قال المركز الإقليمي للدارسات الإستراتيجية، إن تتأسس السياسة الخارجية للعديد من الدول العربية على فكرة القيادة السياسية، ولا تشكل المملكة السعودية استثناءً من هذه الفرضية، فعبر عقود مضت كان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز يتبنى سياسةً خارجيةً قائمةً على مرتكزات أيديولوجية وبراجماتية في آنٍ واحدٍ، لا سيما مع التحديات الخارجية التي واجهتها الرياض، وتمحورت في المقام الأول حول طموحات إيران النووية المصحوبة برغبة في تعظيم النفوذ، حتى ولو كان ذلك على حساب قوى إقليمية أخرى.
وأضاف تقرير صادر عن المركز، وبالإضافة إلى المأزق الإيراني، كان على النظام السعودي التعاطي مع التحولات التي شهدتها المنطقة عقب الثورات العربية، فضلا عن الخلافات التي باتت سمةً رئيسيةً من سمات العلاقات الأمريكية السعودية حينما عارضت الرياض المواقف الأمريكية من الثورات، والعلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين، والملف النووي الإيراني. وقد حرص الملك عبدالله على التكريس لدورٍ موازنٍ للمملكة في المنطقة، يتمترس بالأساس حول فكرة محور الاعتدال، ومع وفاة الملك عبدالله مؤخرًا، وانتقال السلطة إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز؛ أُثيرت تساؤلات مركزية حول السياسة الخارجية السعودية للحاكم الجديد، واحتمالات تباينها عن توجهات الملك الراحل، خاصةً أن الملك عبدالله ترك وراءه إرثًا ثقيلا من الأزمات الخارجية، والقضايا العالقة التي سيكون على الملك سلمان التعاطي معها. وهذه التساؤلات شغلت مساحة كبيرة من اهتمامات مراكز الفكر الغربية في محاولة منها لاستشراف مستقبل السياسة الخارجية السعودية.
يفترض ستيفن كوك في مقاله المنشور على الموقع الإلكتروني لمجلس العلاقات الخارجية(1)، أن انتقال السلطة في المملكة السعودية يأتي في سياق إقليمي محتدم بالأزمات والصراعات السياسية، تتمثل بشكل كبير في تنامي تهديد تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من التيارات الراديكالية بالمنطقة، واستمرار الحرب الأهلية في سوريا وانعكاساتها على دول الجوار، علاوة على الأزمة الراهنة في اليمن على خلفية التمرد الحوثي، وحالة عدم الاستقرار بمصر، وأزمة أسعار النفط التي أثرت سلبًا على الوضع الاقتصادي بالمملكة السعودية. ويقدم ريتشارد هاس رؤية مقاربة لتلك التي يطرحها كوك في مقاله بصحيفة "فايننشال تايمز"(2)، فالرياض تُواجه في الوقت الراهن معضلةً مستعصيةً في اليمن عبر سيطرة الحوثيين على العاصمة، واستقالة الرئيس اليمني، وهذه المعضلة تُثير قلق النظام السعودي؛ فهي من جهة تعني تنامي نفوذ طهران داخل اليمن المتاخمة لجنوب السعودية خاصة مع الدعم الذي تقدمه إيران لجماعة الحوثيين، ومن جهة أخرى فإن عدم الاستقرار في اليمن يعني إعطاء مزيدٍ من الزخم لتنظيم القاعدة المتواجد داخل اليمن، والذي يطمح إلى تنفيذ عمليات داخل المملكة السعودية. ولا يختلف الأمر كثيرًا داخل العراق، حيث لا تزل الحرب مستمرةً مع تنظيم الدولة الإسلامية في دولة بالأساس تُعاني من أزمة طائفية حادة بين السنة والشيعة، ناهيك عن استمرار الحرب الأهلية السورية التي اجترت معها مخزونًا طائفيًّا هائلا بالمنطقة، ويظل الطموح الإيراني مصدر التهديد الأكبر لصانع القرار السعودي الذي لا يُخفي قلقه من المشروع النووي الإيراني، وسعي إيران الحثيث لتوسيع دائرة نفوذها داخل المنطقة، في حالة تبدو كما لو كانت حصارًا للرياض. ويخلص هاس إلى أن المأزق الأكبر الذي سيتعين على الحاكم السعودي الجديد التعامل معه، هو مأزق تنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح يقدم نموذجًا مغايرًا لحركة جهادية تتمكن من تحقيق إنجازات فعلية على الأرض، أعلنت على إثرها إقامة الخلافة الإسلامية، ومن ثم قد يسعى التنظيم -بحسب هاس- إلى التمدد داخل المملكة السعودية بهدف بسط سيطرته على الأماكن المقدسة بمكة والمدينة، وذلك حتى تكتمل فكرة الخلافة الإسلامية. وقد يستغل التنظيم أيضًا أُطره الفكرية في استقطاب قطاعٍ من الشباب داخل السعودية، لا سيما أن البعض منهم قد يرى في التنظيم نموذج الدولة المنشودة. من جانبه، يتعرض توماس ليبمان -في مقاله على الموقع الإلكتروني لدورية المصلحة القومية(3)- للسياسة الخارجية التي تبناها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حيث كانت التوجهات الشخصية للملك عنصرًا جوهريًّا في عملية صنع القرارات، وللتدليل على ذلك يستدعي ليبمان نموذَجَيْ سورياوالعراق؛ فقد كان الملك عبدالله يرى ضرورة إسقاط النظام السوري، خاصة أنه لم يكن على توافق شخصي مع الرئيس السوري بشار الأسد، ناهيك عن التحالف السوري الإيراني الذي كان يثير حفيظة الرياض. وبالتوازي مع هذه الرؤية تجاه دمشق، كان الملك عبدالله يعتقد أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي (ذا الانتماء الشيعي) خدعه حينما تراجع عن تعهده له بتشكيل حكومة ائتلاف موسعة تصون حقوق المنتمين للطائفة السنية، ونتيجةً لذلك اختار الملك عبدالله الابتعاد عن العراق في وقت كانت تحتاج فيه بغداد للدعم السعودي، وبالتالي تراجع النفوذ السعودي هناك ليخلق فجوة كبيرة استغلتها طهران في تعزيز تواجدها، وهكذا يبدو الواقع معقدًا أمام الملك سلمان بن عبدالعزيز؛ فهو مُطالَب بالتعامل مع ملفات عالقة وتركة ثقيلة خلفها الملك عبدالله.
يُعوِّل الكثير من الباحثين الغربيين على فرضية الاستمرارية في السياسة الخارجية السعودية، وتتبع نفس النهج الذي كرّس له الملك السابق عبدالله. وفي هذا السياق، يتوقع جيمس فيليبس في مقاله المنشور على الموقع الإلكتروني لدورية المصلحة القومية(4)، أن يستمر الملك سلمان بن عبدالعزيز على نفس النهج الذي سار عليه الملك السابق عبدالله بن عبدالعزيز، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة؛ إذ إن عنصر المصلحة هو العنصر الحاكم للعلاقة بين الدولتين، وطالما أن هذه المصالح مستمرة لم تنتهِ مع غياب الملك عبدالله؛ فمن المرجح أن تستمر السياسة السعودية على المسار ذاته. تتشارك واشنطن مع الرياض في ضرورة استمرار المواجهة مع قوى توصف بأنها عدو مشترك أهمّها إيران وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، ويحتمل أيضًا أن تصبح القضية اليمنية موضع اهتمام مشترك بين الدولتين على خلفية الأزمة الأخيرة، وتعاظم دور جماعة الحوثيين، حيث إن تلك التطورات ستؤثر سلبًا على واشنطنوالرياض، سواء من خلال تزايد النفوذ الإيراني، أو عبر تعزيز تواجد تنظيم القاعدة في اليمن، ومنحه أريحية أكبر في تنفيذ هجمات بالسعودية ودول المنطقة. وعقب توليه السلطة، بعث الملك سلمان بن عبدالعزيز برسالة مفادها الإبقاء على السياسات التي تبناها الملك عبدالله. وتأسيسًا على هذا، يرى جون هادسون في مقاله المنشور على الموقع الإلكتروني لدورية السياسة الخارجية foreign policy(5)، أن العامل المرجّح لاحتمالية استمرار السياسة الخارجية السعودية على نفس النهج دون إحداث تغيرات جذرية، يتمثل فيمن يتولون مقاليد الحكم في المملكة السعودية وعائلة آل سعود بوجه عام، حيث يمتلك أفرادها نفس الأطر الفكرية (وإن وجدت تباينات فهي تظل طفيفة لا تؤثر على التوجه العام)، والرؤى تجاه العالم الخارجي، ووضع المملكة السعودية في هذا العالم. واتساقًا مع طرح هادسون، يذكر فريدريك وِيري في مقاله على الموقع الإلكتروني لمركز كارنيجي(6)، أن السنوات الأخيرة من حكم الملك عبدالله بن عبدالعزيز شهدت تراجعًا في قدرته على الاضطلاع الكامل بمسؤوليات الحكم، وهكذا كان الملك سلمان بن عبدالعزيز (كان ولي العهد حينها)، والأمير مقرن بن عبدالعزيز (ولي العهد الحال)، على اطلاع تامٍّ بالسياسة الخارجية للدولة، وبالتالي قد يُشكل هذا الانخراط والاحتكاك المستمر بديناميات صنع القرار، ضمانةً لعدم حدوث تغيرات جوهرية في السياسة الخارجية السعودية. ويضيف وِيري أن إبقاء الملك سلمان على عددٍ من المسؤولين في مواقعهم، يعني أنه لا يرغب في إحداث تغيرات كبيرة في ملامح السياسة الخارجية وآلية التعاطي مع الملفات المطروحة. ويأتي في مقدمة هذه الملفات، الملف السوري الذي يظل تحت إشراف الأمير محمد بن نايف، والملف المصري الذي يخضع لإشراف الأمير بندر بن سلطان، بالإضافة إلى السياسة النفطية التي تخضع بشكل كبير لتحكم التكنوقراط برئاسة وزير البترول والثروة المعدنية على النعيمي، وهذه المعطيات تؤدي في نهاية المطاف إلى سياسة خارجية سعودية شبه ثابتة لا تراوح المحددات التي وضعها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.