كان لاهوت التحرير، فى سياقه المسيحى، قد ألهم حركات التحرر الوطنى فى معظم أرجاء أمريكا اللاتينية، ستينيات القرن الماضى، ضد الكنيسة والإقطاع والهيمنة الأمريكية والنظم العسكرية معا، ليسهم فى إخراجها من مأزقها السياسي، وذلك باكتشاف بؤر للإيجابية تتجاوز حال الاغتراب المسيحى التاريخى عن الملكوت الدنيوى. واليوم تحتاج مجتمعاتنا العربية إلى لاهوت تحرير إسلامى، يستعيد النزعة الفردية للإيمان، ويخلصنا من تسلط النصوص التراثية على العقل والإرادة، لاهوت يتسم بالعقلانية والتاريخية والإيجابية والإنسانية معا. ..لاهوت عقلانى، ينفتح على قضايا العصر ولا يقع فريسة لعبادة النص، كما لا يتوسع فى تعريفه ليحتوى التراث الدينى كله، بل يتعامل معه بروح نقدية، لا يخضع لظاهره بل يخضع هذا الظاهر للتأويل، الذى يجعل من العقل معيارا حاكما، كما كان الأمر لدى ابن رشد والمعتزلة، وأخيرا لدى محمد عبده، لا العكس كما كان الأمر لدى أهل السنة والجماعة، خصوصا الأشاعرة، وصولا إلى الكهنة الجدد، محترفى الإسلام السياسي، الذين لم يعبدوا النص المركزى فقط (القرآن الكريم)، بل كل نص تراثى صادفوه فى طريقهم، وصولا إلى الكهف الذي أغلقوه على عقولهم. .. ولاهوت تاريخى يربط بين العقيدة والتاريخ، فالوحى خطاب إلهى إلى الإنسان، ولكن فيما مصدر الخطاب مطلق ومتسام وأبدى، فإن المتلقى نسبى ومقصور لا يكف عن التغير. ومن ثم، وحتى يبقى الخطاب الإلهى موصولا بنا مفهوما منا، فلابد أن يكون قادرا على استيعاب تحولاتنا، وتأملاتنا ومحاولتنا الدائمة أن نتقدم ونتفتح في التاريخ، وهو لا يكون كذلك إلا بأرخنة النص الدينى، فلا يصدر عليه حكم إلا فى السياق الذى أُنزل فيه أو جمع فيه أو كتب فيه، وفى ضوء البيئة التى وضع لها، والمجتمع الذى استقبله، ومستوى النضج العقلى، والتطور المعرفى للإنسان الذى خاطبه، اللهم سوى فى الآيات القرآنية المحكمة التى تتعلق بصلب العقيدة وأركان الشريعة، وليس فى مجموعات الأحاديث التاريخية ولا فى اجتهادات البشر الفقهية. ..ولاهوت إيجابى ينهض على علاقة جدلية بين الله والإنسان، يدرك أن الله هو القطب المركزى فى الوجود ولكن الإنسان ليس عدما، بل قطبا ثانيا فى الوجود نفسه، لا يمكن تصور كمال الله من دون وجوده، الذى يعد دليلا علي هذا الكمال، وانعكاسا له.. لاهوت لا يبرر للمسلم الانتظار السلبى الخجول لملكوت السماء القائم فى عالم الغيب، ولا يدفع به، فى المقابل، إلى استدعاء هذا الملكوت إلى الأرض بالعنف والإرهاب، اللذين يقضان مضاجع الحياة والأحياء عليها، بل القيام بفعل حضارى منظم لتحسينها، وعمارتها، ونشر قيم المحبة والسلام فيها، كونه المستخلف عليها، الذى حمل أمانتها. وآخرا لا أخيرا، لاهوت إنسانى، يرى أن الأديان للإنسان، وليس الإنسان للأديان، فالله ليس هو الدين، بل هو رب الدين، الذى خلق الإنسان، واستخلفه فى أرضه، ومنحه الدين عطية روحية وعقلية ترشده إلى الطريق القويم، الذى بنهايته تتحقق الخلافة الحضارية على الأرض،حيث التمدن والتحرر، والتقدم، مع الإيمان، وليس الخلافة السياسية على الطريقة التقليدية الأموية أو العباسية أو العثمانية حيث القهر والقمع تحت لافتة الدين. أو على الطريقة الداعشية حيث العبث والهمجية يحيلان الإنسان إلى مجرد قربان يتوجب التضحية به على مذبح إمارة جاهلة أو خلافة متوهمة.. ولحسن الحظ فإن النص الإسلامى المركزى / التأسيسي (القرآن الكريم)، ينطوى جوهريا على ذلك البعد التحررى العميق، حيث النزوع إلى التوحيد، من حيث