ينطوى النص الإسلامى المؤسس «القرآن الكريم»، على بُعد تحررى عميق، حيث النزوع إلى التوحيد، من حيث هو اعتراف بواحدية الإله، واستقلاله المطلق عن الطبيعة، يعكس نزوعًا مقابلًا للاعتراف بالإنسان «الموحِّد»، باعتباره، هو الآخر، كائنًا متميزًا ومستقلًّا، بل ويبلغ هذا البعد التحررى أفقًا وجوديًّا بامتياز بفضل الجوهر التنزيهى المؤسس للتوحيد الإسلامى. فإذا كانت أولى صفات الله وأهمها هى أنه واحد أحد، وأن وحدانيته تتميز بالشمول والخلود، فعلى كل فرد مؤمن به، كى يستحق هذا الوصف، أن يسعى ليكون هو الآخر واحدًا، متمتعًا بشخصية إنسانية ناضجة، واستقلال ذاتى مطلق فى ما يخص فعل الإيمان بالذات. لقد خلق الله كل إنسان (وحدة) متفردة، متميزة عن الوحدات الأخرى، وسوف يبعثه فى الآخرة فردًا ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة (الأنعام: 94). وفى آية أخرى ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا (مريم:80). وفى آية ثالثة وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا (مريم: 95). فكون المسلم واحدًا هو ما يجعل شهادته بوحدانية الله ذات معنى، تفترض مسبقًا استقلالية الذات وتستند إليها، فيتجلى الإنسان حرًّا كريمًا وتنطلق إرادته من كل القيود التى كانت تكبله، قيود الجماعة، والتقاليد، والأعراف، والسلطان، وغيرها. بل يقول القرآن الكريم إن طاعة الإنسان المطلقة للإنسان شعبة من شعب الشرك، حتى لو كانت لعلماء ومشايخ وقادة دينيين، لأن الإنسان لا يأتى بمثل هذه الطاعة لإنسان آخر يشعر أنه مثله، ولا يتخلى إزاءه عن حقه فى التفكير والتعبير واستقلال الرأى إلا إذا اعتبره خاليًا من الخطأ منزهًا عن النقص، أو ظنه قادرًا على إيقاع النفع والضرر، العطاء والمنع، ولا شك فى أن الاعتقاد بوجود هذه الصفات فى غير الله هو أصل كل شرك. وهكذا تعد الحرية الإنسانية نتيجة من نتائج التوحيد، وضرورة من ضرورات التنزيه، ولازمة من لوازمه الأساسية، فالتوحيد المطلق يمثل قاعدة صلبة للمساواة بين البشر الذين افتقدوا صفات السمو على غيرهم، وتواضعوا جميعًا أمام الذات الإلهية، والمساواة القانونية لازمة أساسية من لوازم الحرية. ومن ثم فإن اللحظة التى يتسامى فيها الله على الوجود البشرى بمجمله، هى نفسها التى يتساوى فيها البشر فى ما بينهم، وهى أيضًا اللحظة التى تتحقق فيها الحرية الإنسانية. غير أن تلك الحرية التى تبقى مطلقة أمام الله، فى ما يخص فعل الإيمان، باعتباره وليد إرادة تختار، وإلا كان مجرد نفاق يتساوى فيه الإيمان مع الكفر، تبقى مجرد حرية نسبية فى الواقع، وإزاء العالم، يتوقف عمق حضورها ومداه على ما يملكه الشخص الإنسانى من ممكنات ومواهب، لا يتساوى فيها مع الآخرين، ومن ثم فالحرية الكاملة هنا إنما هى حرية مفترضة/ قبلية، يضمنها نظريًّا الاعتقاد فى التوحيد، والإيمان المريد، بينما تتحقق عمليا، حسب ملكات الإنسان وبفضل مجموع مواهبه، وقدرته على اغتنامها فى توسيع ممكناته، ومن ثم قدرته على الاختيار. وهكذا يكون الإسلام خصوصًا، والإيمان التوحيدى عمومًا، قد منح الإنسان طاقة تحرير وجودية هائلة، بغض النظر عن قدرته على توظيفها، فإن لم يستطع أن يفعل، كان إيمانه ناقصًا، وهذا ما لا نرجوه للمسلم المعاصر الذى بات واجبًا عليه استلهام الروح التحررية فى عقيدته، ليحقق انعتاقه الكامل من أسر التطرفات والهيمنات التى تسود زمانه، وتطرح نفسها عليه فى صورة انغلاقات تسد الطريق إلى مستقبله.