راجت في الآونة الأخيرة نكتة سوداء مفادها أن هناك من تبني فكرة التكفير والهجرة من قبل, أما الآن فهناك الكثيرون من يتبني التفكير في الهجرة وهي نكتة لما فيها من مفارقة و اسوداءب لأنها تستدعي ضحكا كالبكاء, لما تكشفه عن يأس في الإصلاح, واعتدال الأمور لتسير في نصابها الصحيح, ونصفها الآخر أي التفكير في الهجرة أشد عدمية من نصفها الأول أي التكفير والهجرة الذي حمل أملا خائبا في أن التكفير وهجرة المجتمع, قد تصلح المجتمع, بخلق مجتمع جديد تماما من رحم المجتمع القديم, بينما التفكير في الهجرة تحمل يأسا هائلا من أي إصلاح, بإعلان موت المجتمع والوطن بلا رجعة, والبحث عن وطن جديد, وكأن الأوطان مطروحة في الأسواق لمن يشتري وطن للبيع! وإذا كانت عوامل اليأس عديدة من تكاثر أدوات هدم الدولة وتدمير الكيان الوطني فإن اليأس لا يتسق مع الإيمان بالله, فلا ييأس من روح الله إلا القوم الظالمين, وإذا ظلمنا أنفسنا كثيرا بالمزايدات والفوضي التي ما تلبث أن تهدأ حتي تثور في وجوهنا, فليس من الحكمة أن نصل إلي اليأس العدمي في البحث عن وطن بديل, خاصة انه غير متوافر للملايين التي تبحث عن النظام الذي يوفر لها الحد الأدني للأمان, فالشعب الآن يريد النظام بقدر ما يكره الفوضي ويسأم من المزايدات بالشعارات البراقة, فما أسهلها خاصة عندما يعف عقلاء الوطن عن الاشتراك في المهاترات الكلامية تاركين المجال للمزايدين وتجار الكلام عبر الشاشات فيحلون أقسي وأعصي المشكلات بمجرد التطاول والمزايدات علي المسئولين وتكسير مجاديفهم بينما لو دققنا في المعضلة الاقتصادية ككل نجد إنه عندما يتحقق الإصلاح الاقتصادي لن يكون هناك من داع لحرب الفضاء الدائرة الآن ويتقاضي فيها المذيعون الملايين المسمومة ليكيدوا للمسئولين كيدا, في ظل ظروف دقيقة تحتاج لتكاتف الجميع للخروج منها وإعادة بناء الكيان الوطني علي أسس سليمة وهي مهمة ليست هينة لكنها الأمل الوحيد لانتشال الوطن من عثرته كما نصح تشرشل عندما واجه نفس المصاعب فقال: إمض قدما ولو كنت سائرا علي الجحيم! لابديل عن الإصلاح لكنه ككل شيء في الحياة يسير وفق قوانين الطبيعة والمنطق لا بالأفكار العشوائية والأحلام السريعة الوردية لكن بقوانين وقواعد علمية منها الآجل ومنها العاجل, فيجب عدم الخلط والدجل في الحكم علي الأمور, فالحكومة تتحمل مسئولية كبري في لحظة تاريخية استثنائية تستوجب من كل التيارات والقوي الوطنية مساندتها ليس بالطبع بترك الحبل علي الغارب أو التغطية علي التقصير لكن بتقدير حجم المسئولية الملقاة علي كاهل المسئولين الذين يعلن نقادهم أنهم يرفضون تحمل المسئولية في نفس الظروف وهناك من انتقل من خانة النقد والتنظير اوالكلام في كلامب إلي خانة المسئولية ولم يقدم جديدا وحكمته الظروف الثقيلة إحكاما ولولا الأدب لاستحق السخرية والتهكم! وللأسف تورط في الإعلام التحريضي شخصيات كان الأجدر بها أن تقف مع استقرار الوطن, ليبدأ نهضة حقيقية في إعادة البناء, وذلك لن يتحقق مع الاحتجاجات والاعتصامات والنقد والتشهير بالمسئولين حتي إن من يدعو للمنطق والعقلانية والتنظيم المدروس يخشي تعرضه لحناجر التشويه وتأليب الناس علي بعضهم البعض فيصمت كافيا خيره شره بعدما نشهده من تطاول الطلبه علي أساتذتهم والموظفين علي رؤسائهم والأبناء علي آبائهم وهلم جرا فهذا الوضع ما ينطبق عليه قول تشرشل عندما تصمت النسور تبدأ الببغاوات في الثرثرة. النقد الهدام والتشهير والتشكيك الدائم نوع من العدمية المتشائمة التي تهدف للهدم لا البناء والشعب عندما نادي بتغيير النظام كان يهدف إلي نظام آخر أكثر عدلا واستقرارا وأمانا لا إلي الفوضي والانهيار فالشعب يريد إصلاح التعليم لتصبح مؤسسات التعليم حقيقية ينال فيها الطالب ما يستحق من علم وتربية والمدرس ما يستحق من احترام وأجر مناسب يغنيه عن الدروس الخصوصية التي أضاعت هيبته ويريد إصلاح الرعاية الصحية حتي تصبح حقا لكل مريض أن يجد ما يخفف آلامه وفي نفس الوقت يحفظ كرامته, كذلك الأمر في الإسكان والمواصلات والتوظيف والبيئة والبحث العلمي وكل أنشطة الحياة التي تضمن استقرار المجتمع وهي إصلاحات لن يحققها أبدا الهجوم علي الحكومة بالحق والباطل ولا أيضا وعود خادعة من المسئولين لكن بالوضوح والشفافية والخطط الواضحة وتحمل تكلفتها الإنسانية ودور كل مواطن في تحقيقها وهي مهمة كفيلة بأن يدخل أصحابها التاريخ وهو طموح الإنسان الخالد أن يحفظ اسمه عظيما في وعاء التاريخ الذي لا يموت ويصعب تزييفه مهما كان للباطل جولة أو حتي جولات, وأعتقد أن من يتحمل المسئولية الآن عليه أن يستوعب ويطمئن أن الحكم علي عمله لن يناله الآن من تقدير أو إنكار, إنما من التاريخ الذي سيقدر لكل مجتهد نصيبه من التقدير علي أن يأخذ الموقف الصريح الواضح دون الخضوع للإبتزاز أو التورط في المهاترات أو الوقوع في حبائل الوعود الخادعة فسيبقي الموقف الصحيح هو موقف تشرشل قبل أن يقود شعبه إلي النصر فقال لهم الحقيقة عندما أعلن: لا أستطيع أن أعدكم إلا بالدموع والبكاء والآلم.. وبذلك وصل بهم إلي بر الأمان وكانت ظروفهم أصعب مما نمر به, بينما كانت المزايدات عليه أقل شرا مما نري! التحذير من خطر المزايدات الهدامة ليس علي الحكومة أو الاشخاص فما أسهل أن تترك الجمل بما حمل من أثقال لغيرها التي ستتعرض لما تعرضت له من تأثيم, ومن ثم تترك المسئولية كما فعلت سابقتها وهلم جرا, وتتعرض مصالح الوطن وملايينه الكثيرة للدمار, خاصة أننا نعيش زمن السقوط حيث الخيانة وجهة نظر ويفجر العملاء بتقاضيهم أموالا اجنبية لهدم الأوطان والمتاجرة بآلامها وفقرها ويستدعي شيوخ الأجنبي ليقتل أهلهم وأطفالهم وباسم الدين يستبيحون الدماء والأعراض, فهذا زمن يخجل منه زمن حرب داحس والغبرا, وحرب البسوس العبثية, ففي مثل هذه الأجواء يسهل الوقوع فيه العدمية حيث الهدم واختلال المعايير الخير والشر, حيث المياه كلها بلون الغرق! سحر العدمية كمذهب فلسفي لإدراك الوجود من خلال العدم ترف فكري تستدعيه المجتمعات المستقرة القوية لزيادة الوعي المسئول عن الإدراك علي أساس أن الإنسان يعي وجوده من خلال نقيضه, فالأشياء تعرف باضدادها فتفترض أن وعينا ما هو إلا جزء من الوعي الكلي الشامل الذي يصب في النهاية في العدم في محاولة لإدراك ذاته, فسحر العدمية يكمن في محاولة الإنسان المستمرة في تفسير وجوده وعلاقته بالكون والعالم إلا أن ما نشهده من عبث بأقدار الناس من هدم متواصل وتشكيك دائم وثورة بلا نهاية أحد أسوأ أشكال العدمية لبث روح اليأس والتشاؤم واعتبار كل جهد وعمل يحدث عديم القيمة وخاليا من المضمون ووصلت قمة العدمية في العمليات الإرهابية التي تشهدها الشقيقة سوريا من تدمير وقتل عبثي بينما باب الحوار هو الأقرب للبناء والتغيير السلمي ليكفي البلاد شر التدخل الأجنبي, لكنها العدمية السلبية التي يتبرأ منها شيخ العدمية الذي أنجبته سوريا أبوالعلاء المعري فقد ذهب في تشاؤمه أن نصح بعدم إنجاب الأطفال لنجنبهم آلام الحياة وقال: خفف الوطأ ما أضن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.. إلا أن العدمية الجديدة هي من تقتل الأطفال وتطيح بمصالح الشعوب في غياب عدمي لمعني المسئولية, تلك المسئولية التي قال عنها تشرشل إنها ثمن العظمة فمن يتحمل المسئولية بصبر وقوة في مواجهة العدمية هو من يستحق في وعاء التاريخ أن يكون عظيما. المزيد من مقالات وفاء محمود