التكنيك لافت.. فالراوية تتوقف عن السرد ليظهر لها من يحاورها فيما تخفيه بطوايا نفسها، فهل هو حديث النفس للنفس، أم إشراك للقاريء فى تفاصيل الرواية وحياة البطلة، أم أنه «منهج فرويد» الذى اخترته لتحليل خبايا نفسها؟ اعتمدت فى الرواية على أسلوب الحكي، بطريقة التداعى الحر التى ابتكرها فرويد، فالراوية تستدعى “فرويد” إلى حجرتها كل يوم، وتتخيله يجلس أمامها لتحكى له أسرارا تخفيها بداخلها، سواء تلك التى مر عليها سنوات طويلة أو غيرها من الأحداث اليومية العادية، ومن خلال التداعى الحر تكتشف البطلة عوالمها النفسية، وتقترب من ذاتها وكأنها تتعرف على نفسها من جديد. استخدمت تكنيك المكاشفات التدريجية، لخفايا البطلة والمحيط الذى تتحرك فيه طوال الوقت، كأنها جلسات اعتراف اجتماعى وتحليل نفسى لانعكاسات فرضها الواقع على البطلة، من دون أن يفلت الخيط منك، أو يلتبس الأمر على القارئ، ألم يخيفك التأثير السلبى لهذه المُقاطعات الحوارية على المتلقي؟ ربما خشيت هذا الأمر بعد الكتابة وليس أثنائها، فخلال الكتابة لم أكن أفكر فى القارئ، بل كنت أفكر فيما أكتبه فحسب، فتقمصت دور الراوية وروح فرويد نفسه، وتخيلت رد فعلهما على ما يقوله الآخر، وأحيانا حين كنت أفعل أشياء أخرى غير الكتابة، كان يأتينى فرويد ويخبرنى أمرًا عن الفتاة لم يخطر ببالي، لكن بعد نشر الرواية، شغلنى الأمر، وسألت الذين قرأوها، وأطمأننت أن الأمر لم يلتبس عليهم. استعنت بالتحليل الفرويدى للأحلام بطريقة صحيحة تماما، كما رأينا فى تفسير حلم خاص ب “هدي” زميلة البطلة وتشابكاته مع مريم التى لا تعرفها، وهى مغامرة كانت مهددة بالإخفاق، لكنك وظفتيها بتمكن، فهل مردُ ذلك للعلاقة العميقة بين الأدب وعلم النفس، أم أنك استعنت بمتخصصين؟ لم استعن بمتخصصين، بل اعتمدت على قراءاتي، وبالفعل علاقة الأدب بعلم النفس قوية، فالاثنان يتوغلان فى نفوس الشخصيات، وقد ساعدتنى قراءة علم النفس على كتابة الرواية خاصة فى هذا الحلم. تعرضت الرواية أيضا لعذاب الفتيات العاملات فى مصر منذ خروجهن من بيوتهن فى الصباح إلى عودتهن مساء، إضافة للإنهاك البدنى والنفسي، بجانب اشتغالهن فى أعمال لا تتناسب مع امكاناتهن وأحلامهن، مثل حلم البطلة بكتابة روايتها، وهذه قضية يلتبس فيها السياسى بالاجتماعى والإنساني، فهل أردتها سِفرا تجمعين فيه كل أوجاعكن؟ لم أفكر فى جمع كل أوجاع الفتيات، الأمر جاء مصادفة بسبب طبيعة عمل الراوية وثقافتها وأحلامها، فهى ليست مجرد فتاة عاملة تواجه ما يواجهه غيرها فى الشوارع، لكنها أيضًا فتاة مثقفة تحلم بأن تكون روائية، وتخشى فى الوقت نفسه من رد فعل المجتمع ورفضه لما تكتبه. لديك مناطق عديدة فى الرواية تنطوى على حكمة تخص سنَّاً أكبر من سنك، الصغير نسبيا، وتجارب أوسع من تجاربك، فمن أين لك بها؟ وهل القراءة تنقل الإنسان إلى مستويات من الحكمة أكبر من معارفه، أم هى التجارب وحدها التى توفر هذا المستوى من الوحي، والخلاصات الفكرية؟ الاثنان معًا يمنحان الإنسان عمرًا أكبر من عمره، فالقراءة وحدها لا تمنح الإنسان عمق التجربة والاحساس بها، والتجربة تفيد الإنسان لكنها لا تمنحه الثقافة، فهما يكملان بعضهما، خاصة بالنسبة للكُتَّاب، فيمكن لكاتب أن يمتلك خبرة حياتية، لكنه حين ينقلها على الورق تكون خاوية من جماليات الكتابة، وبذلك يفسد عمله، وكاتب آخر يقرأ جيدًا، لكن شخصياته باردة لا حياة فيها بسبب نقص خبرته العملية. «زياد» المثقف العاقل، بمنزلة «المعادل الموضوعي» للرجل النزوى الانتهازي، فصنع توازنا أنقذك من أحادية النظرة، ومأزق الأحكام اليقينية، لكن هل يعنى وجوده من جانب ما أن المُخلِّص ليس الأفكار بل الأشخاص؟ زياد ليس شخصًا فقط، بل هو فكرة أيضًا، فوجود شخص يدعم المرأة ويشاركها فى أحلامها، حالة تفتقدها معظم بنات جيلنا الآن، بل إن كثيرًا منهن لا يؤمن بوجود هذا الرجل الداعم، ويظنون أنه أسطورى لا وجود له سوى فى الحكايات، لهذا يرضين بأى رجل ويرضخن لتحكماته ورغباته، حتى وإن كانت رغباته تعنى التخلى عن أبسط أحلامهن وليس أكبرها فحسب، وأعتقد أننا فى الوقت الحالى ليست أمامنا حلول جماعية، بل هى محاولات فردية يقوم بها بعض الأشخاص، محاولين أن يضعوا بذرة ما لعلها تنضج بعد سنوات وتساعد فى حل جماعي. وكيف يتوافق نُبل «زياد» وشهامته ودوره الجوهرى المدهش فى إعادة الروح إلى البطلة، مع كونه لا يُنجب.. أليست دلالة قاسية أن يكون الواعى عاجزا عن الإنجاب، بينما تضمن أفكاره الرائعة استمرار الحياة؟ فى كثير من الأحيان فاقد الشيء يعطيه أكثر من هؤلاء الذين يملكونه، فربما يكون زياد لا ينجب، لكن دورة الحياة لا تستمر بالأطفال فحسب، بل تستمر بالأفكار أيضًا التى تبقى أكثر من الأفراد، ويعيش بعضها لقرون طويلة.