هو اعتراف بواحدية الإله، واستقلاله المطلق عن الطبيعة، يعكس نزوعا مقابلا للاعتراف بالإنسان (الموحِّد)، باعتباره، هو الآخر، كائنا متميزا ومستقلا. بل ويبلغ هذا البعد التحررى أفقا وجوديا بامتياز بفضل الجوهر التنزيهى للوحدانية الإسلامية. فإذا كان أول صفات الله وأهمها هى أنه واحد أحد، وأن وحدانيته تتميز بالشمول والخلود، فعلي كل فرد مؤمن به، كى يستحق وصف الإيمان، أن يسعى ليكون هو الآخر واحداً، متمتعاً بشخصية إنسانية ناضجة، واستقلال ذاتى عميق فيما يخص فعل الإيمان بالذات. لقد خلق الله كل إنسان (وحدة) متفردة، متميزة عن الوحدات الأخرى، وسوف يبعثه في الآخرة فرداً »ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة« (الأنعام: 94). وفي آية أخرى »ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً« (مريم:80). وفي آية ثالثة »وكلهم آتية يوم القيامة فرداً« (مريم: 95). فكون المسلم واحداً هو ما يجعل شهادته بوحدانية الله ذات معنى، تفترض مسبقا استقلالية الذات وتستند إليها، فيتجلى الإنسان حرا كريما وتنطلق إرادته من كل القيود التى كانت تكبله، قيود الجماعة، والتقاليد، والأعراف، والسلطان، وغيرها. بل يقول القرآن الكريم إن طاعة الإنسان المطلقة للإنسان شعبة من شعب الشرك، حتى لو كانت لعلماء ومشايخ وقادة دينيين، لأن الإنسان لا يأتي بمثل هذه الطاعة لإنسان آخر يشعر أنه مثله، ولا يتخلى إزاءه عن حقه فى التفكير والتعبير واستقلال الرأي إلا إذا اعتبره خالياً من الخطأ منزهاً من النقص، أو ظنه قادرا على إيقاع النفع والضرر، العطاء والمنع، ولا شك فى أن الاعتقاد بوجود هذه الصفات فى غير الله هو أصل كل شرك، بقدر ما هو جوهر كل خضوع للوصاية وشعور بالقهر. وهكذا تعد الحرية الإنسانية نتيجة من نتائج التوحيد، وضرورة من ضرورات التنزيه، فالتوحيد المطلق يمثل قاعدة صلبة للمساواة بين البشر، الذين افتقدوا صفات السمو على غيرهم، وتواضعوا جميعا أمام الذات الإلهية. كما أن المساواة (القانونية) لازمة أساسية من لوازم الديمقراطية السياسية. ومن ثم فإن اللحظة التى يتسامى فيها الله على الوجود البشرى بمجمله، هى نفسها التى يتساوى فيها البشر فيما بينهم، وهى أيضا اللحظة التى تتحقق فيها الحرية الإنسانية. غير أن حرية الضمير المطلقة أمام الله، فيما يخص فعل الإيمان، لا تعنى الحرية المطلقة إزاء الآخرين، فهذه الأخيرة يتوقف حضورها على ما يملكه الشخص الإنسانى من ممكنات وقدرات، لا يتساوى فيها مع الآخرين. ومن ثم فالحرية الكاملة هنا إنما هى حرية مفترضة/ قبلية، يضمنها نظريا الاعتقاد فى التوحيد، فيما تتحقق عمليا بحسب ملكات الإنسان، وقدرته على اغتنامها فى توسيع ممكناته، وقدرته على الاختيار. وهكذا يمنح الإسلام خصوصا، والإيمان التوحيدى عموما، الإنسان طاقة تحرير وجودية هائلة، بغض النظر عن قدرة الانسان على توظيفها، فإن لم يستطع أن يفعل، كان إيمانه ناقصا، فان تكون مؤمنا حقا هو أن تختار الله بعقلك وإرادتك فعلا، وهو الفهم التحررى الذى هزم مرارا فى تاريخ الإسلام، عندما هزم الإنسان، وأُريقت دماؤه على مذبح أولى الأمر، عندما صعدت الدول على أسنة المذاهب، وتأسست المذاهب على رماح الدول، حيث السلطان يرعى الفقيه، والفقيه يبرر السلطان، وما بينهما سقط العقل، أمانة الله فى الإنسان، مغشيا عليه، وملقيا فى غياهب النسيان، وانتفت الإرادة خلف حجب الوصاية الكهنوتية، ونزعات الإتجار بالأديان. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم