تتجه الحسابات المصرية في علاقتها مع المملكة العربية السعودية، في مرحلة ما بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، فى يناير الماضى إلى تقليل وتيرة أي تباعد محتمل في خيارات وسياسات البلدين الإقليمية، وهو ما يتحقق عبر بلورة آليات محددة من شأنها مواجهة التهديدات المشتركة وتقوية المصالح البينية، على نحو يدفع كل من البلدين تفضيل خيار الشراكة الاستراتيجية مع الآخر. مع الأخذ في الاعتبار أن كل طرف من حقه أن يحدد مصالحه بالصورة التي يراها، وعلى أساس تحليله الخاص لما يجب أو لا يجب القيام به، سواء في توجهاته العامة، أو في سلوكه تجاه مواقف معينة، على شريطة عدم الاعتداء على مصالح الدولة الأخرى، وخاصة من خلال «شريك أو حليف الشريك». وهنا، يتمثل الأسلوب الأفضل الذي تفضله القاهرة في كل الأحوال هو معادلة «توازن المنافع». شراكة متبادلة إن توازن المنافع بين القاهرةوالرياض يعكس توازن القوة في هذه الشراكة في ظل تبدل العلاقات والتحالفات داخل إقليم الشرق الأوسط. كما أن هذا التوافق بين البلدين لا يعني بالضرورة التطابق التام سواء في المصالح أو الأدوار، وإنما يكفي التطابق في المصالح الحيوية والأدوار الاستراتيجية، بحيث لا يلغي ذلك إمكانية وجود خلافات حول بعض المصالح والأهداف والأدوار على مستويات أخرى. وتنبع أهمية ذلك بعد سلسلة التغييرات في مؤسسات الدولة السعودية، وهو ما قد ينعكس على إعادة النظر في الأولويات الإقليمية، سواء تعلقت بتفاقم تمدد داعش في العراق وإجهاض سيناريو إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا وسيطرة الحوثيين على صنعاء في اليمن، فضلا عن تصاعد النفوذ الإيراني في نقاط ساخنة في الإقليم، وهو ما يستلزم بدء التغير في أنماط التحالفات الجديدة. بيولوجيا الموت السياسي فعلى سبيل المثال، لم تعد الرياض تشعر بتهديد لأمنها الوطني قادم من جماعة الإخوان المسلمين بعد تعثر التيارات الإسلامية الصاعدة إلى السلطة في المنطقة العربية وخاصة بعد انهيار حكم الجماعة الأكثر تنظيما وهي الفرع الأم في مصر. ولا يعني ذلك، إلغاء قرار الملك عبدالله باعتبارها «جماعة إرهابية» وإنما الاتجاه نحو عدم تفعيله نظرا لأن جماعة الإخوان المسلمين يتلاشى نفوذها تدريجيا. فإدراك النخبة السياسية لمصادر التهديد يختلف من نخبة إلى أخرى، ومن فترة إلى أخرى. وهنا، فإن التغيرات الجوهرية في السياسات الإقليمية قد تحدث مع التحولات السياسية الداخلية بوفاة قادة سياسيين، فيما يعرف ب «بيولوجيا الموت السياسي». كما أن الرياض قد لا تكون مشغولة بإنجاح المصالحة المصرية القطرية، مثلما كان الوضع سائدا، خلال حكم الملك الراحل عبدالله، لاسيما أن جهود المصالحة كانت بطيئة ومتعثرة بسبب تعقيدات هذا الملف، مع هيمنة المكون الإخواني على مؤسسات «الدولة القطرية»! مقارنة بنجاح المصالحة الخليجية القطرية. ومع التراجع في أسعار النفط، من الطبيعي أن يؤثر ذلك على حجم المساعدات السعودية الخارجية، وهو ما يتطلب ترتيب للأولويات بشأن تخصيص الموارد، على نحو يؤثر على المساعدات المقدمة للقاهرة. فالسياسة الخارجية تصنع في وزارة المالية قبل طبخها في وزارة الخارجية. علاوة على ذلك، قد تكون لدى نخبة الحكم في المملكة أولوية في تقوية العلاقة أو حتى الشراكة مع تركيا لتكوين تحالف سني في مواجهة إيران، دون اهتزاز العلاقة مع مصر، بل إن الرياض بدأت تنسج خيوط تفاعل مع حزب التجمع اليمني للإصلاح لعلاقاته المتشعبة بالقبائل المسلحة، التي يمكن أن تناهض النفوذ الحوثي، مقارنة بسياسة الرياض في عهد الملك عبدالله التي قطعت علاقاتهم القديمة معهم. لذا، فمن الطبيعي أن يكون هناك إعادة تقييم لمسار السياسة الخارجية السعودية خلال المرحلة المقبلة في ظل المتغيرات الإقليمية الراهنة. تقديرات القاهرة على الجانب الآخر، فإذا كانت السعودية تغير سياستها وفقا لما تقتضيه مصلحتها الوطنية، وهو نفس الحق بالنسبة لمصر، على نحو يشير إلى وجود تباين في الرؤية تجاه بعض الأزمات الإقليمية ومنها الأزمة السورية إذ ان القاهرة لا تمانع من بقاء بشار الأسد رئيسا لسوريا، وهو نهج مغاير لما تتبناه السياسة السعودية، التي لازالت تتمسك بالإطاحة بنظام الأسد. كما أن ثمة إدراكا مصريا بأن الجيش الحر ليس سوى جناح عسكري للإخوان المسلمين. فضلا عن أن القاهرة لم تتعامل بمنظور طائفي مع القضايا الإقليمية. وقد يستدعي ذلك نهج القاهرة في التعامل مع طهران مثلما فعلت الرياض مع أنقرة، خاصة في ملفات العراقوسوريا واليمن. كما أن المحتمل وجود حسابات للقاهرة بفتح قنوات حوار مع الحوثيين في اليمن، وربما عبر إيران وروسيا، لاسيما مع تصريحات بعض الصحفيين اليمنيين المحسوبين على جماعة الحوثيين وتأكيدهم عمق العلاقة بين الطرفين، وأن جماعة الحوثيين لا يمكن أن تهدد مصالح مصر من خلال مضيق باب المندب. وهنا، فإن الرياض تحتاج القاهرة في ساحات قتال لا يعرفها سواهما مثل اليمن، التي سوف تتحول إلى مركز استقطاب للجهاديين الأجانب الذين يغادرون ساحتي القتال الرئيسية في العراقوسوريا. علاوة على ذلك، فإن مصر لا تريد من السعودية الابتعاد عن تركيا أو غيرها بل قد يكون ذلك مدخلا (في حال تحقيق الضمانات المصرية) بخفض مستوى التوتر مع أنقرة وليس التحالف معها لأنها عملية مستحيلة في ظل الأوضاع الراهنة. كما أن ثمة إدراكا مصريا بأن الاعتماد على الدعم الخليجي لفترة طويلة ليس خيارا سليما، وليس كما قال الكاتب خالد الدخيل «مصر تريد دعما على شكل هبة أو منحة ملكية مفتوحة أو شيك على بياض»، فلا يمكن دولة «تبلغ سن الرشد» تدفع فواتير مجانية أو تستمر في مساعدتها للأبد وبنفس الوتيرة بدون «خذ» عقب «هات». ورغم هذا التباين، يمكن القول إنه تتعدد أسباب الشراكة الاستراتيجية بين مصر والسعودية، في المرحلة المقبلة، على النحو التالي: بديل الفوضى الحفاظ على بقاء الدولة الوطنية المركزية، إذ أن دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات يراودها التخوف من عواقب انهيار الدولة المصرية، وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسي في حوار مع سلمان الدوسري رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط بتاريخ 28 فبراير الماضي بقوله «سقوط مصر سقوط للمنطقة بأكملها ل 50 سنة على الأقل»، على نحو يتقاطع مع مقولة شهيرة للملك سعود «إن مصر إذا نكست رأسها، لا يمكن لأحد أن يرفع رأسه بعد ذلك». ففي حال انهيار الدولة المركزية الرئيسية في الإقليم، لا قدر الله، يسهل محاولات الخارج إسقاط الدول العربية الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يتعين إدراكه لاسيما بعد انسيابية التغيرات الدرامية الراهنة، والتي تصل إلى حد عدم اليقين في مسارها وعواقبها. فإذا كانت السعودية تتنافس مع القاهرة في ممارسة الأدوار الإقليمية، والتعاطي مع الملفات العربية الساخنة فيما يعرف في الأدبيات بأثر المكانة لكنها – أي السعودية- تخشى من الخيارات البديلة للكيانات النظامية للدولة، وهو ما عبرت عنه إحدى كلمات الراحل الملك عبد الله بن عبدالعزيز بعد 3 يوليو 2013 «لا تهاون في استقرار مصر، لأن في استقرارها استقرارا للإقليم». لذا، فإن خيار الانجراف نحو الفوضى في مصر، يعني تحولها إلى دولة فاشلة أخرى مثل ليبيا وسوريا. فضلا عن التخوف السعودي تحديدا من سقوط الدول الرئيسية مثلما حدث مع العراقوسوريا، بحيث لم يعد سوى القاهرةوالرياض. حدود الدم تصاعد تهديدات التنظيمات الجهادية والتنظيمات الإرهابية، التي تمس أمن الدول والمجتمعات في الإقليم إذ تقوم بها التنظيمات المسلحة والجماعات التكفيرية العابرة للحدود، وخاصة المتوغلة في المناطق المتاخمة لحدود دول الخليج وأبرزها تنظيم داعش.. فلا توجد دولة عربية بمنأى عن هذه التهديدات، حيث تشير التسجيلات الصوتية الأخيرة الصادرة عن أمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» أبوبكر البغدادي إلى إعلان التنظيم عن تمدده إلى بلاد أخرى مثل مصر واليمن والسعودية وليبيا والجزائر، على نحو يفرض القيام بخطوة استباقية وقائية تضمن محاصرة هذه التنظيمات والحد من أنشطتها بل والقضاء عليها. وتزداد أهمية الشراكة المصرية السعودية، في هذا السياق، لاسيما بعد مساس هذه التنظيمات بأمن بعض دول الإقليم واقترابها من حدود الدول الأخرى، وهو ما عبر عنه مسعود برزاني رئيس اقليم كردستان في بعض حواراته الصحفية بقوله «إن الحدود الجديدة ترسم بالدم في العراقوسوريا واليمن»، لاسيما بعد محاولة التنظيمات الجهادية إرسال إشارات متعددة الاتجاهات بأنها أقرب إلى «أشباه دول وأشباه جيوش». فضلا عن اتجاه التنظيمات المسلحة والجماعات التكفيرية في الإقليم للتحالف الجهادي فيما بينها من خلال «المبايعة»، وهو ما يفرض مواجهتها بأطر جماعية، لاسيما مع عدم إعلان واشنطن الدعم الكافي للحرب ضد التنظيمات الإرهابية. تمدد إيراني الاختلال في موازين القوى الإقليمية، وهو ما تشير إليه حالة إيران عبر أذرعها المتمثلة في الجماعات المسلحة المنتشرة في بقع جغرافية مختلفة، وأبرزها بعد سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن. وما يؤكد العلاقة الوثيقة بين طهرانوصنعاء، المقابلة التي بثتها وكالة أنباء فارس التابعة لفيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني في 27 يناير الماضي حينما أعلن عبدالمجيد الحوثي (ابن عم بدر الدين الحوثي زعيم حركة أنصار الله) «يتوقع أنصار الله أن تعمل جمهورية إيران الإسلامية وغيرها من البلدان على تقديم الدعم لهم وللشعب اليمني .. إن الثورة في اليمن مستوحاة من الثورة الإسلامية في إيران». على جانب آخر، أقر الرئيس الإيراني حسن روحاني في خطاب ألقاه بمناسبة ذكرى الثورة الإيرانية في 11 فبراير الماضي بتدخل إيران ضمنيا في شئون الدول العربية قائلا «إن بسط السلام والاستقرار واستئصال الإرهاب في الشرق الأوسط يمر عبر الجمهورية الإسلامية»، وأضاف «رأيتم أن الدولة التي ساعدت شعوب العراقوسوريا ولبنان واليمن لمواجهة المجموعات الإرهابية هي جمهورية إيران الإسلامية». غير أن توازن القوى بين الرياض من جانب وطهران من جانب آخر قد يكون مرحلة أولية للدخول في مرحلة جديدة قائمة على «اللاتوازن»، وهو ما تحتاجه الرياض من القاهرة وليس من تركيا فقط. محاور متوازية تتعدد أشكال الشراكة بين مصر والسعودية، في المرحلة الحالية، في آليتين: الآلية العسكرية، وتتخذ نمطين أحدهما جماعي، والتي تجسدها دعوة الرئيس السيسي لتشكيل قوة عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب، والتي تتم بين مصر والسعودية والإمارات والكويت والأردن، والتي تعتمد في قوامها على القوات العسكرية المصرية، وستكون لها قيادة مشتركة تضم ايضا رجال استخبارات، بحيث تضم قوات خاصة من الدول العربية مدعومة بقوة جوية من المقاتلات تحت مظلة الجامعة العربية حتى تكون لها شرعية، وتتلقى تدريبات مشتركة كل ثلاثة أشهر وتتواجد هذه القوات كل في بلادها، على أن يتم تجميعها في التدريبات على خطط سيتم وضعها لمواجهة التهديدات. والنمط الآخر ثنائي مثل إجراء مناورات وتكوين قوة عسكرية بحرية مشتركة، وهو ما تشير إليه المرحلة الرئيسية من المناورة «مرجان 15» بين مصر والسعودية، في فبراير الجاري، التي تشارك فيها العديد من القطع البحرية وعناصر القوات الخاصة وطائرات اكتشاف ومكافحة الغواصات، لتنفيذ العديد من الأنشطة التدريبية المشتركة لتأمين المياه الإقليمية والسيطرة على حركة الملاحة بالبحر الأحمر والسيطرة على مضيق باب المندب لاحتمال التدخل العسكري في اليمن إذا ما اقتضت الضرورة لاسيما في ظل توسع الحوثيين فى اليمن. الآلية الاقتصادية، عبر المشاركة السعودية والخليجية في مؤتمر شرم الشيخ الذي سوف ينعقد في منتصف مارس الجاري، وهو أحد الموضوعات الرئيسية التي تباحث فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي مع الملك سلمان حول الترتيبات النهائية للمؤتمر، لاسيما أن فكرة انعقاد مؤتمر اقتصادي بعنوان «شركاء التنمية» أو «أصدقاء مصر» كان أول من طرحها الملك عبدالله، لتكون إطارا بديلا عن المساعدات الخليجية لمصر. وهكذا، فإن دوام استمرار الشراكة الاستراتيجية بين القاهرةوالرياض، مرهون بإدراك متبادل لضرورة المصالح الوطنية الناتجة عن بقائه، بل يمثل ركيزة لبقاء النظام العربي ككل.