مع إحياء ليالى شهر رمضان بل أيضا حول غياب قطاع الانتاج فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون وتغييب فكرة المسئولية الاجتماعية وما ترتب عليهما من تراجع فى مضمون المسلسلات التليفزيونية وبالتالى المقارنة بين دراما الماضى وبين مسوخ الحاضر، وهى قضايا لنا عودة لها فى وقت لاحق بمشيئة الرحمن.. يتملكنى فضول أن أعرف كيف كان اجدادنا يمضون أمسياتهم الرمضانية بعد صلاة التراويح وحتى الفجر قبل ان نعرف التليفزيون والانترنت !!.. من بين صفحات كتب عتيقة تتراءى صور لرمضان كانت لأيامه ولياليه خصوصية شديدة فى ذاكرة الأمة المصرية، إذ كانت الاحتفالات بقدوم شهر رمضان المعظم تأخذ أشكالا تعبيرية شديدة الخصوصية تتناغم مع روحانيات الشهر الكريم فانعكست إيجابيا على الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية. من سطور للمقريزى والسيوطى وابن تغرى بردى تتشكل معالم صورة تبدأ بمصريين اعتادوا أن يعلقوا الزينات والقناديل على المساجد والبيوت فى ليلة الرؤية إيذانًا باحتفالات قدوم الشهر الكريم . ويروى القلقشندى فى كتابه (صبح الأعشى ) وغيره من المؤرخين حكايات عن مواكب خلفاء حرصوا منذ العهد الفاطمى أن يؤدوا صلاة المغرب فى اليوم الأول من رمضان فى الأزهر الشريف وإلقاء خطبة التهنئة بقدوم الشهر، ومن هؤلاء الخلفاء ( المعز لدين الله والمستنصر بالله و طلائع بن رزيك وصلاح الدين الأيوبى والعزيز عثمان والمنصور الأيوبى والخليفة الكامل وغيرهم . وبعد الصلاة يخرج الخليفة وضيوفه وبقية الرعية ، ويتجه الموكب الرسمى إلى القلعة لتناول طعام الإفطار، ثم يصلى قاضى القضاة بالخليفة وضيوفه صلاة العشاء والتراويح فى ساحة القلعة.وبعدها يبدأ موكب الخليفة ووزرائه وكبار القادة والحرس السلطانى المهيب فى التحرك فى قلب القاهرة وحتى جزيرة المنيل لمشاركة الشعب فى الاحتفال باليوم الأول من الشهر المبارك، ولتقديم الهدايا والأطعمة للفقراء وسط تهليل الناس وزغاريد النساء ودعاء الرجال للخليفة بالعمر المديد ،ثم يعود الخليفة أو السلطان إلى القلعة ليتناول طعام السحور. ويقول السيوطى فى كتابه ( حسن المحاضرة ): « إن من سبيل تسلية الناس فى هذه الأيام سماع سيرة عنترة وذات الهمة وأبى زيد الهلالى والظاهر بيبرس فى الحدائق العامة، وكانت الأفراح بشهر رمضان تزداد حينما كان يصل إلى مسامع المصريين أخبار الانتصارات على الصليبيين والتتار ، فتقام الولائم بالشوارع والحارات فى كل حى ، ويخرج الناس إلى مشارف القاهرة من ناحية الجيزة ومن ناحية حلوان لاستقبال الأبطال العائدين بالأغانى والأهازيج«..كما يروى المقريزى أن المصريين كانوا يخرجون بعد صلاة التراويح وخاصة فى أيام الصيف،ويطوفون شوارع القاهرة والإسكندرية ويمارسون ألعابا كالملاكمة ،وأن صلاح الدين الأيوبى كثيرا ما اصطحب وزيره القاضى الفاضل لحضور تمثيليات خيال الظل فى ليالى رمضان. كما عُرف عن بعض سلاطين المماليك مثل قنصوه الغورى خروجهم فى ليالى رمضان إلى المتنزهات ومعهم خيال الظل وفريق من المنشدين . ويشير د. بهاء حسب الله أستاذ الأدب الاسلامى فى العصور الوسطى بجامعة حلوان إلى الأمسيات الأدبية التى كانت تعقد فى ليالى رمضان حيث يتبارى الشعراء فى الحدائق العامة والبساتين وساحات القصور والأسواق والطرقات وفى خيام الجند ويحتكمون إلى الخلفاء وعلماء اللغة والمبدعين ، وحتى شيوخ الأزهر آنذاك . و يشير د. حسب الله إلى أن شاعر العربية الكبير المتنبى ، الذى وفد إلى مصر فى خلافة كافور الأخشيدى شارك فى تلك المجالس وأحياها فى حضرة كافور الأخشيدى ، موضحا أنه فى العصر الفاطمى والأيوبى والمملوكى شجع الخلفاء والسلاطين تلك المجالس الأدبية بل وشاركوا فيها حيث كان من بينهم شعراء ومبدعون أمثال تميم بن المعز لدين الله الفاطمى وطلائع بن رزيك والسلطان العزيز بن عثمان كذلك الوزراء والقضاة مثل الوزير الفاطمى بدر الجمالي. ويُقال إن الشاعر المملوكى ابن دانيال دعا السلطان المملوكى الظاهر بيبرس لحضور ثلاث مسرحيات شعرية فى ليلة رمضانية وعرضها بطريقة مسرح خيال الظل الشعبي.. هكذا مزج المصرى القديم بين روحانيات رمضان وبين الفن الاصيل والترويح عن النفس وقضايا الأمة.. فهل فيما سبق من صور ما يوحى بشيء ؟!... http://[email protected] لمزيد من مقالات سناء صليحة