يخطئ من يظن أن مجتمعنا قد شفي، أو فى طريقه للشفاء من علل ومساوئ ظلت جاثمة ولا تزال على صدورنا وعقولنا، منذ خمسينيات القرن الماضي، ومنها بناء جدار عازل بين الرئيس ومواطنيه، والخلط بين الرئيس والدولة، والايهام بأن توجيه كلمة انتقاد واحدة للرئيس وسياساته تشكل اعتداء سافرا على مقام الدولة الرفيع المصون، وأنه يستحسن إبقاء الجالس على الكرسى الرئاسى ببرج عاجى مكتوب على مدخله ممنوع الانتقاد. واستقر فى وجدان وذهن المجتمع أنه على الساعين والطامحين لمخالفة هذه القاعدة الذهبية فعل ذلك فى الخفاء وراء الأبواب المغلقة، والاستثناء جسده آنذاك نفر جاهروا بانتقاداتهم واتهاماتهم لأكبر مسئول فى الدولة المصرية، وفى المقابل كُتب عليهم دفع ثمن باهظ لجرأتهم بقضاء سنوات خلف القضبان فى المعتقلات والسجون، وفقد عملهم، وبعضهم فضل النجاة بنفسه وشد الرحال إلى خارج البلاد متحملا مرارة البعد عن الأهل والوطن، إلى أن ثار المصريون على دولة العواجيز، والتوريث، وحكم الجماعة الإرهابية. غير أن التحولات الجذرية إبان الأعوام الأربعة المنصرمة لم تكن كافية فى الغالب لتبديل الحال حتى الآن فى دهاليز الحكومة والإعلام والمواطنين، والتخلص من أحد موروثات الماضى البغيض التى كانت سببا اساسيا فى تأخرنا عن اللحاق بركب التقدم والتحضر والازدهار، إذ أن الكثيرين داخل دائرة الحكم وخارجها يبدون تبرمهم وضيقهم واندهاشهم من الأصوات المنتقدة والمعارضة للرئيس، خاصة ممَن عُرفوا بدعمهم وتأييدهم الشديد والجارف للرئيس عبد الفتاح السيسى ولدوره فى انقاذ المصريين من بين انياب زمرة تجار الدين الذين خانوا العباد وباعوا الوطن وأسراره بثمن بخس. وأصبحنا حائرين ومشتتين بين معسكرين متنازعين، احدهما رافض تماما ومستاء جدا من مجرد شبهة انتقاد الرئيس، فهم ملكيون أكثر من الملك، والآخر اطلق لنفسه العنان بدون ضوابط ولا محاذير، سعيا لاكتساب شعبية إعلامية وسياسية أكثر، فالشهرة وتعليقات وسجال مواقع التواصل الاجتماعى هى الهدف والمبتغى وليس توخى المصلحة العامة، وهو ما يقود لتراجع ثقة المصريين فى القائمين على ادارة شئونهم، وتزايد شعورهم بالإحباط، نتيجة عدم تغير أحوالهم المعيشية، وتفاقم مشكلاتهم وأزماتهم الحياتية، وفى نظرهم فإن الرئيس مسئول عما آل إليه الوضع. وما بين التراشق والتنابذ بين الجبهتين لم نفطن لتساؤل ستحدد اجابته مدى جديتنا وصدق مسعانا للنهوض ونفض غبار الماضى عن ثوب المحروسة واستبداله بجديد يليق بها وبشعبها. التساؤل هو عما إذا كان السيسى يضيق صدره بالنقد ويرفض التعرض لما يتخذه من قرارات ومواقف وسياسات داخلية وخارجية؟ الشواهد الماثلة تؤكد عكس هذا، فالرجل هضم واستوعب جيدا دروس وتجارب من سبقوه فى القصر الرئاسي، ويواجه بشدة وبكامل طاقته محاولات لا تتوقف لفرعنة الرئيس، ويصر فى لقاءاته واجتماعاته على تأكيد أن أصحاب الفضل الأول والأخير هم المصريون، وأن من قام بثورة 30 يونيو هم المصريون، وخلال احتفالات عيد العمال لم يمرر هتافات تمجده باعتباره منقذ الشعب فى 30 يونيو، مؤكدا أن المصريين هم من انقذوا البلاد. فالأزمة الحقيقية فى مفاصل الدولة وقواعدها التى استمرأت النفاق والمداهنة وتحصين المسئول من الانتقاد، فهى تسير فى اتجاه معاكس للمسار الذى يسعى الرئيس لإقراره وتثبيت قواعده وأركانه والذى من الممكن أن نلخصه فى أن الرئيس ليس معصوما من الخطأ، وأنه ليس فوق النقد طالما بنى على قاعدة الادلة وليس التجريح والتطاول، وأن استمراره فى السلطة مرهون باشارة من المواطن الذى بيده القول الفصل بهذا الصدد. ويظهر حرص السيسى الدائم على بيان أن المواطن هو ظهيره وسنده وليس تشكيل حزب سياسى يعبر عنه قدر ارتباطه الوثيق بالناس واشعارهم بأنه واحد منهم، وهو يجيد مخاطبتهم والتواصل معهم، علاوة على أن اصراره على مكاشفة الجمهور بحقائق أوضاعنا الاقتصادية والمالية والمطالبة بالتحلى بالصبر لجنى الثمار خير برهان على تقديره للمصريين وعدم خداعهم مثلما كان السابقون يفعلون، ومن هنا لابد أن تسير الدولة وأركانها على خط مواز للرئيس. وعلى الممتعضين والمتأففين من انتقاد الرئيس عدم الانزعاج والخوف من تكاثر المنتقدين، بل عليهم الابتهاج، لأنها ظاهرة صحية لمجتمع يعاد تشكيله وصياغته على أسس سليمة مستقرة يكتب لها البقاء والاستمرارية بصرف النظر عن اسم الرئيس وخلفيته. فمصر تحتاج لمعارضة وطنية شريفة لبناء نظام سياسى سليم وقويم بعيدا عن العبث والتخبط الذى نتابع فصوله ومهازله حاليا، وإقامة دولة المؤسسات وليس الأفراد، فنحن لم نتعود بعد على التنويع من كثرة تعايشنا واعتيادنا على نظام الحزب الواحد، والرأى الواحد، والرئيس الواحد، ولم نقتلع بعد جذور دولة الفرد المتغلغلة فى النفوس والعقول. ونحتاج أيضا لإعلام وطنى يجيد تقدير مسئولية الكلمة والرأي، ولا تحركه أصابع رجال اعمال لا يهمهم سوى تحصين مشاريعهم الاقتصادية وطموحاتهم السياسية إما بواسطة موالاة النظام بالباطل وبالحق، أو الضغط عليه وابتزازه برفع عصا المعارضة، فرجاء ارفعوا أيديكم عن الرئيس ولا تبتئسوا من انتقاده. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي